الحروب السائلة... من أوكرانيا إلى قطاع غزة

لا غاية لها إلا الحرب بحد ذاتها

مركبات تابعة للجيش الإسرائيلي تنقل مجموعة من الجنود والصحفيين في جنوب قطاع غزة، 3 يوليو

الحروب السائلة... من أوكرانيا إلى قطاع غزة

إذا جاز لنا استعارة توصيف "حالة السيولة" من عالم الاجتماع البولندي، والأستاذ بجامعة "ليدز" البريطانية، زيظغمونت باومان من أطروحته التي يطلق عليها "سلسلة السيولة"، لوصف ما نشهده من حروب وصراعات يشهدها العالم ومنطقة الشرق الأوسط، فيمكن لنا وصفها بـ"الحروب السائلة". وهي التي تجمع بين حالة اللاحرب واللاسلام، وحروب نهاياتها سائبة.

الحرب بين روسيا وأوكرانيا مستمرة منذ أكثر من سنتين، ولحد الآن لم تحسم نتيجتها لصالح أي طرف ولا يبدو أنها تتجه نحو التهدئة. وفي منطقتنا لنبدأ من صراع المحاور الذي تقوده إيران ويرتبط بدول هشة، حيث تفرض نفوذها في تلك الدول من خلال الميليشيات والكيانات الموازية للدولة.

وهناك حرب تقودها إسرائيل ضد "حماس"، لكنها حرب مفتوحة ضد الفلسطينيين في غزة ورفح، وربما تمتد شمالا نحو جنوب لبنان. والحرب الأهلية في السودان مستمرة منذ أبريل/نيسان 2023، إلى يومنا هذا، وبعد أكثر من عام على هذه الحرب زادت أعداد الضحايا على 17 ألف قتيل من المدنيين، ونزح جراءها ما يزيد على 12 مليون شخص. كل هذه الحروب مخلفات دمارها أكثر ضررا من الحرب نفسها.

وبعد تسعة أشهر من "طوفان الأقصى" وبدء الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة، والأرقام المرعبة للضحايا من المدنيين ومشاهد الدمار والموت في قطاع غزة، والآن في رفح. لا أحد قادر على إيقاف العمليات العسكرية الإسرائيلية. لا دول ولا منظمات دولية قادرة على إيقاف هذه الحرب، ولا إيقاف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ولا حتى الحرب الأهلية في السودان.

"الحروب السائلة" تشبه وصف حالة السيولة التي تحدث عنها باومان في أول كتبه "الحداثة السائلة"، وربما هي امتداد لها، ويحاول فيه أن يصف ماهية الحداثة وما بعد الحداثة بنظرته الخاصة للمجتمع والسياسة والثقافة والأخلاق. إذ يقرأ الواقع الذي فرضه النظام الرأسمالي والعولمة في المجتمعات الغربية. وفي تعريفه لمصطلح السيولة الذي يعنيه، يشرح لنا مفهومها بأنها انفصال القدرة (ما نستطيع فعله) عن السياسة (ما يتوجب علينا القيام به). وبتوصيف أكثر سهولة، إذا كانت مرحلة الحداثة الصلبة هي مرحلة الإنتاج والتطور الذي تتحكم به الدولة وتكبح جماح الأفراد لصالح المجموع، فإن مرحلة السيولة هي مرحلة تخلي الدولة عن هذا الدور وفتح السوق أمام الرأسمال الحر والاستهلاك والتحديث المستمر الذي لا غاية ولا هدف له إلا المزيد من الاستهلاك والإشباع الفوري والمؤقت للرغبات.

إيران تستخدم أذرعها في حروبها السائلة... وعداؤها المعلن ضد إسرائيل لا تريده أن يتحول إلى حرب مباشرة. حتى وإن حانت الفرصة لذلك، تبقى حدود هذه الحرب ردود أفعال استعراضية للقوة

وهنا نقطة التشابه مع الحروب التي نشهدها الآن، فهي حروب لا غاية ولا هدف لها إلا المزيد من الفوضى والصراعات والإشباع الفوري والمؤقت لرغبات وغرور القادة والرؤساء. وهذه المعارك التي حتى وإن حققت مكسبا على الأرض فإنها تزيد من تعقيدات أو احتمالات وضع نهاية لها، أو معرفة من المنتصر ومن الخاسر في الحرب. 
حالة السيولة تمثل مركزية التحول نحو الاستهلاك بمعناه العميق للمكان والقيم والأشياء والعلاقات في ظل العولمة، وأصبح التحديث المستمر لكل شيء، دون وجود أي غاية من هذا التحديث، هو الغرض في حد ذاته. ففي ظل السيولة كل شيء يمكن أن يحدث، لكن لا شيء يمكن أن نفعله بثقة واطمئنان، فلا حالة نهائية في الأفق تخبرنا بالهدف من هذا التحديث، ولا رغبة من الأصل في وجود حالة كتلك.
وهكذا هي "الحروب السائلة"، ليس لها غاية إلا الحرب نفسها، دون التفكير في نهاياتها. والغاية الرئيسة منها إما أن تكون ردود أفعال أو تعبيرا عن وهم القوة. وإذا كان قرار الحرب امتدادا للسياسة، فيبدو أن هذا الامتداد بدأ يفقد قيمته. فالسياسة لم تعد قادرة على تحقيق غايتها في حروب نهاياتها سائبة، وإنما باتت تعبر عن عبث سياسي، ودليل هذا العبث أن هذه الحرب لا تلد حلا للأزمات، فهي إما تراكمها أو تكون تكلفة تبعاتها أكثر بكثير منها قبل اتخاذ قرار الحرب.

