فوزية أبو خالد لـ"المجلة": أعيش تحدي البقاء على قيد الشعرhttps://www.majalla.com/node/320461/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%81%D9%88%D8%B2%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D8%A8%D9%88-%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF-%D9%84%D9%80%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%A3%D8%B9%D9%8A%D8%B4-%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%82%D8%A7%D8%A1-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%82%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1
يقود الحوار مع شخصية مثل الكاتبة والشاعرة السعودية الدكتورة فوزية أبوخالد إلى مسارات غير متوقعة، فهي شخصية متفردة في عالم الإبداع السعودي، كونها رائدة قصيدة النثر في المملكة، فضلا عن كونها أكاديمية وباحثة في القضايا الاجتماعية والسياسية مع تركيزها على أطروحات الرأي والتحليل العلمي الاجتماعي.
صدر لها عدد من الدواوين الشعرية من بينها "إلى متى يختطفونك ليلة العرس" و"شجن الجماد"، إضافة إلى مجموعة مؤلفات منها "تحديات وطنية: مقاربة لمطالب النساء في المجتمع العربي السعودي". كما أصدرت قصصا للأطفال وترجمت بعض أعمالها إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية. هنا حوار "المجلة" معها.
صدر أول دواوينك في 1975 تاريخا، هل سارت تجربتك كما كنت تريدين؟
محاولة إجابتي عن السؤال أقدمها باختصار قد يكون مخلا هنا، وهي أنني مذ تورطت بمخاطرة كتابة قصيدة النثر وأنا أعيش تحدي البقاء على قيد الشعر ليس عبر دروبه المعبّدة، بل عبر اقتحام وحشة طرق شعرية غير آهلة، لمزيد من اكتشاف المجهول الذي خطف بريقه الغامض البعيد بصري وأثار فضولي، منذ نعومة عودي حين لمحتُ ريشة قصيدة النثر تطير لا تلوي على شيء إلى أفق بعيد.
يحكم شعري هاجس عدم الاستكانة للمنجز، لا منجزي ولا منجز غيري من الشعراء عربيا وعالميا
من هنا، ارتبط مصيري الحياتي بمصيري الشعري، في ذلك السؤال الفلسفي وهو كتابة حياة جديدة لي عبر التعالق بين مصيري الشخصي والشرط القاسي للبقاء على قيد الشعر، وهو شرط التجدد والمغامرة والمخاطرة والتوغل بعيدا في التجربة عند كتابة كل قصيدة جديدة في جدال لا يفتر بين تراكم الخبرة ومَلَكة تجاوزها.
وأزعم أن كل ديوان من دواويني منذ "الاختطاف" الى ما بعد "تمرد عذري"، يعبر عن هذا الهاجس، هاجس عدم الاستكانة للمنجز، لا منجزي ولا منجز غيري من الشعراء عربيا وعالميا، وذلك بالبحث لشعر قصيدة النثر عن سماوات أعلى ومواقع أعمق أو أبسط. وقد حاولت اقتراف جنحة التجدد في حق قصيدة النثر بعناد طفولي فنجحت أحيانا وفشلتُ أحيانا، إلا أنني لم أكف ولن أكف عن المحاولة التي بصبرها وتوترها وعذابها كتبتُ مغامرة قصيدة النثر المختلفة شكلا وموضوعا في عدد من دواويني.
موسيقى الشعر
تطرحين أفكارا تبدو متمردة، إلى أي مدى منحتك هذه الأفكار التفرد؟
سؤال لا طاقة لي بالإجابة عنه، بل قد لا يستطيع الإجابة عنه غير النقد الموضوعي لأطروحة حياتي الثقافية والاجتماعية المتمثلة تحديدا في ما كتبته نثرا وشعرا.
