وقال: "لا تصلح الأدوات الواقعيّة لتمثيل الواقع مثل أحياء المدينة وأزقّتها وأفكار اللامعقول: إنه اغتراب...". لكن، يتميّز هو أولا وأخيرا بلجوئه إلى استعارات مشهورة رافقتها رموز ومجازات، أي إسقاطات.
فهو انطلق في الكثير من قصصه بجرأة اختراقه تابوهات ثلاثة في المجتمعات العربيّة، هي السياسة والدين والجنس، في عالم يتّصف بالطغيان والفساد والاغتراب، لتواجه شخصياته التاريخية والأسطورية العديد من الإجراءات والأحوال القمعيّة التي تتفرّع من بعض الدول وقضاتها وجلّاديها وشرطتها وسجونها، وقال: "العنف المتكرّر في نصوصي ليس مستوردا، ولا عقدة نفسيّة، أو نوعا من الهيجان، بل هو مجرّد تعبير عن وقائع حياتنا اليومية: نحن نعيش في عالم متوحّش وإجرامي يأسرنا ويفرض علينا الصمت ويجرفنا حتى نتحوّل رمادا ثم يُتوّجنا بالهزائم المدوّية".
عالم الحكايات
السؤال: هل تأثّر بـ"كليلة ودمنة"، الذي اعتبر مؤلفه عبد الله بن المقفّع، لكن الحقيقة أنه هو ترجمه، فأصل الكتاب للفيلسوف الهندي بيدبا وقد ألّفه للملك الهندي دبشليم، وقال الإمام الذهبي في السِّيَر إنه من ترجمة ابن المقفّع. لكنه كتاب يعبّر عن ضرورة السعي إلى تحصيل العلم الذي ينفع المرء منه والمحيطين به... إنه كتاب نصائح للملك وللرعيّة.
من هنا، فإن حكايات زكريّا تامر تختلف عن "كليلة ودمنة" اختلافا جذريّا، فهو لا ينصح أحدا لا الحكّام ولا الناس. بل يستغل الحكايات والأساطير للنقد والسخرية. فهو ليس من محمولات القصور بل من محمولات التاريخ والقصص والمتخيلات. والواقع، يلتئم مع الحكايات، للسخرية المدمّرة، الصاخبة والمعيشة، بأسلوب الأساطير الدينيّة، والسياسيّة. يضحك، لكي يدعو إلى تجاوز واقعه الأليم. حكاياته معروفة جيدا في العالم العربي وتظهر فيها رموز تاريخيّة مثل شهريار وشهرزاد، والسندباد البحري وجحا المضحك وهولاكو.
لكن تامر لم يهتمّ بالنزعة التاريخية أو بإعادة تركيب متخيل للشخصيات، ولهذا فالتاريخ عنده كما عند بعض الذين تماهوا بالأساطير والأساليب المكرّسة، كجمال الغيطاني، وسالم بن حميش وسواهما. فقصصه تستهدف الخطأ في المجتمعات المعاصرة وليس العربيّة فقط. فليس هناك أسلوب مقتبس من الماضي، كالبلاغة والسرديّة عنده، إذ أن الكتابة أبسط من كل ما ساد من كتابات، لكنه أَجرح، وأعنف، وأخطر. فهو لا يتوجّه إلى القارئ لكي يقدّم له هدفا في كتابات الحداثة المقنّعة بالقديم، بل إنه اعتمد السخرية بكلّ مواصفاتها، الخفيفة الضاحكة، والحقائق المعيشة. ووجدنا في خلفية سهولته، ومن خلاله "مرويّاته" نوعا من العبثيّة التي توحي نوعا من الشعور بعدميّة كلّ كتابة سواء المقنّعة بالأسطورة، أو بالأيديولوجيا، أو بالمعنى الكامن وراء النص. إنها عبثيّة مقنّعة خاصّة به، بعيدة عن عبثيّة ألبر كامو (الفلسفية)، وحتى سارتر في بداياته من خلال روايته الشهيرة "الغثيان".
ترميز مقلوب
لهذا، فإنّه عندما يستخدم التراث المتخيّل، العربي وغير العربي، الواقعي وغير الواقعي، التاريخي وغير التاريخي، فإنّه يروّضه كمادة انطلاق، لكن يعمل على تغيير مقاماته، ليتجاوز تلك المعطيات الأولى.
فهو يختار شخصيات (معروفة أو غير معروفة) ويفصلها عن تاريخها، فلا نعرف عنها شيئا، كأنّما تتحوّل على مدار قصصه، شخصيات عمومية، أو ترميزا مقلوبا. فلا مقدّمات يدبجها، فهي سائبة نستشفّ منها ملامح الشعب العربي ومآسيه وأزماته إزاء سلطات، فلا نجد فيها سوى ما يكمن وراءها، بل يجد القارئ حياته الخاصة بمعنى آخر لا قوائم تحليليّة، وإنّما الطريقة غير المباشرة في السرد. بل إن قصّه الفنّي يقدّم الشخصيّة كمرتكز أساسي بعد إسقاط الحادثة عن محور القصة. وهذه الظاهرة من سمات التجديد الفني الذي يميّزه عن سائر القصّاصين العرب في فترة السبعينات.
وقد سلّط الضوء في بعض أعماله مثل "صهيل الجواد الأبيض" و"ربيع الرماد"، على الفرد المسحوق في المعالم التائهة، بلا هويّة ولا اسم، كما تنعكس القضايا السياسية لبلده سوريا، لكنّه يتنوّع في المسارات والحالات، وأول ما يوحي به للمتلقي، وهنا تميّزه، التوتّر والشدّة في عالم يتّصف بالطغيان والفساد، تساعده لغته الشعريّة المكثّفة على بساطتها الظاهرية، فهو شاعر القصّاصين، وقصّاص الشعراء.