عام على الرؤى الطموح للرئيس الأمريكي

عام على الرؤى الطموح للرئيس الأمريكي


أيام قليلة ويكتمل العام الأول لأوباما فى البيت الأبيض. وكان أوباما قد انتخب بأغلبية كبيرة تعبر عن الإحساس بروح التحول والتجديد التى رافقت صعوده إلى قمة السلطة خلفًا لواحد من أسوأ رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية.


ولم تقتصر علامات التحول فى صعود أوباما على حملته الانتخابية غير العادية، بل تجسدت أيضًا فى الأفكار والرؤى التى أطلقها كأساس لسياسات جديدة فى الساحتين الداخلية والخارجية. ففي الداخل انشغل أوباما بمواجهة آثار الأزمة الاقتصادية العالمية، وإصلاح الخلل الذى كان قد اعترى النظام الرأسمالي وآليات عمله خلال فترة حكم بوش الابن، كما أطلق حملته الهادفة إلى إقرار نظام جديد للتأمين الصحي ينحاز إلى العمال والموظفين وأبناء الطبقات الفقيرة والوسطى. وفي السياسة الخارجية، تجسدت أهم رؤى أوباما فى إصلاح الخلل البالغ الذي لحق بصورة أمريكا في العالم، وبناء علاقات جديدة بين أمريكا وبين العالم الإسلامي تقوم على الحوار والدبلوماسية والتعاون بدلًا من الصدام والحرب والصراع مع استهداف القاعدة وطالبان في أفغانستان بدلًا من استعداء الإسلام والمسلمين واعتبارهم مرادفين للإرهاب. وفى هذا الصدد أيضًا أتت أفكار أوباما المتعلقة بحل الدولتين كهدف لعملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين باعتبارها مصلحة قومية أمريكية. وانطلقت دعوة أوباما لتبنِّي إستراتيجية خروج آمن من العراق مع ترك مصيره لشعبه، ومساعدة هذا الأخير ليقرر ما يشاء وما فيه مصلحته. ويذكر هنا أيضًا سعْي أوباما إلى حل دبلوماسي مع إيران، وعدم دفع الأمور باتجاه حرب شاملة معها يمكن أن تهدد الشرق الأوسط كله. ولعل خيار الصفر النووي الساعي إلى إخلاء العالم من الأسلحة النووية كهدف إستراتيجي بعيد، يكمل حلقات رؤية أوباما لركائز سياسته الخارجية.


ولأن أوباما طرح كثيرًا من الأفكار الجديدة والجريئة والأهداف البرَّاقة، فإن البعض ظن أن طرحه ذلك هو أقرب إلى الطرح النظري المثالي غير القابل للتحقق. وأضاف البعض أن أوباما ليس ابن المؤسسة الحاكمة في أمريكا، ومن ثَم فإن المؤسسة وقواها تقف في وجه رؤاه وأفكاره ولا تسمح بتحولها إلى أفعال. وليس من شك في أن هذا القول أو ذاك فيه بعض الصحة، ولكنه بالقطع يتضمن قدرًا أكبر بكثير من الخطأ في النظر أو العنت في الرأي. فلا شك أن كثرة الأفكار والرؤى وطموح الأهداف والغايات وضخامة النقلة النوعية في الفكر، مقارنة بما كانت عليه الحال أيام هيمنة المحافظين الجدد على البيت الأبيض، يمثل في ذاته عناصر، وربما قيودًا كابحة لحركة أوباما وإدارته من أجل إنفاذ سياساتهما الجديدة داخليًّا وخارجيًّا، فالجمهوريون الصاعدون يحاولون إعاقة سياسات أوباما ويكتِّلون قواهم ضدها، ويظهر ذلك جليًّا في موقفهم من مشروع قانون التأمين الصحي في الكونجرس. والأزمة الاقتصادية، وإن تخففت من بعض آثارها السلبية ونجحت سياسات مواجهتها والحد من آثارها الخطيرة، فإن الرأسمالية التي كان قد استشرى فسادها وزاد طغيان توحشها، تحاول الحفاظ على بعض مكاسبها التي كانت قد تحققت أيام بوش الابن، وذلك أمر يطيل من أمد الأزمة ويعطل قوة الدفع التي يحتاجها أوباما من أجل إنفاذ سياساته الجديدة على المستوى الدولي.


