الاستدامة المالية المطلوبة في الكويت

تتطلب هيكلا اقتصاديا مختلفا وترشيق الحكومة وتعزيز دور القطاع الخاص ومراجعة السياسات المالية

لينا جرادات
لينا جرادات

الاستدامة المالية المطلوبة في الكويت

ماذا نعني بالاستدامة المالية؟ يطرح هذا السؤال كثيرا في الكويت في الوقت الحاضر، خصوصا بعد إعلان الحكومة الجديدة نيتها إنجاز إصلاحات اقتصادية ومالية. يتفق الاقتصاديون على أن الاستدامة المالية تفترض توفر تدفقات مالية وتراكم احتياطات تمنح الحكومة إمكانات مريحة لمواجهة استحقاقات الإنفاق الآنية والمستقبلية.

يشير تقرير "الشال"، وهو مؤسسة استشارية كويتية، الصادر في 2 يونيو/حزيران الماضي، إلى أن الكويت تواجه تحدي الاستدامة المالية نظرا إلى الاعتماد المفرط على إيرادات النفط. يبين التقرير أن هذا الأمر أصبح مقلقا منذ بداية تراجع أسعار النفط عن مستوياتها القياسية في عام 2014 إثر ارتفاع إنتاج الولايات المتحدة من النفط.

ربما هناك مبررات للقلق، لكن الكويت تملك أصولا سيادية تزيد قيمتها على 900 مليار دولار وربما شارفت التريليون دولار. يمكن لهذه الإصول أن تكون مصدرا يعزز استدامة المالية العامة وقد تكون رافدا مهما في المستقبل لإيرادات الخزينة العامة.

الكويت لا تورد دخل الاستثمارات السيادية في إيرادات الخزينة العامة منذ تأسيس صندوق احتياطي الأجيال القادمة في عام 1976، بيد أن الأمر ربما يتطلب معالجات منهجية لمواجهة تراجع إيرادات النفط في المستقبل

معلوم أن الكويت لا تقوم بتوريد دخل الاستثمارات السيادية في إيرادات الخزينة العامة منذ تأسيس صندوق احتياطي الأجيال القادمة في عام 1976.

بيد أن الأمر ربما يتطلب معالجات منهجية لمواجهة تراجع إيرادات النفط في المستقبل القريب والبعيد. لا شك أن هناك أهمية لمراجعة السياسات المالية وسياسات التوظيف الحكومية ومخصصات الدعم المتنوعة.

النموذج النروجي المنشود

تتطلب الاستدامة المالية هيكلا اقتصاديا مختلفا وترشيق الحكومة وتعزيز دور القطاع الخاص في الحياة الاقتصادية والارتقاء بمساهمة العمالة الوطنية في سوق العمل. هناك نماذج لدول تمكنت من إدارة الإيرادات النفطية بشكل رشيد، ومن الأمثلة التي برزت في منطقة الشرق الأوسط، ذلك النموذج العراقي في العهد الملكي خلال خمسينات القرن الماضي حيث كان الإنفاق الحكومي الجاري يعتمد على الضرائب والمكوس والجمارك، أما إيرادات النفط، وكانت محدودة في قيمتها مقارنة بما هي عليه في الوقت الحاضر، فتوجه للإنفاق على مشاريع البنية التحتية وتلك المشاريع المدرة للعائد الاقتصادي والاجتماعي.

لينا جرادات

يمثل النموذج النروجي أهمية كبيرة عند تقييم كيفية التعامل مع إيرادات النفط. كما هو معلوم، بدأت النروج إنتاج النفط في عام 1969. لكن البلاد أسست صندوقها السيادي في عام 1990 وحددت فلسفة مفيدة للتعامل مع إيرادات النفط. قررت الحكومة هناك توظيف الأموال النفطية في أفضل الأدوات المالية الأعلى جودة ووزعت الأخطار على قطاعات اقتصادية عديدة وفي دول مختلفة مستقرة سياسيا وأمنيا. أهم من ذلك، أن عوائد الاستثمارات توجه للإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم، بمعنى تأكيد أهمية التنمية البشرية والارتقاء بجودة الحياة.

سبق للحكومة الكويتية أن أبدت اهتمامها بتشريع قانون الدين العام بما يسمح للحكومة باقتراض 65 مليار دولار على مدى 30 عاما. لكن البرلمان في فصوله السابقة رفض إقراره

عند طرح تمويل عجز الموازنة بأموال صندوق احتياطي الأجيال القادمة، بدا أن هناك تناقضا مع الأهداف التي تأسس لأجلها الصندوق، حيث أن الهدف المركزي هو توفير الأموال لأجيال قادمة قد تعاني من تراجع إيرادات النفط. لكن هناك أموالا من الاحتياطي العام، وهذا يختلف عن احتياطي الأجيال القادمة، وقد تم سحب الأموال منه منذ أن لاح العجز في الموازنة. سحب نحو 21 مليار دينار كويتي، ما يعادل 68,5 مليار دولار، خلال الفترة بين 2014 و2019 لمواجهة التزامات حكومية، بعد تراجع أسعار النفط في عام 2014. لم يسعف الدولة لتفادي السحب من الاحتياطي سوى ارتفاع أسعار النفط بعد نهاية جائحة "كوفيد - 19".

