لبنان... مخيمات الفلسطينيين بين الفوضى و"حماس" و"حزب الله"

تسعى الحركة إلى الإمساك بقرارها

أ ف ب
أ ف ب
مقاتلان من "حماس" يقفان أمام جدارية للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في مخيم الرشيدية للاجئين الفلسطينيين في مدينة صور، 24 نوفمبر 2023

لبنان... مخيمات الفلسطينيين بين الفوضى و"حماس" و"حزب الله"

عاش مخيم "عين الحلوة" للاجئين الفلسطينيين مرحلة من الاستقرار لا تزال مستمرة حتى اليوم، رغم التوتر الذي استجد عقب قرار السلطة الفلسطينية تعليق العمل بما يعرف بـ"الأطر المشتركة" بسبب تفاقم الخلاف مع حركة "حماس"، والذي نجم عنه اغتيال أحد أفراد "الأمن الوطني" التابع للسلطة الفلسطينية، والمسؤول عن أمن المخيمات بموجب اتفاق مع السلطات اللبنانية.

وكان المخيم الأكبر للاجئين الفلسطينيين والملقب بـ"عاصمة الشتات" شهد منذ سنة تقريبا اشتباكات ضارية بين "الأمن الوطني"، ومجموعات من المتطرفين الإسلاميين المدعومين من "حماس" و"حزب الله"، على خلفية اغتيال القائد الأول في المخيم أبو أشرف العرموشي.

هذه الاشتباكات التي استمرت حتى نهاية سبتمبر/أيلول، وتخللتها هدن متقطعة، وأسفرت عن مقتل 29 شخصا، ونزوح نحو 60 في المئة من سكان المخيم، لم تتوقف إلا بعد رضوخ السلطة الفلسطينية للضغوط الشديدة التي تعرضت لها من أطراف عديدة، بينها الدولة اللبنانية، وقبولها حقنا للدماء بالشراكة مع "حماس" في عملية صنع القرار داخل المخيم عبر واجهة من التنظيمات الإسلامية.

واليوم تبدو المخيمات الفلسطينية الأخرى في لبنان أمام سيناريو مشابه: إما الفوضى، وإما تنازل السلطة الفلسطينية عن أمن المخيمات لصالح حركة "حماس"، ومن خلفها حليفها "حزب الله".

وقائع وتحديات

يبلغ عدد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان 12 مخيما، تحتضن محافظة الجنوب، الأقرب إلى حدود فلسطين المحتلة، العدد الأكبر منها وهو 5 مخيمات: "الرشيدية"، "البص"، "البرج الشمالي"، "عين الحلوة"، و"المية ومية". في حين تحتضن محافظة جبل لبنان 3 مخيمات، هي: "الضبية" و"برج البراجنة" و"شاتيلا"، الذي توسع مع تدفق اللاجئين إلى حي "صبرا" المجاور شرقي العاصمة بيروت، فأصبح يعرف بمخيم "صبرا وشاتيلا"، وأحيانا "مخيم صبرا" فقط.

بالإضافة إلى مخيمي "البداوي" و"نهر البارد" في محافظة الشمال، و"مار إلياس" في العاصمة بيروت، وواحد في محافظة بعلبك– الهرمل شرقي لبنان أقيم في ثكنة عسكرية فرنسية من أيام الانتداب وحمل اسمها "ويفل" العائد لقائد عسكري فرنسي، فيما يعرف في الأوساط الفلسطينية بـ"مخيم الجليل".

تشترك هذه المخيمات في المعاناة من التهميش والحرمان، ومن ثقل الهاجس الديموغرافي الذي دفع بالسلطات اللبنانية إلى حرمان اللاجئين من الحقوق المدنية والاجتماعية، حفاظاً على التوازن الديموغرافي، مع استثناء فئة ضئيلة منهم حصلت على الجنسية اللبنانية، وغالبيتهم من المسيحيين. بالإضافة إلى فرض الكثير من القيود عليهم خصوصا في سوق العمل.