 ومن ناحية أخرى، فإن محاولة التفجير الفاشلة لطائرة أمريكية في يوم عيد الميلاد، وما كشفت عنه من خلل جسيم - أعلن عنه أوباما نفسه - في أداء أجهزة المخابرات والأمن الأمريكية سواء في الداخل الأمريكي أو في التعامل مع القاعدة في أفغانستان وخارجها، يفرض على الرجل وإدارته أولوية تتمثل في معالجة ذلك الخلل، ورفع كفاءة تلك الأجهزة، وهو ما يتطلب وقتًا وجهدًا كبيرين وموارد غير محدودة، وبما يمكن أن يبطئ وضع أفكار أوباما ورؤاه الطموحة في مجال العلاقات الخارجية والسياسات الدولية موضع التنفيذ. يضاف إلى ذلك أن بعضًا من تلك الأفكار والرؤى يتعلق بالمستقبل البعيد وليس بالأمد القصير أو الأجل المتوسط.


وحينما تحدَّث أوباما نفسه عن إخلاء العالم من الأسلحة النووية، قال إن ذلك هدف إستراتيجى يسعى إليه، ولكنه يدرك أنه غير قابل للتحقق خلال فترة حياته، وإن لم يمنع ذلك من مفاوضات وسياسات تستهدف تخفيض الترسانة النووية العسكرية لدى أمريكا وروسيا. كذلك فإن أوباما كان قد أعلن عن هدف إستراتيجي بالغ الأهمية والدلالة يتمثل في الاستغناء خلال عشر سنوات عن بترول الخليج، والاستعاضة عنه بالوقود الحيوي النظيف. ونحن نرى أن ذلك الهدف، إن تحقق، سيكون من شأنه تغيير خريطة منطقة الشرق الأوسط، بل والعالم، تغييرًا كليًا، ولكننا لا نعتقد أن ذلك الهدف قابل للتحقق خلال الأجل القصير الذي حدده أوباما، رغم تسارع خطى التقدم التكنولوجي.


ومع أن سياسات أوباما في التعامل مع قضية العراق، ومع قضية إيران وبرنامجها النووي، هي سياسات أفضل من تلك التي اتبعها سلفه، ومع الإقرار بأن لتلك السياسات الجديدة آثارًا إيجابية ليس فقط على البلدين، ولكن أيضًا على علاقاتهما الإقليمية والدولية، وكذلك على مستقبل منطقتي الخليج والشرق الأوسط، فإن الموقف من قضية فلسطين وصعوبة تحويل كلمات أوباما وأفكاره إلى تحركات وأفعال على أرض الواقع تجسد حل الدولتين، تجعل الكثير من المحللين يعتقدون أن قدرة أوباما على تحقيق الحلم هي قدرة أقل مما أوحت به كلماته وأيامه الأولي فى البيت الأبيض. ومع ذلك فإنه لا بد من الإشارة إلى أن الانقسام الفلسطينى ـ الفلسطينى، وهيمنة اليمين المتطرف على السياسة في إسرائيل يمثلان عقبتين رئيسيتين أمام أية جهود يتبناها أوباما أو غيره من أجل الوصول إلى حل عاجل للقضية المركزية الأهم في الشرق الأوسط.


وختامًا.. فإن أوباما وحده لا يستطيع أن يحقق أحلامه بمفرده، ومن دون تعاون وسعي جادين من الآخرين، وعلى رأسهم أصحاب الشأن المباشرون في القضايا التي ذكرناها في السطور السابقة. 



د. مصطفى علوي - رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة - عضو مجلس الشورى

font change