رويترز
فلسطينيون نازحون فروا من منازلهم يحتمون على طول الشاطئ في دير البلح وسط قطاع غزة، 4 يوليو

المعضلة الآن، أن دولا عظمى تورطت أو أسست لهذا النموذج من الحروب. فالولايات المتحدة الأميركية شنت حرب أفغانستان في 2001، وكان العنوان الرئيس لها "محاربة الإرهاب". وبعد عشرين عاما يتخذ الرئيس الأميركي بايدن قرار الانسحاب من أفغانستان تحت ذريعة "حماية أرواح الجنود الأميركيين"، ويعلن في خطابه أمام الأمم المتحدة: "لقد أنهينا صراعا دام 20 عاما في أفغانستان. وبما أننا نغلق هذه الفترة من الحرب التي لا هوادة فيها، فإننا نفتح عهدا جديدا من الدبلوماسية التي لا تلين"، لكن الرئيس بايدن لم يُجب على سؤال مهم: إذا لم تحقق الحرب غايتها، كيف لها أن تفتح عهدا جديدا من الدبلوماسية؟ 
إيران تستخدم أذرعها في حروبها السائلة. وعداؤها المعلن ضد إسرائيل لا تريده أن يتحول إلى حرب مباشرة. حتى وإن حانت الفرصة لذلك، تبقى حدود هذه الحرب ردود أفعال استعراضية للقوة. رغم أنها منذ قيام "الجمهورية الإسلامية" فيها، بدأت تركز على "نظرية أم القرى" في سياستها الخارجية، وذلك ما طرحته صراحة وثيقة بعنوان "مقولات في الاستراتيجية الوطنية: شرح نظرية أم القُرى الشيعية"، من تأليف محمد جواد لاريجاني. ولُبُّ الموضوع في "نظرية أمِّ القُرى" الإيرانية أن "إيران الإسلامية ليست إحدى الدول الإسلامية فحسب، فالواقع أن إيران هي (أمُّ القُرى/دار الإسلام). وأن انتصار أو هزيمة إيران هما انتصار وهزيمة للإسلام".

إذا توسعت الحرب باتجاه الجنوب اللبناني ودخلت إسرائيل حربا مفتوحة مع "حزب الله"، فهل تحقق غايتها في الردع الاستراتيجي الذي تسعى إليه، والذي أفشلته عملية "طوفان الأقصى" في أكتوبر/تشرين الأول؟

وفيما بعد تحولت هذه النظرية إلى واقع عنوانه "قيادة محور المقاومة" لتكون في أجندة قوى الإسلام السياسي، ذريعة للهيمنة والتوسع في دول المنطقة الهشة، ولتكون أذرعها أدوات في حروبها السائلة ضد الخصوم والمتنافسين مع إيران. وهذه الحروب تستنزف إيران ودول المنطقة من دون أن تصل إلى غاية واضحة، عدا ديمومة الصراع والحروب بلا غايات نهائية، ومن دون حسم لأي طرف من أطرافها. 
روسيا كانت تريد استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي في التنافس على النفوذ في محيطها الإقليمي وبلدان الشرق الأوسط، دخلت حربا مع أوكرانيا، وباتت محصورة في دائرة هذه الحرب، وحتى أوراق الضغط التي كانت تملكها على دول أوروبا لمنعها من التدخل لصالح أوكرانيا، باتت تفقد قيمتها يوما بعد آخر. أما الترسانة النووية فوظيفتها للردع أصبحت خارج الخدمة. فأي حرب هذه التي تقودها دولة كبرى ولم تحسم نتيجتها أو تحقق غايتها، لا بل تزيد من عزلة هذه الدولة الكبرى. 
إسرائيل التي تشن حربا ضد قطاع غزة، وتقصف بين فترة وأخرى مناطق في سوريا، وربما توسع حربها نحو لبنان، هي أصدق مثال على "الحروب السائلة"، إذ لو افترضنا أنها حققت غايتها في القضاء على حركة "حماس" عسكريا وسياسيا في مناطق نفوذها. فهل يحقق هذا "النصر" حلا للأزمة بين إسرائيل والفلسطينيين؟ وهل يقود إلى حل الدولتين؟ أو هل يحقق السلام الدائم بين اليهود والفلسطينيين، لا سيما بعد أن فشلت اتفاقات السلام في تحقيق ذلك؟

رويترز
إمرأة أمام منزلها في بلدة ياسينوفاتا في منطقة دونيتسك الذي تضرر بسبب القصف والذي وصفته السلطات المحلية التي نصبتها روسيا بأنه ضربة عسكرية أوكرانية، 6 يوليو

وإذا توسعت الحرب باتجاه الجنوب اللبناني ودخلت إسرائيل حربا مفتوحة مع "حزب الله"، فهل تحقق غايتها في الردع الاستراتيجي الذي تسعى إليه، والذي أفشلته عملية "طوفان الأقصى" في أكتوبر/تشرين الأول؟ 
هذه الأسئلة التي تبقى إجاباتها مفتوحة على جميع الفرضيات والاحتمالات، تؤكد أن حروب إسرائيل ضد الفلسطينيين ومحيطها هي "حروب سائلة"، لا غاية لها إلا الحرب بحد ذاتها. 
ربما هذه النماذج من "الحروب السائلة"، تعبر عما يسمح به النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية. أو أنها تعبر عن فشل واضح للمؤسسات الدولية التي أسست بعد نهاية تلك الحرب، بعد فشلها في القيام بوظائفها الرئيسة بحفظ الأمن والسلم الدوليين. ومن ثم، هي تكرر وصفات الفشل نفسها لمنع حدوث الحروب أو حتى إيقافها.

font change

مقالات ذات صلة