تمثل معارك "عين الحلوة" واحدة من مؤشرات تصاعد نفوذ "حماس" في لبنان. فهي التي سهلت، بالتنسيق مع "حزب الله"، عودة عدد من المتطرفين الإسلاميين المطلوبين للسلطات اللبنانية من سوريا

في تسعينات القرن الماضي، قامت الاستخبارات السورية التي كانت تسيطر على حكم لبنان بترك المخيمات كقناة للأعمال غير القانونية، وذلك من باب التربح غير الشرعي لضباط الاستخبارات، ولإبقاء المخيمات أسيرة ضغط اجتماعي يعقد من مهمة اندماجها أو تشكيلها كتلة شعبية سياسية تصب في خانة دعم السلطة الفلسطينية. وهذا ما كانت له آثار بالغة الخطورة على مجتمع الشتات الفلسطيني وفق ما تظهره الإحصاءات.
وحسب مؤشرات "الأونروا" في مارس/آذار 2023، يبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان قرابة 490 ألف لاجئ، يضاف إليهم نحو 31 ألف لاجئ من نازحي المخيمات الفلسطينية في سوريا. يعيش 45 في المئة منهم في المخيمات الـ12، أي أقل من النصف. تبين هذه الأرقام تغير التركيبة الديموغرافية للسكان في المخيمات، بعدما سكنها الكثير من غير الفلسطينيين، والذين فاق عددهم في بعض المخيمات عدد اللاجئين، بينهم عدد كبير من الخارجين عن القانون وتجار المخدرات. 
على سبيل المثال، تشير أرقام "المركز الفلسطيني للإحصاء"، إلى أن نسبة النازحين السوريين بلغت نحو 58 في المئة من إجمالي السكان في مخيم "شاتيلا"، ونحو 49 في المئة في مخيم "برج البراجنة". كذلك تبين مؤشرات "الأونروا" لعام 2022، أن معدل الفقر بين اللاجئين الفلسطينيين بلغ قرابة 93 في المئة وهو رقم مخيف.

تصاعد نفوذ "حماس"

تمثل معارك مخيم "عين الحلوة" واحدة من مؤشرات تصاعد نفوذ "حماس" في لبنان. فهي التي سهلت، بالتنسيق مع "حزب الله"، عودة عدد من المتطرفين الإسلاميين المطلوبين للسلطات اللبنانية من سوريا، حيث كانوا يقاتلون إلى جانب "جبهة النصرة" وتنظيم "داعش"، عبر تركيا، عن طريق أحد الفلسطينيين المقربين من "حماس"، والذي يعمل مع منظمات تركية غير حكومية، وذلك قبل أسابيع قليلة من اغتيال قائد "الأمن الوطني" أبو أشرف العرموشي، الذي شكل الشرارة التي أشعلت الاشتباكات.

أ ف ب
طفلان يسيران أمام لوحة جدارية لمقاتلين ملثمين من "كتائب القسام" و"كتائب القدس"، مرسومة على جدار في مخيم برج البراجنة، 5 فبراير

قبل ذلك، كان لـ"حماس" حضور في لبنان يغلب عليه طابع الصمت والابتعاد عن الضوضاء والأمور الإشكالية. وتبدلت هذه الاستراتيجية عقب انتخاب قيادة جديدة للحركة عام 2017، تميل إلى تعزيز التحالف مع إيران وقوى "الممانعة"، والتي عملت على توسيع حضورها على الساحة اللبنانية، ولا سيما عقب أحداث "الشيخ جراح" في القدس عام 2021، بالاستناد إلى مبدأ "وحدة الساحات" الذي أطلقه قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني، وطوره أمين عام "حزب الله" حسن نصر الله.

تبرز الفوضى بشكل أساسي في مخيمي "شاتيلا" في بيروت، و"البداوي" في الشمال، اللذين تحولا في السنوات الأخيرة إلى موئل لشبكات تجار المخدرات ومروجيها

والحال أن الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، أظهرت نجاح "حماس" في بناء قاعدة نفوذ مؤثرة في لبنان، تشمل غالبية المخيمات، وتمتد في مختلف المناطق اللبنانية ذات الكثافة السنية، سواء كانت ريفية أم حضرية. وتتركز قوة "حماس" في مخيمات "البص" و"البرج الشمالي" في الجنوب، بالإضافة إلى "برج البراجنة"، الواقع ضمن دائرة نفوذ "حزب الله" بالضاحية الجنوبية لبيروت، حيث تسيطر عمليا على القرار في هذه المخيمات الثلاث، رغم وجود حركة "فتح"، التي تواجه في الآونة الأخيرة جملة من التعقيدات، تقوض فعاليتها وتضعف قدرتها في الحفاظ على قرار المخيمات. 
وتعاني حركة "فتح" حالة من الترهل نتيجة الانشقاقات التي تعرضت لها في العقود الماضية، وبناء بعض قياداتها في المخيمات علاقات خاصة مع "حزب الله" للحفاظ على نفوذها الشخصي. علاوة على تراجع موازنة "الأونروا"، المهددة بالزوال، بشكل كارثي. وصولا إلى تراجع قدرة السلطة الفلسطينية على تحويل الأموال إلى المخيمات، بسبب الإجراءات التي اتخذها وزير المال الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، والتي حرمتها من الموارد المالية، بعدما كانت تحول شهريا نحو 15 مليون دولار لتمويل المخيمات. هذه العوامل أدت إلى تصاعد حدة الفوضى في المخيمات التي لا تزال تحت سيطرتها.

