"مشروع 2025" والسعي لتحويل قيم اليمين الأميركي إلى معايير عالمية

التوقعات تشير إلى أنه سيترك آثارا كبيرة على سياسات الإدارة الجمهورية في حال فوزها

أ ف ب
أ ف ب
الرئيس السابق ومرشح الحزب الجمهوري دونالد ترمب اثناء لقاء انتخابي في ولاية فرجينيا في 28 يونيو

"مشروع 2025" والسعي لتحويل قيم اليمين الأميركي إلى معايير عالمية

"لا يكفي للمحافظين أن يفوزوا بالانتخابات. إذا كنا نريد أن ننقذ البلد من قبضة اليسار المتطرف، فنحتاج إلى أجندة حكم وأشخاص مناسبين في الأماكن المناسبة، أشخاص مستعدين لتنفيذ هذه الأجندة، منذ اليوم الأول لتولي إدارة محافظة مقبلة لزمام الأمور في البيت الأبيض".

تختصر هذه الكلمات الواردة في "مشروع 2025" الذي نشرته مؤخرا "مؤسسة هيرتج" الأميركية (Heritage Foundation)، المعروفة بتوجهها الأيديولوجي شديد المُحافظة، الهدفَ الأساسي المُقتَرَح للمرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترمب، في حالة فوزه في انتخابات نوفمبر المقبل. يتضمن المشروع، واسمه الكامل "مشروع الانتقال الرئاسي 2025" مقترحات تفصيلية، بخصوص إعادة هيكلة عميقة للحكومة الاتحادية وتبني سياسات جديدة، يمينية الطابع، شاركت في كتابتها عشرات المؤسسات البحثية والشخصيات العامة المحافظة على مدى أكثر من 900 صفحة، ومن بينهم مسؤولون سابقون في إدارة ترمب.

ورغم أن كتابة مؤسسات بحثية تُعنى بالسياسات العامة مقترحات لمرشحين رئاسيين أمر معتاد، فإن ثمة ميزات لافتة في "مشروع 2025" تَفصله عن سواه من المقترحات المقدمة سابقا وفي سياقات مختلفة.

الميزة الأولى هي الطبيعة الضخمة والشاملة لهذا المشروع، فهو يمثل خريطة طريق متكاملة تقريبا تعيد صياغة الولايات المتحدة كدولة من الداخل على نحو جذري غير مسبوق من "أجل هزيمة اليسار المناهض لأميركا في الداخل والخارج"، بين أهداف أخرى لا تقل راديكالية.

الميزة الثانية هي الصلة الوثيقة بين إدارة ترمب و"مؤسسة هيرتج" أيديولوجياً وإدارياً، إذ عمل نحو 70 موظفا في المؤسسة في إدارة ترمب السابقة. الأهم من هذا أن إدارة ترمب تبنت ونفذت نحو ثلثي الاقتراحات التي قدمتها المؤسسة لها بين عامي 2016 و2017 مثل انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان وانسحاب أميركا من الاتفاق النووي مع إيران واتباع سياسة الضغط الأقصى ضد "الجمهورية الإسلامية" والخروج من اتفاق باريس للمناخ ومن منظمة "اليونسكو"، وزيادة الإنفاق العسكري والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وتشريع خفض ضريبي كبير للشريحة الأغنى من الأميركيين وإنهاء الحماية الفيدرالية لحق النساء في الإجهاض، وزيادة متطلبات العمل للعوائل الفقيرة التي تتلقى مساعدات حكومية، والسماح بالتنقيب عن الموارد الطبيعية كالنفط والغاز في المناطق البحرية التي تعود ملكيتها للحكومة الاتحادية وغيرها كثير.

رغم أن كتابة مؤسسات بحثية تعنى بالسياسات العامة مقترحات لمرشحين رئاسيين أمر معتاد، فإن ثمة ميزات لافتة في "مشروع 2025" تَفصله عن سواه من المقترحات المقدمة سابقا

ليس واضحا إذا كانت حملة ترمب الانتخابية ستتبنى "مشروع 2025" كاملا أو جزئيا، إذ لم يعلن الرئيس السابق إلى الآن برنامجه الانتخابي بشكل رسمي رغم الإشارات المختلفة بالاستمرار في بعض السياسات السابقة التي اقترحتها "مؤسسة هيرتج" في رئاسته الأولى. بغض النظر إذا نجح هذا المشروع في أن يتحول إلى سياسات رسمية في إدارة جمهورية مقبلة أم لا (منذ العام 1981 تنتج "مؤسسة هيرتج" حزمة مقترحات للإدارات والحملات الرئاسية الجمهورية في سياق متصل وتراكمي)، فلهذا المشروع أهميته الخاصة المرتبطة بفهم طريقة تفكير التيارات المحافظة في الولايات المتحدة، خصوصا في سياق الحزب الجمهوري الذي يزداد ذهابا نحو اليمين المتشدد في محافظته في ظل هيمنة ترمب المتصاعدة عليه. 

