يتحرّك لاعبو كرة القدم على المستطيل الأخضر، وسط مدرجات تغص بآلاف المشجّعين، وهتافاتهم الصاخبة، وأمام أنظار ملايين المشاهدين حول العالم، في منازلهم وفي المقاهي والساحات العامة، يتحرّكون غالبا بدقّة ورباطة جأش يحسدون عليها. الكرة التي تنتقل عشرات الأمتار من قدم لاعب، لتحط بين قدمي لاعب آخر، ليست كناية عن مهارة فردية فحسب، بل هي تراكم هائل للعقل الحسابي لكرة القدم، كذلك الأمر في الكثير من التسديدات التي تنتهي أو تقارب الانتهاء بهدف. هناك سمة تكاد تكون غير بشرية، ليس في الجانب المهاريّ الفنيّ فحسب، بل في المجهود الجسدي الرهيب، حيث قد يستغرق اللعب بالنسبة إلى بعض اللاعبين، مثلما نشهد في مرحلة الإقصاءات خلال بطولة أمم أوروبا يورو 2024، أكثر من ساعتين. لقب "الماكينات" الذي يطلق حصرا على اللاعبين الألمان، يبدو أنه صار معمّما في لعبة لم تعد منذ زمن ليس بقصير تنتسب إلى اللعب فحسب، وذلك بسبب الاستثمارات الهائلة التي تتضمنها، والحمولات الثقافية والسياسية والقومية المباشرة وغير المباشرة التي تدور في نطاقها.
الصعود التركي
كنت في هامبورغ الألمانية، خلال المباراة التي جمعت المنتخب التركي بالمنتخب النمساوي، وفوجئت بحجم انتشار الشرطة في شوارع المدينة. ضمن نطاق نظري، في شارع واحد، تسنّت لي رؤية خمس مجموعات على الأقلّ من رجال الشرطة، كلّ منها يضمّ ستة شرطيين (رجالا ونساء) ينتشرون في حلقات تتيح لهم مراقبة بانورامية لحركة الناس من حولهم. السبب مثلما فهمت من أصدقاء ألمان، هو الخشية من أعمال شغب، بصرف النظر عن نتيجة المباراة. انتهت المباراة بفوز تركيا، فإذا بالشوارع تغصّ بعشرات آلاف الشباب من الجنسين من الجالية التركية، ممن كانوا يهتفون "تركيا تركيا" رافعين أعلام تركيا وصور مؤسس القومية التركية الحديثة كمال أتاتورك. مشهد لا بدّ أن يستفزّ الألماني العادي، ناهيك عن الألماني المتطرف.
في اليوم نفسه الذي شهد المنازلة الكروية بين تركيا وهولندا، والتي انتهت بإقصاء الأولى (كان لا بدّ للرئيس التركي رجب طيب أردوغان من حضور المباراة، فهو يعرف وزن ذلك في الحسابات السياسية الشعبية)، شهدت شوارع برلين تظاهرة لأتراك تلوح على معظمهم، بحسب مقاطع الفيديو التي انتشرت، علامات القوة والشباب، فهم في الغالب من مشجعي كرة القدم، أو من القوميين المتطرفين الذين يعتنون جيدا بكمال أجسادهم، تعبيرا عن التفوق ربما، واستعدادا في الآن نفسه، لمعارك صغيرة أو كبيرة يرونها مقبلة. المفارقة أن أولئك، وهم أبناء مهاجرين، كانوا يتظاهرون ضدّ اللاجئين (السوريين غالبا) وذلك بالتزامن مع أحداث عنف عنصرية تصاعدت في تركيا منذ مدّة ضدّ اللاجئين السوريين، حتى وصلت ذروتها خلال أيام البطولة الكروية.