محاولة لتمهيد الإجابة عن هذا السّؤال، ربّما ينبغي أن نبرز، قبل كلّ شيء، البعد الأيديولوجي لمفهوم التقدّم ذاته. لا داعي إلى التذكير بالظروف النوعية التي برز فيها هذا المفهوم، والفئات الاجتماعية التي تحمّست له، والحقبة الخاصّة التي ظهر فيها. ولا بأس أن نؤكّد أنّ هذا المفهوم، الذي بلوره مفكرو عصر الأنوار وفي مقدمهم كوندورسي، قد عرف عند الفئات الاجتماعية التي تحمّست له في البداية، بعض التشكّك، فأخذنا نسمع بعض المفكرين يتحدّثون في ما بعد عن "أزمة فكرة التقدم"، وعن ضرورة إثبات التقطّع والفواصل، والارتكاس والارتداد، بله الانحطاط والأفول.
لم يكن هذا المفهوم يستمدّ قوّته من حمولته الفلسفية، ودعامته الاستدلالية، بقدر ما كان يستمدّها من سنده الاجتماعي وأهمّية الأصوات التي كانت من ورائه. لا عجب إذن أن يفقد بشيء من السرعة شيئا من وظيفته تبعا لما عرفته تلك الأصوات من خفوت. لذا سرعان ما انتصب ضدّه حتى أولئك الذين يعدّون حفدة هيغل، الفيلسوف الذي اعتمد المفهوم، وبنى عليه رؤيته إلى التاريخ.
حياة الأفكار
من أبرز هؤلاء أنطونيو غرامشي الذي دعا صراحة إلى التخلّي عن مفهوم التقدّم دون أن ينكر البعد التاريخي لحياة الأفكار، من هنا تشبّثه بمفهوم بديل هو مفهوم الصيرورة، وهو يميّز بين المفهومين على النحو الآتي: "التقدّم يتوقّف على ذهنية معيّنة، ذهنية تدخل في تركيبها عناصر ثقافية معيّنة تتحدّد تاريخيا. أما الصيرورة فهي مفهوم فلسفي يمكن أن يخلو من دلالة التقدّم". فكرة الصيرورة "تحافظ على كلّ ما هو واقعي في فكرة التقدّم، أعني على الحركة، بل الحركة الجدلية ذاتها (وبالتالي على التعمّق)، ذلك أنّ التقدّم مرتبط بالمفهوم الساذج للتطوّر".