اي بي ايه
مؤيدون للمرشح الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب يعترضون لقاء انتخابي لحاكم فرجينيا غافين نيوسوم مؤيد للرئيس جو بايدن في بلدة دويلستوم من ولاية بنسلفانيا في 6 يوليو

جريا على عادة الفهم المحافظ، الذي يتصدره الجمهوريون تاريخيا منذ  رئاسة توماس جيفرسون في بداية القرن التاسع عشر، والذي يرتاب تاريخيا في الحكومة الاتحادية ويتبني المحلية والمناطقية من خلال تحجيم الأولى ونقل الكثير من صلاحياتها إلى الولايات، يدعو المشروع إلى إلغاء مؤسسات فيدرالية كثيرة، كوزارات التعليم والأمن الوطني والطاقة والتجارة والزراعة والداخلية من خلال دمج بعضها بوزارات أخرى وإنهاء وجود بعضها الآخر.

في هذا السياق، يحاجج المشروع بضرورة دمج وزارة الخارجية بالوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وربط تقديم المساعدات الخارجية الأميركية على نحو مباشر بحاجات الأمن القومي الأميركي، بدلا من تقديمها، كما يجري الآن عموما، على أساس تقييم حاجة المجتمعات المحلية لها في الدول التي تتلقاها. في هذا السياق أيضا، يقترح المشروع تبنيا صريحا للقيم الدينية في السياسة الخارجية من خلال دعم الحرية الدينية في "مشروع 2025" والسعي لتحويل قيم اليمين الأميركي إلى العالم، والتأكيد على أهمية الدين في صيانة الكرامة الإنسانية واستقرار المجتمعات، فضلا عن دعم المؤسسات الدينية للتعاطي مع التحديات العالمية كالفقر والتشجيع على الحوار بين الأديان وترويج  القيم الأميركية ودور الدين فيها.

يستبدل هذا التبني المؤسساتي للدين التركيزَ التقليدي لكل الإدارات الأميركية تقريبا على حقوق الإنسان، ومن ضمنها حرية التعبير، كقيم كونية مجردة وبوصفها نتاجا للقانون الدولي. 

يذهب المشروع إلى أبعد من اقتراح أفكار وإعادة هيكلة مؤسسات إلى تبني "إصلاحين" يعتبران الأشد راديكالية والأكثر إثارةً للقلق، حتى بين المعتدلين في الأوساط الجمهورية والمحافظة. الأول هو طرد عشرات الآلاف من الموظفين الاتحاديين الحاليين واستبدالهم بآخرين ممن يؤمنون بالرؤية التي يتبناها المشروع لضمان تنفيذها بشكل صحيح ودقيق وعدم "تخريبها" من الداخل. حتى من دون التصريح بها، يفترض هذا الاقتراح وجود "الدولة العميقة" وهذا واحد من الاتهامات المتكررة التي يستخدمها ترمب ضد خصومه، وتلقى رواجا كبيرا بين جمهوره، وخلاصتها أن هناك تحالفا من ليبراليين متشددين وموظفين بيروقراطيين (career officials) يمثلون القوة الحقيقية في الدولة ويمنعون "الإصلاح" فيها ويعيقون تنفيذ سياساته ويتآمرون ضده لإفشاله وإنهاء مستقبله السياسي وذلك حفاظا على "مصالحهم الضيقة" على حساب المصلحة العامة.

استخدم الرجل هذا الاتهام مرات عدة لتفسير القضايا المرفوعة ضده في المحاكم. ويثير استبدال الموظفين الحاليين بآخرين موالين مشاكل قانونية ودستورية تتعلق بالمعاملة المتساوية وعدم وجود سلطة للرئيس لطردهم واستبدالهم بغيرهم، خصوصا في ظل الحمايات المؤسساتية والقانونية التي يتمتعون بها بموجب الأنظمة والقوانين الحالية.

 يدعو المشروع إلى إلغاء مؤسسات فيدرالية كثيرة، كوزارات التعليم والأمن الوطني والطاقة والتجارة والزراعة والداخلية من خلال دمج بعضها بوزارات أخرى وإنهاء وجود بعضها الآخر

