"يورو24" وتجليات النزعات القومية... عودة أوروبا القديمة؟

كرة القدم في ميزان السياسة والصراعات الدولية

AFP
AFP
مشجعو منتخب اسبانيا يحتفلون على المدرجات في نهاية مباراة ربع نهائي بطولة أمم أوروبا 2024 لكرة القدم بين إسبانيا وألمانيا، 5 يوليو 2024

"يورو24" وتجليات النزعات القومية... عودة أوروبا القديمة؟

يتحرّك لاعبو كرة القدم على المستطيل الأخضر، وسط مدرجات تغص بآلاف المشجّعين، وهتافاتهم الصاخبة، وأمام أنظار ملايين المشاهدين حول العالم، في منازلهم وفي المقاهي والساحات العامة، يتحرّكون غالبا بدقّة ورباطة جأش يحسدون عليها. الكرة التي تنتقل عشرات الأمتار من قدم لاعب، لتحط بين قدمي لاعب آخر، ليست كناية عن مهارة فردية فحسب، بل هي تراكم هائل للعقل الحسابي لكرة القدم، كذلك الأمر في الكثير من التسديدات التي تنتهي أو تقارب الانتهاء بهدف. هناك سمة تكاد تكون غير بشرية، ليس في الجانب المهاريّ الفنيّ فحسب، بل في المجهود الجسدي الرهيب، حيث قد يستغرق اللعب بالنسبة إلى بعض اللاعبين، مثلما نشهد في مرحلة الإقصاءات خلال بطولة أمم أوروبا يورو 2024، أكثر من ساعتين. لقب "الماكينات" الذي يطلق حصرا على اللاعبين الألمان، يبدو أنه صار معمّما في لعبة لم تعد منذ زمن ليس بقصير تنتسب إلى اللعب فحسب، وذلك بسبب الاستثمارات الهائلة التي تتضمنها، والحمولات الثقافية والسياسية والقومية المباشرة وغير المباشرة التي تدور في نطاقها.

الصعود التركي

كنت في هامبورغ الألمانية، خلال المباراة التي جمعت المنتخب التركي بالمنتخب النمساوي، وفوجئت بحجم انتشار الشرطة في شوارع المدينة. ضمن نطاق نظري، في شارع واحد، تسنّت لي رؤية خمس مجموعات على الأقلّ من رجال الشرطة، كلّ منها يضمّ ستة شرطيين (رجالا ونساء) ينتشرون في حلقات تتيح لهم مراقبة بانورامية لحركة الناس من حولهم. السبب مثلما فهمت من أصدقاء ألمان، هو الخشية من أعمال شغب، بصرف النظر عن نتيجة المباراة. انتهت المباراة بفوز تركيا، فإذا بالشوارع تغصّ بعشرات آلاف الشباب من الجنسين من الجالية التركية، ممن كانوا يهتفون "تركيا تركيا" رافعين أعلام تركيا وصور مؤسس القومية التركية الحديثة كمال أتاتورك. مشهد لا بدّ أن يستفزّ الألماني العادي، ناهيك عن الألماني المتطرف.

في اليوم نفسه الذي شهد المنازلة الكروية بين تركيا وهولندا، والتي انتهت بإقصاء الأولى (كان لا بدّ للرئيس التركي رجب طيب أردوغان من حضور المباراة، فهو يعرف وزن ذلك في الحسابات السياسية الشعبية)، شهدت شوارع برلين تظاهرة لأتراك تلوح على معظمهم، بحسب مقاطع الفيديو التي انتشرت، علامات القوة والشباب، فهم في الغالب من مشجعي كرة القدم، أو من القوميين المتطرفين الذين يعتنون جيدا بكمال أجسادهم، تعبيرا عن التفوق ربما، واستعدادا في الآن نفسه، لمعارك صغيرة أو كبيرة يرونها مقبلة. المفارقة أن أولئك، وهم أبناء مهاجرين، كانوا يتظاهرون ضدّ اللاجئين (السوريين غالبا) وذلك بالتزامن مع أحداث عنف عنصرية تصاعدت في تركيا منذ مدّة ضدّ اللاجئين السوريين، حتى وصلت ذروتها خلال أيام البطولة الكروية.

الحدث الأشدّ وقعا ربما كان الإشارة الفاشية التي رفعها اللاعب التركي دميرال بعد تسجيله هدفا في مرمى النمسا

الحدث الأشدّ وقعا ربما كان الإشارة الفاشية التي رفعها اللاعب التركي دميرال بعد تسجيله هدفا في مرمى النمسا، والتي ترمز إلى حركة "الذئاب الرمادية" التي لم تترك فرعا أو نمطا من فروع العنصرية والعرقية والتفوق القومي، لم تضمّنها في خطابتها. كان دميرال يعرف جيدا أن هذه الحركة ستستقبل استقبالا حسنا ممن يماثلونه في التفكير، ليس من الأتراك فحسب، بل من مختلف بقاع أوروبا، في زمن يشهد عودة محمومة لأقصى اليمين إلى السلطة ويشهد زخما شعبيا غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، مثلما أكّّدت حالة فرنسا على الأقلّ. أما الرئيس التركي الذي شهد حزبه "الإسلامي" النزعة، تقاربا متزايدا مع "الذئاب الرمادية" فقد برّر حركة النجم التركي بأنها من قبيل الحماسة لا أكثر. كان هو الآخر يعرف تماما معنى هذه الحركة، مثلما كان النجم الألماني التركي مسعود أوزيل يعرف جيدا ما يقوم به وهو ينضمّ إلى أردوغان وعقيلته على مدرجات الملعب خلال مباراة تركيا - هولندا، ولست متأكدا إن كان حضر مباريات ألمانيا، إلا أنه على الأقل لم تنتشر له صور توحي بذلك.

