ننفق سنوات عمرنا الأولى في مكان الولادة، قرية أكان أم مدينة، وإذ نغادره يظلّ المكان البكر هذا يعيش في داخلنا، نحمله معنا في تنقلاتنا المنزاحة، وأغلبنا غائر الحنين للعودة إليه على سبيل الزيارة، أو قضاء الطور النهائي من حياتنا فيه.
كيف لا وقد سلخنا فيه ضلعا مرجعيا من حياتنا، وحسْبُ امتناننا وأكثر أنّه استقبلنا في انزلاقنا إلى الوجود، وأضحى اسمنا، كينونتنا، معنانا، مرتبطا بشكل وثيق به، بل المسألة محض متلازمة، أن نكون والمكان الأول، أحدنا يدل على الآخر، بصورة من الصور، رمزية أكانت أم واقعية.
مكان الوجدان هذا حاله الملتبس، إذ تربطنا به ذاكرة الطفولة والصبا الموشومان، وبالحنين المندلق إليه استوفى الشاعر أبو تمام المقام ببيته الشهير:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأوّل منزل
في المقابل هناك من يقاوم هذا الحنين الجارف بالمزيد من الاستغراق في الترحال إلى المدن المغايرة، المكان الغريب تلو الآخر، في ما يشبه سفرا لانهائيا، فلسفته عدم الالتفات إلى الخلف. هناك من يوغل في الانزياح نكاية في حرب، أو بسبب بؤس طفولة قاسية، أو بسبب وضع سياسي مزمن، أو بسبب القطع النهائي مع أمومة المكان.
ثمة مدن سحرية خُلقت ليأتيها العالم بجميع أطيافه، ولا يحتاج أبناؤها أو سكانها السفر إلى العالم بعدئذ
طبيعي أن يضيق بنا المكان الأول في أحد منعطفات الذات، إذ يستوفي شروط الاكتشاف وتجربة الحياة فيه بالطول والعرض. طبيعي أن يتوقد الطموح إلى ما بعد حدوده، افتتانا بتجارب إنسانية وجمالية مغايرة. طبيعي أن يتشكل المكان الأوّل كإطلاقة سهم في اتجاه المجهول. هذا من ناحية.
من ناحية ثانية، يجد هذا الانزياح اللانهائي لدى آخرين، مبرره في مقاومة حنين العودة، بالنظر إليها كنهاية، كقفل لمدار، كمختتم لحياة آهلة بمحفل الجغرافيات الأخرى، طاعنة في السفر واللااستقرار، منذورة لمعنى يتألق في الضفاف المقابلة.
بالإمعان في مسارات ارتيادنا لمدن وأمكنة مغايرة، نفرز الفرق الحقيقي بين من سيق إلى حواضر من باب الإكراه والضرورة، إما كلاجئ، أو بسبب هجرة من أجل العمل، وهذا يختلف جذريا عمّن اختار العيش في أخرى عن طيب خاطر، بحرية وانتقاء ذاتي، وفي الأحوال كلّها المنفى هو ما يستعر كنار في حطب هذا النزوع من معنى المكان المستضيف.
وصنف آخر، كأنما اختارته الأمكنة الأخرى، إذ سيق إليها مصادفة، فألفى ذاته يعيش في مراتع قدريتها، ويمضي سنواته فيها من حيث لا يعي ذلك.
تظل الأمكنة المأسوية هي التي ندرك العيش فيها كأنما في سجن أو متاهة، ومهما حاولنا التحرر من سطوة اعتقالها نفشل في الهروب من معقلها. كلما نبغنا في اكتشاف خريطة متاهتها وتحقق لنا الإمساك بدليل الخروج من دوامتها، نغرق فيها أكثر، نضيع فيها أعمق، كأنّ خيط أريانا الذي أمسكناه لا يعدو أن يكون خيطا من سديم، موهوما ومخادعا، والمصير السوداوي حينما يصرعنا وحش المينوتور القابع في داخلها وفق استعارية أسطورة متاهة ديدالوس الشهيرة.
متاهة هذا النوع من المدن، فاتنة، مغرية، ممتعة، مدهشة، غرائبية، بالقدر نفسه الذي نكتشف قسوتها، رماديتها، عنفها، مَكْرَها، رتابتها، سخريتها اللاذعة. وهذا التأرجح بين الدهشة والألم هو ألْسعُ ما يمكن أن يتجشّم عناءه كائنها المضطرب بين هذا الحال وذاك.