لماذا هذا الحضور الطاغي للماء في ثلاثة دواوين صدرت لك في أعوام مختلفة وهي "ماء السراب"، "مرثية الماء" و"ما بين الماء وبيني"؟
أصارحك بأنني كنتُ أتوق لقراءة مثل هذه الملاحظة من قبل المختصين في النقد الأدبي، خاصة أن مفردة الماء وردت في مواقع مختلفة لكل ديوان من الدواوين، وبأشكال أشد اختلافا وتنوعا وتعددا داخل قصائد كل ديوان من الدواوين التي ذكرتِ، فالماء جاء في مطلع العنوان "ماء السراب" وكان حضوره في قصائد الديوان رمزيا لمتخيل الماء في حياة العطشى والباحثين عنه في أطياف السراب وتموجات رمل الصحراء.
بينما جاء الماء في موقع نهاية العنوان لديوان "مرثية الماء"، وفيه لم يحضر عبر البحث عنه أو عبر حضوره في المخيلة كمشتهى محتمل، ولكن عبر الذاكرة في حرقة غياب الماء غيابا نهائيا بما يعني انقطاع تيار الحياة عن الحياة نفسها التي جعل الله الماء فيها مصدرا لكل شيء حي. أما في ديوان "ما بين الماء وبيني"، فالماء توسط العنوان وجاء في كل الأشكال التي خلق الله فيها الماء من الدموع وماء الوجه إلى الحبر والبحر والمطر والندى وماء الرحم وما بينها من هيئات الماء، بل إن الديوان نفسه استهلت صفحاته الأولى بثلاث آيات قرآنية، ورد في كل منها ذكر الماء بشكل مختلف وبمعان متنوعة كاستلهام لذلك المعين القرآني البلاغي العميق في حضور الماء في الحياة والموت وما بينهما من تلاق وأضداد، وقد جاءت قصائد هذا الديوان محاولة لاستكشاف ما بين الماء وبيني من أسرار الشعر واللغة والعشق كشاعرة هاجسها الأسئلة وهويتها الصحراء التي لا يستطيع الطقس ولا قسوة الطبيعة ورقتها ولا حرارة الشمس وفتنتها أن تقمعها أو تقنعها بعمر معين للفطام عن الماء.
وأخيرا، أُقر وأعترف بأن الماء، بمركباته المتعددة وتنوع صيغه وأشكاله ورائحته وطعمه وملمسه، مكوّن عضوي ومركزي وأساسي من مكوّنات مشروعي الشعري وجميع قصائدي بلا استثناء، كما هو مكوّن لا غنى عنه من مكوّنات حياتي وحياة كل إنسان.
قصيدة النثر
تعتبرين رائدة قصيدة النثر في السعودية، هل وجدتِ في البدايات صعوبة في تقبل القُراء لأسلوبك؟
كتبتُ قصيدة النثر في عمر صغير غض لم يكن عندي فيه أي خبرة تذكر، ناهيك عن أن يعتدّ بها في مجال التعريفات والتقسيمات النقدية لأشكال الشعر وقوالبه ومسمياته. لذا لم يكن عندي ما يساعدني أو يحرضني لاختيار كتابة قصيدة النثر دون سواها في تلك المرحلة المبكرة من مشواري الشعري، إلا عامل حاسم واحد هو إحساسي الطفولي اليافع النضر بموسيقى الشعر الذي قرأتُ في المدرسة.
الماء بمركباته المتعددة مكوّن عضوي ومركزي وأساسي من مكوّنات مشروعي الشعري
وأظن تلك البداية المبكرة على مستوى شخصي واجتماعي قد ساعدت على اختياري لقصيدة النثر اختيارا ذاتيا حرا، لأنها جاءت في وقت لم أكن قد تشربتُ فيه تقاليد وعادات مراعاة المقبول والمرفوض، بل كنتُ لا أزال في عنفوان الأطوار الأولى من الشباب التي عادة ما تملك جرأة لم تروضها الصعوبات أو تكبلها التوقعات.