بين الفوضى والاستقرار

وتبرز الفوضى بشكل أساسي في مخيمي "شاتيلا" في بيروت، و"البداوي" في الشمال، اللذين تحولا في السنوات الأخيرة إلى موئل لشبكات تجار المخدرات ومروجيها، وحلبة لصراعاتهم الدموية، وسط انتشار كبير للحبوب المخدرة في أوساط الشباب. بالإضافة إلى انتشار الصراعات الفردية والعائلية. 
وبين الحين والآخر، يقوم أحد الأجهزة الأمنية اللبنانية بمداهمة مخيم "شاتيلا" أو مخيم "البداوي" لاعتقال أحد تجار المخدرات، دون أن يفضي ذلك إلى تجفيف منابع هذه التجارة القاتلة. ويعزو الكثير من قيادات حركة "فتح" وفصائل "منظمة التحرير" نمو شبكات المخدرات في المخيمين إلى الارتفاع المخيف في معدلات البطالة خصوصا بين الشباب.

سكان هذه المخيمات، والذين في غالبيتهم من مؤيدي حركة "فتح"، يجدون في أنفسهم ميلا إلى تسليم قرار هذه المخيمات إلى حركة "حماس"، للتخلص من حالة الفوضى وآثارها المنهكة

أما المخيمات الصغيرة التي تضم أعدادا أقل بكثير من اللاجئين، مثل مخيم "ويفل" الذي هاجر عدد كبير من قاطنيه إلى أوروبا، ومخيم "الضبية" الذي يؤوي منذ تأسيسه اللاجئين الفلسطينيين المسيحيين، والأمر نفسه بالنسبة لمخيم "مار إلياس" بالعاصمة بيروت، فإنها لا تعاني من الفوضى، لكنها تعاني من نقص هائل في الخدمات الأساسية، وعجز حركة "فتح" عن اجتراح الحلول لهذه المشاكل. في حين أن مخيم "نهر البارد" في الشمال لا يزال يعاني من تداعيات الحرب التي شنها الجيش اللبناني على تنظيم "فتح الإسلام" الإرهابي عام 2007، الذي كان يتحصن في المخيم، مما أدى إلى تدمير الجزء الأكبر من بنيانه، وإلى اليوم لم تنجز عملية إعادة الإعمار بشكل نهائي.

أ ف ب
فلسطينيون يسيرون تحت ملصق يظهر يحيى السنوار، رئيس حركة "حماس" في غزة، في أحد الشوارع داخل مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين، جنوب بيروت، 5 فبراير

إزاء هذا الواقع الصعب والمعقد، فإن شرائح من سكان هذه المخيمات، والذين في غالبيتهم من مؤيدي حركة "فتح"، بدأوا يجدون في أنفسهم ميلا إضطراريا إلى تسليم قرار هذه المخيمات إلى حركة "حماس"، للتخلص من حالة الفوضى وآثارها المنهكة، خصوصا حينما ينظرون إلى حالة "الاستقرار" التي رسختها الحركة في مخيم "عين الحلوة" الأكثر اكتظاظا وتعقيدا. 
في الواقع تسعى "حماس" إلى الإمساك بقرار المخيمات من ضمن مساعيها لإعادة تكوين السلطة فيها، سواء كان ذلك بالشراكة النظرية مع حركة "فتح" حيث تكون لها اليد الطولى، أم من دونها، وهي تُعد لذلك عبر شبكة من الأعضاء الموزعين في هذه المخيمات، ومن الناشطين الشبان المقربين منها، ومن الجمعيات والهياكل الاجتماعية التي تديرها. ويسهم في ذلك تفاعل شرائح من سكان هذه المخيمات مع عملية "طوفان الأقصى" وخصوصا من جيل الشباب.

font change

مقالات ذات صلة