يدر نحو خمسة مليارات مسافر عبر رحلات وطنية ودولية في عام 2024، إيرادات بقيمة تريليون دولار، وأرباح تتجاوز 30 مليار دولار، تستفيد منها نحو 400 شركة خطوط جوية. لكن عدد المقاعد قد لا يكفي عدد الركاب هذا الصيف وفي السنوات المقبلة، بسبب تأخر تسليم المصانع طائرات جديدة. النتيجة الظاهرة حتى الآن ارتفاع في أسعار التذاكر، تأخير أو إلغاء أو تحويل في برامج بعض الرحلات، إضراب ربابنة بعض الناقلات، إرهاق في عمل مراقبي حركة الملاحة الجوية، اكتظاظ داخل ردهات المطارات الدولية وتزايد أعداد المسافرين الغاضبين من تدني الخدمات.
استسلام "بوينغ"
أخيرا استسلمت "بوينغ" للضغوط الفيديرالية والقضائية والتقنية والتجارية، وقررت الاستحواذ على الشركة المصنعة للمعدات، "سبيريت إيروسيستمز" (Spirit AeroSystems)، مقرها ويتشيتا ولاية كانساس، في صفقة بلغت قيمتها الاجمالية 8,3 مليارات دولار (منها 4,7 مليارات دولار قيمة التملك)، تغطي أصول الشركة وديونها. تملك الشركة مصانع أخرى في إيرلندا والمغرب وفرنسا وماليزيا، وهي مزود مشترك لأجزاء تصنيع طائرات "بوينغ" الأميركية و"إيرباص" الأوروبية.
وتعتبر عملية الشراء هذه، ثورة ثقافية حقيقية لاستعادة أولوية الجودة والسلامة، ومعالجة الخلل في التسليم، ودرء سلسلة مظلمة من الحوادث التي ألقت بظلال من الشك على الجودة الصناعية للشركة، وتفادي الأعطال المتكررة التي أدت إلى سقوط عدد من طائرات "بوينغ 737 ماكس"، ومطالبة أسر الضحايا بتعويضات مالية كبيرة. وقال ديف كالهون، الذي لا يزال الرئيس التنفيذي لشركة "بوينغ" حتى نهاية العام: "نعتقد أن هذه الاتفاقية تصب في مصلحة المسافرين وعملائنا وموظفي 'سبيريت' و'بوينغ' والمساهمين لدينا، وبلدنا بشكل عام".
تحتاج "بوينغ" إلى وقت لاستعادة ثقة العملاء، وإلغاء العقوبات المفروضة على بعض أنواع طائراتها، لاستعادة نشاطها الصناعي والتجاري كاملا خلال الأعوام المقبلة
لكن استكمال الصفقة يحتاج إلى وقت وإجراءات على "بوينغ" الوفاء بها، وهي حاليا لا تملك من السيولة ما يكفي لتغطية مصاريف الاستحواذ، مما سيجعلها تطرح أسهما بزيادة 30 في المئة على قيمتها السوقية لجمع مبالغ إضافية من المساهمين.
وبعد تجاوز العقبة المالية، تحتاج "بوينغ" إلى وقت لاستعادة ثقة العملاء، وإلغاء العقوبات التقنية المفروضة على بعض أنواع طائراتها من قبل هيئة الطيران الفيديرالية الأميركية (FAA)، مما يسمح لها باستعادة نشاطها الصناعي والتجاري كاملا خلال الأعوام المقبلة. وبالتزامن مع هذه المحطات، يجب على "بوينغ" دفع تعويضات لعائلات ضحايا سقوط بعض طائراتها، التي خلفت 346 قتيلا بين عامي 2018 و2019، بعد سقوط طائرتين تابعتين للخطوط الإثيوبية، وأخرى لـ"ليون إير" (LionAir) الأندونيسية.
تواصل الحوادث... و"عدم اليقين"
عرضت "بوينغ" مبلغ 2,5 مليار دولار للتعويض. وتضغط وزارة العدل الأميركية على الشركة لتسوية وضعية الخسائر البشرية في أقرب وقت، بما فيها الإقرار بالذنب، لتجنيب واشنطن عواقب دولية محتملة أخلاقيا وقانونيا. وبعثت وزارة العدل رسالة في الموضوع إلى القاضي الفيديرالي في ولاية تكساس في 14 مايو/أيار للإسراع في إنهاء القضية. وطالبت عائلات ضحايا حوادث تحطم طائرات "بوينغ 737 ماكس"، السلطات الأميركية بفرض غرامة تصل إلى 24,8 مليار دولار، وملاحقة مسؤولي الشركة جنائيا. جاء ذلك بالتزامن مع مثول كالهون أمام الكونغرس الأميركي، حيث أقر بوجود مشاكل تتعلق بالسلامة تواجهها الشركة، على الرغم من طمأنته بإحراز تقدم في هذا المجال.