يقود الأمر إلى نقطة إشكالية أخرى ومثيرة للقلق يرد ذكرها في المشروع في سياقات مختلفة تُسمى تقليديا في الولايات المتحدة "نظرية السلطة التنفيذية الموحدة" التي تطالب بضرورة وجود رئاسة قوية تتركز فيها كل السلطة التنفيذية ويديرها الرئيس المنتخب بحرية في ضوء أجندته التي انتخب على أساسها. وبالتالي فإن الرئيس مسؤول، بالدرجة الأولى، أمام الشعب الذي انتخبه وليس الكونغرس. تقوم هذه النظرية، التي يمكن تتبع جذورها إلى بداية تشكل أميركا كدولة في نهاية القرن الثامن عشر، على تفسير المادة الثانية من الدستور الأميركي التي تشير في مقدمتها إلى أنه "تُناط السلطة التنفيذية برئيس الولايات المتحدة الأميركية". 
يحاجج دعاة هذه النظرية، وأغلبيتهم من المحافظين أن الكونغرس يعيق الرئيس عن ممارسة سلطاته الدستورية ويتجاوز على صلاحياته من خلال إنشاء مؤسسات والإشراف عليها، أي ما يُعرف بالمؤسسات المستقلة، كالمصرف الفيدرالي وإدارة الضمان الاجتماعي ووكالة الاستخبارات المركزية، وغيرها كثير. لا تخضع هذه المؤسسات للسيطرة الكاملة للرئيس، بل يتشارك المسؤولية عنها مع الكونغرس، كما في ترشيح الرئيس من يقودون هذه المؤسسات وموافقة مجلس الشيوخ عليهم، فضلا عن خضوعها لرقابة الكونغرس المباشرة. على أساس هذه النظرية، يحق للرئيس وحده إنشاء مؤسسات داخل السلطة التنفيذية وإدارتها أو حلها، حسب ما يراه ملائما من دون تدخل من الكونغرس. على هذا النحو، يعتقد المؤمنون بـ"السلطة التنفيذية الموحدة" أن المؤسسات المستقلة غير دستورية، وأن وجودها على النحو الحالي لا يقوض فقط قدرة الرئيس على تنفيذ برنامجه الانتخابي، وإنما أيضا يجعل مساءلته ومحاسبته أمرا مستحيلا بسبب افتقاره للسيطرة الفعلية والكاملة على السلطة التنفيذية، بحيث يمكن اعتباره مسؤولا عن أفعال هذه السلطة نجاحا أو فشلا.
لا يدخل "مشروع 2025"، في نقاش نظري دفاعا عن "السلطة التنفيذية الموحدة" ولا يستخدم المصطلح لكنه يستلهم النظرية بوضوح عبر مقترحاته، فهو يدعو إلى فرض الرئيس إرادته بقوة على الجهاز الإداري التنفيذي الضخم وإنفاذ هذه الإرادة عبر التعيينات السياسية لمديرين من خارج مؤسسات هذا الجهاز من المؤمنين برؤية الرئيس والموالين له، بدلا من الاعتماد على الترفيعات البيروقراطية التي تضع موظفين من داخل هذه المؤسسات على رأسها. ينظر المشروع لهؤلاء الموظفين الإداريين بارتياب شديد ويعتبرهم عائقا كبيرا أمام تنفيذ أي رئيس جمهوري أجندته الانتخابية المحافظة. لضمان تنفيذ هذه الأجندة على نحو منتظم وراسخ، ولتجاوز الممانعة البيروقراطية الداخلية واعتراضات الكونغرس، يدعو المشروع إلى استخدام مكثف للأوامر الرئاسية التنفيذية التي لها قوة القانون الذي ينطبق فقط على مؤسسات السلطة التنفيذية (ولا يمكن نقضها إلا بقانون من الكونغرس أو قرار من المحكمة الاتحادية العليا). لذلك كان ترمب من بين أكثر الرؤساء استخداما لهذه الأوامر، فخلال سنواته الأربع في البيت الأبيض، أي خلال فترة رئاسية واحدة، أصدر الرجل 220 أمرا رئاسيا تنفيذيا فيما أصدر الرئيس الأسبق باراك أوباما خلال فترتيه الرئاسيتين- ثماني سنوات- 276 أمرا، وأصدر جورج بوش قبله في فترتين رئاسيتين291 أمرا. 
يواجه "مشروع 2025"، معارضة قوى واسعة ومختلفة، خصوصا من الديمقراطيين والليبراليين ودعاة الحفاظ على البيئة. يحاجج هؤلاء أن المشروع يسعى لإلغاء تشريعات تقدمية ومفيدة لمحدودي الدخل (مثل قانون الضمان الصحي المعروف بـ"أوباما كير" الذي مرره الديمقراطيون في عام 2010 في عهد الرئيس أوباما)، وتقويض الرقابة والتوازن بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) والإطاحة بالمبدأ العلماني الراسخ في أميركا بخصوص الفصل بين الدين والدولة. 

يواجه "مشروع 2025"، معارضة قوى واسعة ومختلفة، خصوصا من الديمقراطيين والليبراليين ودعاة الحفاظ على البيئة

من المستحيل تقريبا تصور أن هذا المشروع سيجد طريقه إلى التنفيذ كحزمة واحدة أو على مراحل منتظمة في حال فوز ترمب بانتخابات نوفمبر المقبل، إذ إنه سيستفز خصوما كثيرين وأقوياء في المجتمع والسياسة في البلد ويدفعهم إلى التوحد ضده. لكن بعضه سيُنفذ، وبعضه الآخر، خصوصا في مجالات الضرائب والاقتصاد والسياسة الخارجية، سيؤثر بقوة على صناعة السياسات وتنفيذها في ظل بيت أبيض يقوده ترمب.

font change

مقالات ذات صلة