طبعا كانت المواجهة شرسة على مستوى محلي اجتماعي وإن جاءت مشجعة على مستوى ثقافي في الوسط الثقافي العربي والوسط الثقافي المحلي الذي ما لبث هو نفسه أن اختطف شعلة الشعر وكتب شعرا معاصرا بكل الأطياف.
ما الذي قدمه لكِ الشعر؟
قدم لي أكثر من حياة دفعة واحدة، من خلال تجربة حياتية وشعرية متأججة ومغامرات فكرية وعاطفية عاصفة.
تُرجمت بعض أعمالك الشعرية إلى لغات أخرى، هل تعتقدين أن الترجمة أوصلت الشعر العربي إلى الجمهور الغربي؟
هذا ليس سؤالا واحدا بل سؤالان. سؤال عن أمانة الترجمة وسؤال عن التقبل الجماهيري للشعر المترجم وتحديدا في الغرب كما يومئ السؤال، والأجدر أن يوجّه لمن يعملون في صناعة الترجمة أو في مجالاتها الإبداعية، فهم أقدر على إعطاء رأي ميداني في الموضوع. بالنسبة إلى تجربتي الشخصية، فأنا لم أكتب شعري قط وعيني على الترجمة الى لغات أجنبية ولا على إيصال رسالة إلى الجمهور الغربي ليعجب بشعري أو بجرأته أو باستشرافيته أو ليخلق استيهامات عن الشعر الذي تكتبه النساء.
فكتابة شعر حديث باللغة العربية يعبر عني شخصيا كشاعرة، عن تجاربي ببعدها الذاتي والاجتماعي والوطني، وهذا كان ولا يزال غاية المنى، ولذلك كنتُ محظوظة بأن معظم من ترجم شعري كانوا شعراء أو مبدعين في المجال الأدبي والتشكيلي كالفنان كمال بلاطه في ترجمته لعدد من قصائدي في كتابه الشهير "نساء الهلال الخصيب"، وكذلك ترجمات الشاعرة والناقدة د. سلمى الجيوسي لعدد من أعمالي، وأيضا ترجمة المبدعة الأكاديمية العالمية د. منيرة الغدير لعدد من قصائدي منذ نعومة أظفارها وقيامها أخيرا بترجمة قصيدتي الطويلة عن أمي، "هلتها ولا منتهاها"، التي أحسستُ بتجاوب جميل معها من خلال ندوتها التي أقامتها بقسم الدراسات الشرق أوسطية بجامعة هارفرد شتاء2021، وهذا يعني أن من ترجموا شعري كانوا على قدر شاسع من التمكن الإبداعي والمسؤولية والتمكن المهني.
ماذا عن كتابك "سيرة الأمهات" الذي ضم عشرات الشهادات التي كتبها أدباء وكتاب حول أمهاتهم؟
كان الكتاب سفرا إبداعيا وشهادة اجتماعية عن حياة الأمهات بالمجتمع السعودي، عبر حقب متعددة من تاريخه الاجتماعي والسياسي، وبصوت عدد من أطياف النساء الواسعة عبر مناطق المملكة المتعددة ومرجعياتها الثقافية المتنوعة.
تنوع إبداعي
ما خصوصية كتابتك للأطفال؟
لم تكن كتابتي لمجموعة من قصص الأطفال التي لم ينشر معظمها إلا نوعا من اللعب الإبداعي مع أطفالي وصحبهم حين كانوا في عمر الطفولة، أما ما أحاول كتابته لأحفادي حاليا فهو نوع من النرجسية الذاتية، لأحافظ على الطفلة داخلي غضة نضرة بريئة، بمشاركتهم شقاوة الطفولة وبريقها.
