لا يكون التاريخ غالبا متطابقا مع التوقعات. إذ أتت نتائج الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية المبكرة في فرنسا، في السابع من يوليو/تموز مخالفة لاستطلاعات الرأي. وحصلت المفاجأة أو الزلزال المضاد مع انتقال البلاد خلال أسبوع من تأييد اندفاع أقصى اليمين إلى تمكن حاجز "القوس الجمهوري" (تحالف اليسار والوسط) من وقف تقدمه، وإحراز "الجبهة الشعبية الجديدة" اليسارية الموقع الأول بين ثلات كتل رئيسة ضمن مشهد سياسي مرتبك في جمعية وطنية من دون أغلبية مطلقة.
يتبين لنا بجلاء إخفاق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قراره الحل المفاجئ للجمعية الوطنية، فقد أراد تعديل ميزان القوى السياسي لصالحه بعد خسارته في الانتخابات الأوروبية، فإذا بنتائج الاستحقاق التشريعي تدخل فرنسا في حالة من الارتباك خاصة أنها لم تجعل الوضع أكثر وضوحا من ذي قبل. ويزيد ذلك الخشية من تهديد الاستقرار السياسي خلال الأشهر القادمة أو السنوات الثلاث المقبلة حتى يحين موعد الانتخابات الرئاسية في 2027.
المشهد السياسي الفرنسي التعددي والمشتت
تمخضت الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية، عن مشهد سياسي تعددي ومشتت وجمعية وطنية (الغرفة الأدنى للبرلمان) من دون أكثرية حاسمة. وبعد الاختراق غير المسبوق الذي حققه "التجمع الوطني" وحلفاؤه في الجولة الأولى، قلبت آليات "الجبهة الجمهورية" الطاولة (نظام الاقتراع بالأكثرية من دورتين يتيح نسج تحالفات وإنتاج ديناميكية جديدة) في الجولة الثانية مع حلول "الجبهة الشعبية الجديدة" في المقدمة بـ182 مقعدا، متفوقة على الائتلاف الرئاسي تحت راية تكتل "معا" (168 مقعدا)، و"التجمع الوطني" وحلفائه (143 مقعدا). إلى جانب الكتل الرئيسة، حصل "حزب الجمهوريين" (وريث الحزب الديغولي، ولم يقبل تحالف جزء منه بقيادة رئيسه مع أقصى اليمين) على 46 مقعدا (اليمين المستقل فاز أيضا بـ14 مقعدا). وتضم الجمعية الوطنية كذلك 13 نائبا يساريا (من خارج "الجبهة الشعبية الجديدة") و6 من الوسطيين وأربعة من أصحاب النزعات الجهوية.
تعويضا عن إخفاقه الإجمالي، يمكن للرئيس إيمانويل ماكرون أن يفرح ضمنا بفوزه في مباراته ضد زعيمة أقصى اليمين مارين لوبان للمرة الثالثة. أما "التجمع الوطني" الذي كان يحلم بدخول جنة الحكم من باب "قصر ماتينيون" مقر رئاسة الوزراء، فقد مني بفشل ذريع، لن يمحوه تقدمه في عدد المقاعد أو في مضاعفة أصوات ناخبيه. ليس فقط لأن غالبية القوى السياسية الأخرى تجمعت ضده أو لوجود قوى مضادة أرادت كبح جماحه في "الدولة العميقة" بالإضافة للقوى المضادة له على صعيد مناطقي.
على الرغم من اختلافاتهم في الرأي، قال الفرنسيون الذين احتشدوا بكثافة في انتخابات الأحد الماضي: "لا لتحكم أي تطرف". ومن الأكيد أنه لو كاد أقصى اليسار يدق أبواب السلطة لكانوا تصرفوا على شكل مماثل.
واتضح أن حزب "التجمع الوطني" يمكن له أن يجمع ثلث الناخبين. وقد تفرض أفكاره نفسها على قطاع واسع من الرأي العام. لكنه في منظور أغلبية الفرنسيين، لا يزال مثيرا للخوف خاصة بعد عودة شعاراته العنصرية وحملته ضد مزدوجي الجنسية. ويعتبر قادة "التجمع" أن انتصاره "مؤجل" لا أكثر ويعطون موعدا لانتخابات الرئاسة معتمدين على تماسك قاعدة تصويته (أكثر من ثمانية ملايين) ونواته الصلبة.
بيد أن توجهات الإقصاء من هذا الطرف أو ذاك ضد أقصى اليمين أو أي قوى أخرى يمكن أن تحمل في طياتها بذور تهديد للأمن الاجتماعي والسلم الأهلي.
والصورة ليست زاهية عند بقية الكتل والأحزاب في هذا المشهد "المتخبط". بالنسبة لحركة "فرنسا الأبية" بقيادة جان- لوك ميلانشون، تمكن المنشقون عن الحركة والمتمردون على قيادتها من إيصال أحد عشر نائبا وهذا بحد ذاته يشكل إشارة تراجع للراديكاليين ولنهج مؤسسها السلطوي. أما "الحزب الاشتراكي" الذي أوصل رئيسين للجمهورية وغاب عن المشهد منذ 2017، فقد عاد هذه المرة ليكون القوة الثانية في تحالف اليسار لكنه لا يزال يفتقد لشخصية قيادية جاذبة.
وتتجاذب التحالف الرئاسي المؤلف من ثلاث قوى أساسية، شخصيات طموحة مثل رئيس الوزراء الحالي غبريال أتال الذي صعد نجمه خلال الحملة الانتخابية القصيرة، ورئيس الوزراء السابق إدوار فيليب، وذلك على خلفية "تلاشي الماكرونية" وبدء تملص الماكرونيين من ماكرون وأدائه.