بيد أن مسلسل الحوادث المؤسفة يتكرر باستمرار، ويطال العديد من طرازات "بوينغ"، مثل انفجار في قابس أبواب الطوارئ في رحلة "ألاسكا إيرلاينز"، أو اشتعال المحركات أثناء الطيران في عدد من الرحلات، أو فقدان احدى العجلات، وأخطاء تقنية، وعيوب صناعية، وهي قصص مأسوية تقلق ملايين المسافرين حول العالم، ومعهم شركات الطيران التي أوقفت عقود طلبيات سابقة، مع التشديد على معايير السلامة، التي غالباً ما تكون في سلم الأولويات. وبحسب اتحاد النقل الجوي الدولي(International Air Transport Association- IATA)، فإن "وضعية عدم اليقين في قطاع النقل الجوي ستستمر إلى عام 2026. وهناك أكثر من 15 ألف طائرة جديدة تم التعاقد على تصنيعها من 'بوينغ' و'إيرباص'، قد لا تدخل الخدمة قبل سنوات، مما يزيد حالة الخلل بين العرض والطلب".
اختلال في النقل الجوي
تواجه أكثر من 320 شركة خطوط طيران دولية منضوية تحت الـ"أياتا" (IATA) التي تمثل 83 في المئة من حركة النقل الجوي التجاري، تحديات في الاستجابة إلى العدد المتزايد من المسافرين هذا الصيف. والسبب رغبة نحو 4,7 مليارات شخص في التنقل جوا، بهدف السياحة والسفر والعمل عبر شركات رحلات دولية أو وطنية. يؤشر هذا الكم الهائل من المسافرين الى تعافي قطاع الطيران، بعد سنوات عصيبة، رافقت فترة جائحة "كوفيد-19" وتلتها، عندما أغلقت الحدود وتوقفت آلاف الرحلات، وأفلست عشرات الشركات، وأمسك الناس عن ركوب الطائرات، التي ظلت جاثمة على مدرجات المطارات شهورا وربما سنوات، في انتظار القضاء على الفيروس. وكلفت جائحة "كوفيد-19" قطاع النقل الجوي خسائر قدرت بـ183 مليار دولار بين عامي 2020 و2022. واعتبرت الفترة الأكثر قتامة في تاريخ الطيران المدني منذ اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول 2001.
يجب على شركات الطيران توفير القدرة الاستيعابية اللازمة، لتلبية تنامي الطلب على السفر، وضمان جودة مريحة للمسافرين بأفضل كفاءة ممكنة
ويلي والش
يختلف الوضع اليوم تماما عن السابق، فقد زاد الطلب على السفر نحو 19 في المئة في المتوسط خلال الربع الأول من 2024 على أساس سنوي، خصوصا في الأسواق الأميركية والأوروبية ومنطقة الشرق الأوسط، على الرغم من الأوضاع الدولية والإقليمية المتأزمة في عدد من مناطق العالم. والطلب مرشح أن يتضاعف في فترة العطل السنوية، ويزيد بواقع نحو 200 مليون مسافر إضافي، وهو خبر جيد لقطاع السياحة والفنادق والمطاعم والمواصلات والمطارات.
نقص في الأسطول الجوي
في المقابل يسجَّل نقص بنحو 13 في المئة في عدد المقاعد المتوقعة من حيازة طائرات جديدة. وقال رئيس اتحاد النقل الجوي الدولي، ويلي والش، "يجب على شركات الطيران توفير القدرة الاستيعابية اللازمة، لتلبية تنامي الطلب على السفر الجوي، وضمان جودة مريحة للمسافرين بأفضل كفاءة ممكنة". لكن هذه الرغبة تصطدم بواقع تعيشه صناعة الطيران العالمية وسلاسل الإمداد، المسؤولة عن تأخير تسليم الطائرات الجديدة المتعاقد عليها. وهي حالة غير مسبوقة في عالم الطيران حتى الآن، وأصبحت تؤثر سلبا في أسطول العديد من شركات النقل الجوي، التي تستعين بكراء طائرات بأسعار عالية، أو استخدام أخرى قديمة بتكلفة صيانة مرتفعة، تجنبا لأي أخطار غير متوقعة قد تتعرض لها سلامة الملاحة الجوية.
وتضر هذه الأوضاع مجتمعة بالتوسع الاستثماري لشركات الطيران، التي عليها دفع 2,4 مليار دولار إضافية لوقود الطائرات، أي نحو 31 في المئة من تكاليف التشغيل، علما أن الأرباح المسجلة عام 2023 بلغت 27,4 مليار دولار. وقال واتش "في المتوسط، تحتفظ شركات النقل الجوي بمبلغ يقل عن 6 دولارات لكل مسافر، أما الباقي من الإيرادات فيوزع على مزودي الخدمات، والشركاء الآخرين".
ويقول وزير النقل واللوجستية المغربي محمد عبد الجليل، إن هناك ندرة كبيرة في الطائرات على الساحة العالمية، مما أدى إلى ارتفاع أسعارها، ويجعل الشركات في ظل هذه الظروف غير قادرة على عرض تذاكر بأسعار معقولة، ليؤدي ذلك بدوره إلى عدم اكتمال سعة الطائرات.