EPA
مشجعو المنتخب التركي خلال مباراة ربع نهائي كأس أمم أوروبا

هكذا، فإن كلّ النزعة الآلية التي يفترض أن تسبغ على اللاعبين، وكل اللوائح التنظيمية والمحظورات المفروضة عليهم من قبل الاتحادات الدولية، لم تنجح في حجب حقيقة بسيطة، وهي أن كرة القدم هي بالفعل مرآة لما يعتمل في المجتمع، سلبا أم إيجابا، في الزمن الحقيقيّ له، ومن المستحيل عزل اللاعبين عن فيض الأفكار والمشاعر والنزعات المحيطة بهم. فهم في نهاية المطاف أبناء مجتمعاتهم، وغالبا ما يكونون منتمين إلى الطبقات الفقيرة والمتوسطة فيها، وفي حالة أوروبا، فإن كثيرا منهم هم من أبناء أو أحفاد المهاجرين الذين ما زالوا يعيشون حائرين بين انتمائهم الأوّل، والمجتمعات الجديدة التي يفترض أن ينتموا إليها ويندمجوا فيها. مرآة المجتمع، لا تعني في أوروبا تحديدا، وربما في اقتصاد الكرة برمته حول العالم، أن اللاعبين هم أبناء الشعب، مثلما كنا نحبّ أن نظنّ، وإن جاؤوا منه. الرياضيون اليوم، وفي مقدمهم لاعبو كرة القدم، هم فرع من فروع النخب الجديدة والنوادي الحصرية، إنهم أصحاب الثروات الطائلة، وأنماط العيش المحظورة على البشر العاديين. في الملعب فقط، وهم يجرون ويعرقون ويسقطون ويصابون ويبكون ويفرحون ويصرخون إلخ، يصبحون قريبين من الجماهير التي تتفرج عليهم، أما خارج الملعب فهم كائنات أخرى.

الرياضيون اليوم، وفي مقدمهم لاعبو كرة القدم، هم فرع من فروع النخب الجديدة والنوادي الحصرية

في العودة إلى برشلونة، حيث أقيم، جمعني لقاء بصديق كاتالاني قبل ساعات من المباراة بين إسبانيا وألمانيا، التي انتهت بإقصاء الثانية. سألته ممازحا: "هل تشجّع إسبانيا أم ألمانيا؟"، ففوجئت بجوابه: "للصراحة لم أعد أشجّع المنتخبات، بل أشجّع الأندية، ولا سيما برشلونة". كان عليّ أن ألحّ في السؤال: "لكن في هذه البطولة هل تشجّع إسبانيا؟"، فأجاب أيضا جوابا غير مباشر: "بدأت بمتابعة البطولة الآن، لأنها مرحلة الإقصاءات، وهي الأكثر حماسة، أشجّع اللعب الجميل". اتضحت لي أكثر الصورة التي كنت أعرفها، وهي أن أبناء كاتالونيا لا يشجّعون بالضرورة المنتخب الإسباني الوطني. لا أعرف إن كان الأمر يصل إلى حدّ تشجيع المنتخب المنافس، لكنهم بالتأكيد لا يبدون الحماسة نفسها تجاه المنتخب، كتلك التي يبدونها تجاه فريق برشلونة، وفي الحيّ الذي أقيم فيه، وهو كاتالاني بالكامل، فوجئت كلّ مرة بالصمت الهائل المحيط بي في كلّ مرة كان المنتخب الإسباني يحقق هدفا أو ينجز انتصارا. قلت للصديق الإسباني/ الكاتالاني: "يبدو أنني الوحيد الذي يشجع منتخب إسبانيا في هذه المنطقة"، فضحك ورويت له المشاهد التي عدت بها من هامبورغ، فقال: "هل تعرف أن في فرنسا جالية برتغالية كبيرة... من سيشجعون في رأيك إن حصلت مواجهة بين البرتغال وفرنسا؟".