الدين العام تحت السيطرة

سبق للحكومة الكويتية أن أبدت اهتمامها بتشريع قانون الدين العام بما يسمح للحكومة باقتراض 20 مليار دينار أو 65 مليار دولار على مدى 30 عاما. لكن البرلمان في فصوله السابقة رفض إقرار القانون وأبدى عدد من الأعضاء اهتمامهم بمعرفة كيفية تصرف الحكومة بالأموال المقترضة وخطط السداد.

لينا جرادات

أضاعت الكويت فرصا عدة للاقتراض عندما كانت الفوائد المصرفية متهاودة وقريبة من الصفر، قبل أن ترتفع بعد موجة التضخم التي برزت منذ بداية عام 2022.

استمرار توظيف المواطنين العشوائي

لا يزال الدين العام في الكويت منخفضا ولا يمثل سوى 9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. عملت الحكومة على تسييل أصول صندوق الاحتياطي العام من طريق بيع عدد من الأصول إلى صندوق احتياطي الأجيال القادمة. أشارت وكالة "فيتش" للتصنيف الإئتماني الى أن سعر التعادل في الموازنة الحكومية يساوي 90 دولارا للبرميل آخذا في الاعتبار مستوى إنتاج النفط الذي يراوح نحو 2,4 مليون برميل يوميا.

لتحقيق الاستدامة المالية لا بد من معالجة التشوهات الاقتصادية وتحرير الدولة من التزامات عدة ومنها تملك المرافق الحيوية وإدارتها وتمكين القطاع الخاص من تولي مسؤوليات أساسية في الاقتصاد

كانت الكويت قد حققت فائضا في السنة المالية المنتهية في 31 مارس/آذار 2023 بلغ 6,4 مليارات دينار أو 21 مليار دولار. لكن الحكومة الكويتية لا تزال توظف الآلاف من المواطنين المتدفقين إلى سوق العمل في الدوائر والمؤسسات الحكومية وتعمل على دفع دعم العمالة للعاملين في شركات القطاع الخاص أو لحسابهم الخاص. وإذا علمنا بأن المتدفقين سنويا يقدرون من 15 إلى 20 ألف مواطن فإن ذلك يعني المزيد من تخصيص الأموال لمواجهة الرواتب والأجور. ويشكل بند الرواتب والأجور أهم الضغوط على الموازنة الحكومية حيث تمثل 61 في المئة من قيمة الموازنة المالية للعام 2024/ 2025 التي تبلغ 24,6 مليار دينار أو ما يزيد قليلا على 80 مليار دولار.

معالجة التشوهات الاقتصادية

هناك توقعات احتسبت ضمن الموازنة بأن يتحقق عجز قدره 5,9 مليارات دينار أو 19,25 مليار دولار حيث تم تقدير الإيرادات بافتراض سعر برميل النفط الكويتي بـ 70 دولارا. مما يعني أن العجز يشكل هاجسا للكويت التي تمتعت لسنوات طوال بالفائض ولم تمتلك إيرادات سيادية أخرى ذات أهمية لتوريدها للخزينة العامة إلى جانب إيرادات النفط.

في طبيعة الحال قد تتغير الأمور في السنوات المقبلة وتضطر الحكومة إلى إعادة النظر في قانون الموازنة وتعديله بما يمكن من احتساب إيرادات الصندوق السيادي. لا يزال ذلك أمرا غير مرغوب فيه، ويتعين على السلطات المالية أن تحاول بذل الجهود من أجل ترشيد الإنفاق بكل الأساليب والطرق وتحديد مفاهيم للتوظيف والدعم وتسعير الخدمات الحكومية بما يمكن من تحسين الإيرادات غير النفطية وخفض الإنفاق الجاري.

لينا جرادات

 لكن لتحقيق الاستدامة المالية لا بد من معالجة التشوهات الاقتصادية وتحرير الدولة من التزامات عدة، ومنها تملك المرافق الحيوية وإدارتها وتمكين القطاع الخاص من تولي مسؤوليات أساسية ومهمة في العمل الاقتصادي.

كذلك، لا بد أن يواكب ذلك تطبيق ضريبة القيمة المضافة كما هو متبع في الدول الخليجية الأخرى وصياغة أنظمة لضرائب الأرباح وغيرها من ضرائب تعزز إيرادات الخزينة العامة.

font change

مقالات ذات صلة