ما أكثر الأفكار التي كنت حريصة على إيصالها الى القُراء في كتابتك لمقالات الرأي؟
نذرتُ معظم سنوات عمري لكتابة مقالات الرأي، هل تتخيلين عدد المقالات التي كتبتها يوميا أو أسبوعيا على مدار 45 سنة مذ كنت في السنة الثانية الإعدادية إلى اليوم، دون توقف يذكر إلا في حالات الإيقاف عن الكتابة أو في فترة الاختبارات طوال مراحلي التعليمية طالبة وأستاذة جامعية في ما بعد. كتبت في الظلمة والنور وفي البرد والخريف وفي الحر. ومثلما تعددت المطبوعات التي كتبت فيها مقالات الرأي، تعددت موضوعاتها، كما تعددت مستويات الطرح بل أساليبها وأدواتها.
كتبتُ في الاجتماع والفكر والطفولة والعلم والعمل وفي مطالب الشباب والنساء وكتبتُ بصوتي وبصوت أطياف المجتمع من النخبة الى الهامش، كما كتبت في قضايا وطنية عربية وداخلية من القاع الى القمة، وكتبت من البحر الى لا منتهى الحبر ولا أزال أكتب على نفس الخط التنويري بتباريحه وجراحه وبالنفس الشبابي والحماسة الطفولية، وكأنني سأعيش أبدا أو سأموت غدا.
المعلقة
حدثينا عن تجربتك كواحدة من أعضاء لجنة تحكيم برنامج "معلقة 45" الذي عُرض أخيرا؟
قد يكون هدفا من أهداف المعلقة السامية، كما وضعتها تلك الكوكبة الشغوفة بالشعر، اكتشاف عدد من الأسماء الشعرية الجديدة في المملكة والعالم العربي. بالإضافة الى ذلك أرى أن هناك غايات نبيلة وإبداعية لبرنامج "المعلقة" يجب ألا تغيب عنا، منها ما أعتبره إنجازا ثقافيا سعوديا بامتياز، وهو تقديم الشعر بأطيافه المتعددة على منصة واحدة على قدم المساواة دون تفضيل للقصيدة العمودية على قصيدة التفعيلة ولا للقصيدة الحرة على قصيدة النثر، وكذلك الجمع بجرأة أدبية لافتة بين جناحي الشعر الفصيح والشعر الشعبي تحت سقف واحد ومرتفع لا يفرض لا على الشعر الفصيح ولا على الشعر الشعبي، موضوعات بعينها ولا يشترط على أي منها شكلا محددا من أشكال الشعر.
المنجز الأجمل لبرنامج "المعلقة" هو خلق أرضية مشتركة لتعايش مختلف أشكال الشعر والتحرر من سطوة النخبة
والمنجز الأجمل لبرنامج "المعلقة" هو خلق هذه الأرضية المشتركة لتعايش مختلف أشكال الشعر وتحريرها من سطوة النخبة، وإدخال الشعر بمختلف إيقاعاته وأصواته وخياراته الفنية، إلى كل بيت سعودي وعربي، في تنافس شريف بين الشعراء والشاعرات من جميع البلدان العربية، بناء على جدارة وشاعرية الإنتاج وعلى أساس أنهم جميعا شعراء أولا وأخيرا وليس بالاحتكام للنوع الاجتماعي.
كيف تنظرين إلى الحالة الإبداعية النسوية في السعودية؟
أنظر إليها بالكثير من الإيجابية والتحفز، وأستطيع بكل زهو الإشارة إلى حزمة لا بأس بها من الأحلام المتحققة أو التي تسير على طريق لم يعد موحشا، كما كان الأمر لجيلي نحو ملاحقة الأحلام المؤجلة والمستجدة.
ومن المرجح في رأيي أنه في خضم الحضور الكمي الهائل لمنتج المبدعة السعودية في المجالات الثقافية المتعددة من الأدب الروائي والقصصي وأنواع السرد الأخرى إلى الشعر، ومن التشكيل والنحت إلى المسرح والموسيقى، أن نجد إبداعا نوعيا في تلك المجالات بعضه بدأت تباشيره وبعضه في التشكل القريب.