"هايد بارك" كونية

بالنسبة إليّ، ومثلي كثر ممن يصعب عليهم الفصل فعلا بين كرة القدم والسياسة، فإن كرة القدم هي بالفعل بمثابة ساحة، أو "هايد بارك" كونية. بالطبع، ليست فضاء لمناقشة الأفكار بالمعنى الديمقراطي التقليدي للكلمة، لكنها قطعا مكان تتكثّف فيه وتتمرأى النزعات والميول الشعبوية والقومية، بل ويمكن أن يكون أحد المؤشرات إلى صعود دولة ما أو أزماتها أو فوضاها أو ارتباكاتها. من هذا القبيل أنني أؤيّد في هذه البطولة إسبانيا، لا لأنني أقيم فيها، ولا لأنني منغمس في تقنيات اللعبة و"مدارسها"، ولكن لأنها ببساطة اعترفت بالدولة الفلسطينية وانضمّت إلى المحكمة الدولية ضدّ إسرائيل. وجدت نفسي أؤيد تلقائيا أيضا سلوفينيا، للأسباب عينها، ونظرت بعين متشككة إلى دول أخرى مثل تشيكيا وكرواتيا وصربيا وجورجيا وبولندا وسلوفاكيا ورومانيا وهنغاريا وألبانيا، ووجدت نفسي في أحيان كثيرة، قبل متابعة مباراة معينة، أبحث عبر "غوغل" عن موقف البلد الذي يمثّله المنتخب من حرب غزة. باختصار، لا يمكن مشاهدة كرة القدم بتجرّد تام أو بمعايير محض فنية وكروية. فالانحياز كان ولا يزال جزءا من تكوين اللعبة الأكثر جماهيرية في العالم. ربما لا يصل الأمر دائما إلى اعتبار الطبيعة جزءا من السجال الأيديولوجي ومن الانحياز السياسي، مثلما فعل معلّق عربي، عندما أمطرت بغزارة خلال مباراة ألمانيا والدنمارك، معتبرا أن المطر عقاب إلهي على ألمانيا بسبب مواقفها السياسية، لكنّ هذا الانحياز لا يمكن إنكاره.

AFP
جماهير النمسا خلال تشجيعهم منتخب بلادهم في الدور الـ16 من بطولة أمم أوروبا 2024

في البلد المضيف للبطولة الأوروبية، ألمانيا، كان لافتا موقف حزب "البديل" اليميني المتطرف، الذي أعرب عن انزعاجه من اللاعبين غير الألمان في صفوف المنتخب. بالطبع، جميعهم من الألمان، لكن كونهم من أصول غير ألمانية، ومن غير ذوي البشرة البيضاء، كافيا ليجعل منهم بالنسبة إلى هذا الحزب، "أغيارا". هذا الصعود اليميني شعبيا، وصعود الخطاب السياسي الشعبوي، الذي ترجم بوضوح في انتخابات البرلمان الأوروبي، التي جرت أيضا خلال فترة البطولة الكروية، والتي حقق فيها أقصى اليمين انتصارات واضحة، عبّرت عنه زعيمة "التجمع الوطني" الفرنسية مارين لوبان، في ردّها على نجم المنتخب الفرنسي كيليان مبابي، ودعوته الشباب إلى مواجهة أقصى اليمين في الانتخابات التشريعية، بالقول: "الشعب الفرنسي سئم تلقي العظات حول التصويت في الانتخابات... مبابي لا يمثّل الشعب الفرنسي ذا الخلفية المهاجرة، لأن السواد الأعظم منهم يعيش في الحدّ الأدنى ولا يستطيع توفير السكن والتدفئة، على غرار أشخاص مثل مبابي" وهذا صحيح، فالكلمة اليوم هي لأقصى اليمين، وإذا أردنا دقة أكبر لقلنا إنها للنزعات القوميّة القصوى، وهذا أيضا ما لا يختلف بالنسبة إليّ في الانتخابات البريطانية، التي أعادت "شكليا" اليسار إلى السلطة، لكنّ هذه مسألة أخرى.

أوروبا في بطولة الأمم، هي أوروبا التي نعرفها منذ زمن بعيد، لكنها أيضا التي نتعرّف الى تحوّلاتها الحالية

أوروبا في بطولة الأمم، هي أوروبا التي نعرفها منذ زمن بعيد، لكنها أيضا التي نتعرّف الى تحوّلاتها الحالية، تلك التحوّلات التي تعيدها إلى أزمنة كنا نظنّ أنها انتهت، وقد لخّص أحد الظرفاء على "إكس" ذلك بالتعليق: "إسبانيا في مواجهة فرنسا، وهولندا في مواجهة إنكلترا... تماما حال أوروبا في القرن التاسع عشر".

REUTERS
رئيس تركيا رجب طيب أردوغان وزوجته أمينة أردوغان وعائلتهما خلال حضورهم المباراة التي جمعت المنتخب التركي والمنتخب الهولندي

مع استمرار المذبحة في غزة للشهر العاشر على التوالي، وعجز دول العالم ومؤسساته ومنظماته وموروثه الأخلاقي والإنساني، عن وقفها، لا نبالغ إن قلنا إن العالم برمته، وليس العالم العربي ولا أوروبا فحسب، لا تزال تعيش في ظلال القرن التاسع عشر، حتى وإن حاولت أقدام اللاعبين الانتماء إلى منطق القرن الحادي والعشرين.

font change

مقالات ذات صلة