إذا جاز لنا استعارة توصيف "حالة السيولة" من عالم الاجتماع البولندي، والأستاذ بجامعة "ليدز" البريطانية، زيظغمونت باومان من أطروحته التي يطلق عليها "سلسلة السيولة"، لوصف ما نشهده من حروب وصراعات يشهدها العالم ومنطقة الشرق الأوسط، فيمكن لنا وصفها بـ"الحروب السائلة". وهي التي تجمع بين حالة اللاحرب واللاسلام، وحروب نهاياتها سائبة.
الحرب بين روسيا وأوكرانيا مستمرة منذ أكثر من سنتين، ولحد الآن لم تحسم نتيجتها لصالح أي طرف ولا يبدو أنها تتجه نحو التهدئة. وفي منطقتنا لنبدأ من صراع المحاور الذي تقوده إيران ويرتبط بدول هشة، حيث تفرض نفوذها في تلك الدول من خلال الميليشيات والكيانات الموازية للدولة.
وهناك حرب تقودها إسرائيل ضد "حماس"، لكنها حرب مفتوحة ضد الفلسطينيين في غزة ورفح، وربما تمتد شمالا نحو جنوب لبنان. والحرب الأهلية في السودان مستمرة منذ أبريل/نيسان 2023، إلى يومنا هذا، وبعد أكثر من عام على هذه الحرب زادت أعداد الضحايا على 17 ألف قتيل من المدنيين، ونزح جراءها ما يزيد على 12 مليون شخص. كل هذه الحروب مخلفات دمارها أكثر ضررا من الحرب نفسها.
وبعد تسعة أشهر من "طوفان الأقصى" وبدء الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة، والأرقام المرعبة للضحايا من المدنيين ومشاهد الدمار والموت في قطاع غزة، والآن في رفح. لا أحد قادر على إيقاف العمليات العسكرية الإسرائيلية. لا دول ولا منظمات دولية قادرة على إيقاف هذه الحرب، ولا إيقاف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ولا حتى الحرب الأهلية في السودان.
"الحروب السائلة" تشبه وصف حالة السيولة التي تحدث عنها باومان في أول كتبه "الحداثة السائلة"، وربما هي امتداد لها، ويحاول فيه أن يصف ماهية الحداثة وما بعد الحداثة بنظرته الخاصة للمجتمع والسياسة والثقافة والأخلاق. إذ يقرأ الواقع الذي فرضه النظام الرأسمالي والعولمة في المجتمعات الغربية. وفي تعريفه لمصطلح السيولة الذي يعنيه، يشرح لنا مفهومها بأنها انفصال القدرة (ما نستطيع فعله) عن السياسة (ما يتوجب علينا القيام به). وبتوصيف أكثر سهولة، إذا كانت مرحلة الحداثة الصلبة هي مرحلة الإنتاج والتطور الذي تتحكم به الدولة وتكبح جماح الأفراد لصالح المجموع، فإن مرحلة السيولة هي مرحلة تخلي الدولة عن هذا الدور وفتح السوق أمام الرأسمال الحر والاستهلاك والتحديث المستمر الذي لا غاية ولا هدف له إلا المزيد من الاستهلاك والإشباع الفوري والمؤقت للرغبات.