سَجّلَ تاريخ العالم العديد من المدن التابعة، التي على الرغم من إشراقة بعضها، وجمال معمارها، وثراء عائلاتها، وقوة اقتصادها، بقيت محمية من إمبراطوريات كبرى، أو بمفهوم اليوم تقوم دول عظمى بحمايتها، وأحيانا تنضم هذه الدول بإرادتها إلى عصبة، من أجل أمنها وسلامتها.
تشابهت هذه الدول والممالك بعضها مع بعض، على الرغم من اختلاف الزمن والثقافة بينها شرقا وغربا. وكنموذج من ذاكرة عتيقة، متجذر وممتد قبل بدء العصور المعروفة، كانت مدينة "أجرت" قرب الساحل الشمالي في سوريا، التي صرنا ننطق اسمها أوغاريت، حسب قراءتنا في أكثر من نص. كانت من الدول التابعة رغم حضارتها العميقة، وقد اكتشفت في عام 1924 في رأس شمرة، وهي منطقة زراعية، حين تعثر الفلاح محمد مُلّا مع محراثه في التربة، ليجد بلاطة حجرية من صنع إنسان، تغطي فوهة دهليز يؤدي إلى مدفن قديم. طمع الفلاح في البلاطة وباعها لتاجر، وسرعان ما انكشف الأمر عند الحاكم الفرنسي للمنطقة، لتبدأ رحلة اكتشاف كبير الأهمية يتعلق بتاريخ الشرق القديم والسياسات القديمة من التبعية والحماية.
بعد العديد من مواسم الحفر على امتداد سنوات، اكتشفت مدينة رائعة الجمال، فيها من القصور والمعابد والتماثيل والمكتبات واللوحات المسمارية ورُقُم الفخار التي تحمل رسائل وأناشيد ونقوشا، بجانب مدرسة لتعليم الكتابة. هذا كله كان أسفل التل الزراعي الكبير برأس شمرة قرب مدينة اللاذقية، والأهم قراءة تفكيك الأبجدية الأوغاريتية على تلك اللوحات والكتابات. المثير في الأمر هو استخدام المدينة عدة لغات، من الأوغاريتية والحورية والمصرية القديمة التي سميت بالهيروغليفية، وكذلك الأكدية وغيرها، وذلك بسبب تجارتها الهائلة برا وبحرا عبر السفن، وقوانينها الإنسانية، فكانت مدينة نستطيع أن نقول عنها كوزموبوليتية، أي بمفهوم اليوم عالمية، حيث يعيش فيها المستوطنون من أجل العمل، ويقصدونها من مختلف الجهات.
كأن لعبة السيطرة ظلت تمارسها القوى العظمى، طوال تاريخها وصولا إلى عصرنا الحديث، والنتيجة عزل الدول الصغرى سياسيا
إلى هنا، كانت أوغاريت مملكة حرة تعيش مرحلتها الذهبية، من الغنى والاقتصاد المتين، انطلاقا من خطوط التجارة برا وبحرا، ولكن السؤال: لماذا إذن سيطرت عليها الإمبراطورية الحثية ومن ثم الإمبراطورية المصرية، وعندما ضعف الحثيون، لجأت أوغاريت إلى مصر لحمايتها؟
وكأن لعبة السيطرة ظلت تمارسها القوى العظمى، طوال تاريخها وصولا إلى عصرنا الحديث، والنتيجة عزل الدول الصغرى سياسيا رغم جمالياتها، لتتصرف كمتفرج، وتصنع حضارتها وآدابها رغما عن حجمها الصغير، تماما مثل أوغاريت. ثمة قوة خفية لهذه الدول، من مرونة وتكيف، لقهر التحديات، فتستطيع إنتاج السلع والخدمات، وبالتالي تعتمد على التجارة غير المضطربة. وهكذا كانت أوغاريت أكثر سعادة وأقل فسادا، لأنها أقل ميلا الى نفوذها العسكري، منفتحة ومنغلقة بمرونة. ولأنها ضعيفة أمام القوى الكبرى، فقد اعتمدت عليها للحماية، وهذا ما يشهد له التاريخ شرقا وغربا، حيث لا مفر من جعل الدول والممالك الصغيرة جزءا لا يتجزأ منها.
علّق الباحث فراس السواح على المسألة بالقول: "غدت أوغاريت بدون دفاعات ذات قيمة تذكر في وجه الغزو، فكان أن قضي عليها، فآلت إلى التآكل".
ماتت أوغاريت الدولة التي لم تحم نفسها، ولكنها تركت للعالم الحديث إرثا غنيا من ثقافتها وآدابها
وأخيرا، من يقرأ الثقافة السياسية وتاريخ المدن، يجد حضور أوغاريت واضحا وهي تتفرج على تيار الحياة وترسي تقاليدها السامية سواء في الحكم أو الإنتاج الزراعي والحرفي، وحتى تقطيع الأراضي كمكافآت لمواطنيها لقاء خدماتهم، مع التجارة والنظام الضريبي... إلا أنه لا مفر لها من معاهدات التبعية، فما أن تنتهي حتى تبرم من جديد، وقد تمرد يوما ملك من ملوك أوغاريت، حيث لم يعد وفيا للدولة التي تحميه، ليستبدل فورا بابنه، دون التدخل في المسائل الداخلية للمملكة، لتبقى الحماية الخارجية من الدول الكبرى أأمن لها، مهما بلغت قوتها البحرية والتجارية، فلا بد من تأمين الحراسة، لا سيما في أوقات الحرب.
لقد ماتت أوغاريت الدولة التي لم تحم نفسها، ولكنها تركت للعالم الحديث إرثا غنيا من ثقافتها وآدابها، وأميط اللثام عن نصوصها الأدبية من شعر وقصص استلهمتها الحضارات التالية، مع تعديلات في النصوص حسب الظرف والمناسبة، لتبقى أمثولة الدول الضعيفة التي لا تحمي نفسها، بسبب ظروفها الجغرافية والتاريخية، والنتيجة أنها تصبح قوية داخليا وضعيفة خارجيا.