قد نغبط من ولد في مدينة وظل مستقرا فيها إلى الأبد، لا يغادرها إلا للضرورة القصوى، ثم سريعا يؤوب إليها، ليس لأنّ قدرا أموميا يشدّه إلى طينها، أو يستبقيه عنوة في رحمها، وإنما العالم بجلالة قدره يأتيه إليها.
ثمة مدن سحرية خُلقت ليأتيها العالم بجميع أطيافه، ولا يحتاج أبناؤها أو سكانها السفر إلى العالم بعدئذ، بل إنهم جربوا السفر خارجها واكتشفوا أن ما من خارج، إنه يشبه الداخل، فارتكنوا إليها، ولازموها بشكل دائم.
لكل منا علاقته الخاصة بمدنه الأثيرة، المفضلة، المعشوقة بوله، وهي في الغالب معدودة، بين من يقاربها بذوق السائح، ومن يولع بها وفق خيال السينمائي، ومن يرتبط بها وفق غرابة الروائي، ومن يتعلق بها وفق غنائية الشاعر، أو يفتتن بها وفق جمالية الفنان التشكيلي، أو يغرم بها وفق إيقاعية الموسيقي، أو يندهش بها وفق هندسة المعماري... وفي هذا المنحى تتصادى أو تختلف منازع العلاقات، مادية أكانت أم رمزية، بين التاريخي والفني.
لا يمكن صرف النظر عن المدينة الأخرى، الشبيهة بمستشفى للكائن المضطرب وجوديا أو نفسيّا، إذ في ملاذ أمكنة مبهمة بعينها، يلجأ إليها هؤلاء الممسوسون، المختلون، فيتوازنون على نحو مفاجئ، إذ في إيقاع هذه الحواضر النادرة، يتخفف هؤلاء من ثقل نفسهم الإنسانية، من وطء خشونة الوجود، من جسامة قتامة الأشياء الضاغطة حدّ الاختناق.
بهذا المعنى المارستاني، فإما المدينة عزاء ودواء، أو على النقيض هي مصدر الداء، وسخرية الأمر أن تشكل للكائن كلاهما، الداء والدواء، إذا ما استعرنا التوصيف اللاذع لأبي نواس.
تشبه المدن النساء في حفلة العالم، فمنها الحبيبة والعشيقة والمومس والصديقة والشقيقة والأم والتوأم وهلم استيهامات، كما تشبه في الآن ذاته غرفا نسكنها في فندق العالم، أو محض روايات في مكتبة العالم.
المكان الأول يظلّ الحصاة اللامعة في قعر بحيرة مدن العالم قاطبة
غير أن أجمل المدن وأخطرها على الإطلاق، هي التي لا تشبه نفسها بالضرورة في الجغرافيا، في الواقع، بل تلك المتخيلة، إذ كلّ منّا بصورة من الصور هو شخصيّة البطل ماركو بولو، كما في رواية "مدن لامرئية" للساحر إيتالو كالفينو.
نتجدّد باستمرار في المدن الخيالية التي نشيدها على أنقاض المدن الواقعيّة، نعيش اللاأحادية والتعدّد في المدن الغرائبية أو العجائبية التي نهندسها على أنقاض المدن المألوفة، بل إن المدن التاريخية، السياحية، المعروفة لدى الجميع بملء حقيقتها، تصبح أخرى، متجدّدة، لامألوفة، أكثر إغواء وجاذبية، حينما نزجّ بها في صلب مغامرة تخييلنا هذا، إذ بتخييلنا تتضاعف، تتشعب، تستفحل في اللانهائي بدل المحدود، والأفقي المقوض.
ما عساها تكون خريطة مدينتك السحرية هذه، إن لم تكن تتواطأ مع الخريطة الهائلة لمجازفة خيالك، هذه التي تضمر خرائط العالم عن بكرة أبيها، بشكل مجازي.
أَلِفُ الحكاية وياؤها، أنّ المدينة الأولى، المكان الأول بالأحرى، يظلّ الحصاة اللامعة في قعر بحيرة مدن العالم قاطبة، الغريقة منها، أو العائمة.