التنافس على المحركات
تتنافس شركات النقل الجوي على شراء محركات جديدة لطائراتها القديمة بسبب زيادة الطلب. ووفقا لمحللين "من يملك المال من الشركات الكبرى قد يحصل على ما يطلب، لكن بسعر أعلى، أما الشركات الصغيرة فهي مهددة بالإفلاس والانقراض، إنها لعبة العرض والطلب، في اقتصاد السوق".
لا تتوقع "إيرباص" العودة إلى تسليم 75 طائرة شهريا قبل 2027، وقد يستغرق الأمر 5 سنوات أخرى. أما "بوينغ" فلن تستطيع الوفاء بتسليم 8579 طائرة مطلوبة من كل القارات
وقال مشاركون في الاجتماع العالمي للاتحاد الدولي للنقل الجوي، الذي كان عقد اجتماعه السنوي في دبي مطلع يونيو/حزيران الماضي، "هذا موضوع يؤرقنا جميعا، ويفرض على بعض الناقلات إرجاء فتح خطوط جديدة، والاحتفاظ بطائرات قديمة، وهي خيارات غير مجدية". وتضغط إكراهات قطاع النقل الجوي على الخدمات المقدمة في المطارات الدولية، التي بدورها تتضرر من تغيير برامج الرحلات وإلغائها، وأيضا من تأثير التغيرات المناخية والفيضانات، والحاجة إلى تحديث المطارات وتوسيعها، وهي استثمارات تقدر بمئات مليارات الدولارات، منها المطارات الأوروبية التي تحتاج توسعتها إلى 360 مليار يورو.
تراجع التسليم والأرباح
خلال الثلث الأول من السنة الجارية، سلمت "إيرباص" 203 طائرات في مقابل 107 طائرات لـ"بوينغ"، وهي أرقام بعيدة عن نشاط ما قبل الجائحة، عندما بلغت مبيعات "إيرباص" 863 طائرة عام 2019، ولم تُسلم "بوينغ" سوى 24 طائرة في شهر نيسان/أبريل الأخير. وتتوقع "إيرباص" أن تنحصر أرباحها عند 5,5 مليارات يورو السنة الجارية، انخفاضا من توقعات أولية كانت تطمح لتحقيق 7 مليارات يورو.
وتُضاف شركة "برات أند ويتني" (Pratt & Whitney) المزود الرئيس لمحركات "إيرباص" إلى قائمة المتهمين بتأخير التسليم، مما جعل إنتاجية المجموعة الأوروبية في انخفاض. ولا تتوقع "إيرباص" العودة إلى تسليم 75 طائرة شهريا قبل عام 2027، وقد يستغرق الأمر خمس سنوات أخرى. أما "بوينغ" فإن وضعها سيء، ولن تستطيع الوفاء بتسليم 8579 طلبية على المدى المتوسط، والغاضبون في ازدياد من كل القارات.
وتعاني الخطوط الفرنسية من نقص التزود بقطاع الغيار على موديلات "إيرباص" المتوسطة والطويلة المسافة A 220 و A350 التي تأخر تسليمها، بسبب أزمة إمدادات على مستوى عالمي. وبقدر منافع العولمة في التجارة وسلاسل القيم والمهن العالمية، فإن أزمة الإمدادات تظل حاضرة بقوة في أزمة إقليمية أو دولية، مثلما يحصل الآن في الشرق الأوسط، حيث تعطلت الإمدادات والشرائح القادمة من الصين وتايوان وكوريا الجنوبية عبر باب المندب وخليج العقبة، بسبب اعتداءات الحوثيين على سفن التجارة العالمية.
الصين من السيارة إلى الطائرة
وحدها الصين مستفيدة من التعثر الذي أصاب صناعة الطائرات في الغرب وهي تقترح على عملاء مقربين جغرافيا، موديلات "C919"، بسعة ما بين 158 إلى 165 معقدا، باستطاعتها التحليق مسافة 4000 إلى 5500 كيلومتر. وهي تشبه الـ"نيو 320A" الأوروبية و"737 ماكس" الأميركية، وتعتمد على تكنولوجيا غربية، وتستعين بمحركات "ليب" (Leap) المصنعة بالشراكة بين "سافران الفرنسية" و"جنرال إلكتريك" الأميركية. وتراهن الصين على استصدار تراخيص الطيران فوق الأجواء الأوروبية العام المقبل أو في 2026.
وتم شراء بعض هذه الطائرات لحساب "إير تشاينا"، و"تشاينا إيسترن إيلاينز"، و"ساوثرن إيرلاينز"، كما اقتنتها ناقلات في تايلاند وبروناي وفيتنام. لكن هذه الطرازات من الطائرات لم تسجل إقبالا في جنوب شرق آسيا كما كان متوقعا، ولا تزال 11 طائرة جاثمة فوق الأرض لغياب الصيانة.
تجربة الصين مع السيارة الكهربائية التي تملك 40 في المئة من صناعتها عالميا، قد تقلب المعادلة في صناعة الطائرات مستقبلا، وقد نشهد تنافسا جديدا بين الشرق والغرب، لكن الغلبة ستكون لأميركا بفعل التراكم المعرفي والتكنولوجي للصناعات الأميركية على مدى قرن كامل، في انتظار صعود الصين إلى القمر.