انطلقت أغلب الدراسات عن الجماعات المتطرفة على اختلاف أسمائها ومناطق نفوذها من النقطة الجامعة بينها، فوجدت أن سيد قطب هو المنظِّر الأشهر في صفوف تلك الجماعات، ومن هنا كثرت الدراسات عن أفكاره وأصولها التي تمتد إلى أبي الأعلى المودودي، لكنَّ قطب كان ظاهرة معلنة، لعب قلمُ الأدب في تسويق أفكاره، وكانت قصة إعدامه هي الأخرى عامل دعاية له، سيما وقد ارتبط إعدامه بنظام جمال عبد الناصر الذي لم يصمد طويلا بعده.
إلا أن الأمر أعقد من ذلك، إذ إن أفكار سيد قطب ساذجة وكان هذا جزءا من تسهيل تداولها، وهو الذي لخصها في كتابه "معالم في الطريق" ولكنَّ العرّاب الحقيقي قد لا يكون ظاهرا للجميع، عادة ما يكون مختفيا، في منطقة آمنة لا تطالها أعين النقاد، وكذلك كان حال ذلك المولود في تركيا العثمانية، فشهرته تكاد تنحصر بين قلة من المتخصصين، كاتب محترف، عمل في سلك كُتَّاب السلطان، تولى العمل مديرا للقلم الخاص بالسلطان عبد الحميد، ونال خلال تلك المدة ميدالية اللياقة الذهبية، ومُنح وساما عثمانيا من الدرجة الرابعة، واستمر في عمله إلى سنة 1913، ثم تولى مشيخة الإسلام 1919 فهو آخر شيخ إسلام في الدولة التركية العثمانية، مصطفى صبري المتوفى سنة 1954.
مثَّل صبري كل ما هو قديم، فهو موظف مرموق في دولة "الخلافة" التركية، وهو شيخ الإسلام فيها، وشاهد بعينيه تحطم كل ما عوَّل عليه، رأى التغيير السريع في تركيا، وتحولها من خلافة إلى جمهورية، وتحول هو الآخر من شيخ الإسلام إلى مطرود من بلده منزوع الجنسية، حيث أقام في مصر التي كانت تتلمس طريقها لتصبح دولة مستقلة، فما كان منه إلا أن أدرك أن رسالته ليست زمنية، فانهمك بوضع أفكاره في عدة كتب، أرسلها إلى الأجيال اللاحقة، وما دامت أفكاره مختفية، لا تظهر إلا لقلة فإنها تعطي مفعولا بعيد المدى، بلقبه، وقدرته العالية على الكتابة.
هاجم مصطفى صبري المثقفين المصريين الذين عاشرهم، واعتبر أن ما يقولونه افتراءات بحق "الخلافة" العثمانية، وسوّغ كل ما كان من تاريخ الأتراك في المنطقة العربية
في كتابه "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين" هاجم المثقفين المصريين الذين عاشرهم، واعتبر أن ما يقولونه افتراءات بحق "الخلافة" العثمانية، وسوّغ كل ما كان من تاريخ الأتراك في المنطقة العربية، ولم يكن هذا مستغربا منه، إذ إنه يدافع عن نفسه حين يدافع عن الدولة التي كان موظفا فيها، فهو في جانب الطرف المتهم بالاستغلال، جزء من آلته الدعائية، التي منحته شرعية أفعاله، فاختار أن يجعل مهاراته في محاربة العالم الجديد الآخذ في التشكّل، حيث الدول المستقلة، التي لا يوجد فيها سلطان الخلافة!
وكتب "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة"، هاجم فيه الحكومة التركية الجديدة قائلا: "ما ابتدعه الكماليون من تجريد الخلافة من السلطة وإيقاع الفرقة بينهما أمر يرجع إلى ارتداد الحكومة التركية وانتزاعها عن لباسها الديني"، ورأى في ذلك سقوط "النيابة عن حكومة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته". وبهذا صارت حكومة مرتدة، فأكد صبري على "حاكمية الدين في المملكة" قبل سيد قطب، وكان إلغاء سلطان الخلافة ردة في نظره، فقال: "كون الحكومة متدينة بدين الإسلام لا يتحقق إلا بجعل الدين عاملا وذا نفوذ في الحكومة، والحال أن الحكومة خرجت من ربقته وقطعت تدخله فيها، بتفريق الخلافة عن السلطة".
نشر مصطفى صبري كل أفكار الجماعات التي خرجت في مصر بعده بعقود، ووضع لها الأطر النظرية التي تعتمد على ما تعلمه في تركيا العثمانية
ورأى أن الاستعمار أفضل من فكرة إلغاء الخلافة، فقال: "فقد الاستقلال على درجاته أهون من فقد الدين، ولا تقل: أين فقد الدين؟ بعد أن اختارت الحكومة الخطة اللادينية". لقد رفض صبري اعتبار سقوط "الخلافة" التركية بعوامل داخلية، تتمثل في تخلّف الخلافة التركية في مختلف الميادين، فلم يكن لنظامها أن يعمر طويلا، وأن الشعوب التي حكمها الأتراك بالنار والحديد سوف تستقل عن حكم الخلافة التركية، لكنه تعامل مع كل ما جرى على أنه تخطيط من أعداء الدين، ومؤامرة محبوكة ضد الإسلام.
لقد نشر كل أفكار الجماعات التي خرجت لاحقا في مصر بعده بعقود، ووضع لها الأطر النظرية التي تعتمد على ما تعلمه في تركيا العثمانية، باعتبار أن الدول التي استقلت عن "الخلافة" دول فرَّقت الحكم عن السلطان الديني، ولم يكن لمن بعده سوى أن يفعِّلوا كلامه على دولهم وأوطانهم، ويعيدوا إنتاج ما كتب بعد أن يغيّروا العبارات، لقد كان عدوا لكل ما ليس عثماني الهوية بجعله عدوا للإسلام، كونه لا يحمل الولاء لخليفته الذي أغدق عليه المنح والرتب والأوسمة، وهو ما احتاجه من أتى بعده، فأعادوا كلامه، لذا لم يكن غريبا على الجماعات وعلى رأسها الإخوان المسلمون أن تقول إنها تعمل على استئناف حياة إسلامية بعد سقوط الخلافة!