حين حاول الرومان السيطرة على طريق البخور غرب الجزيرة العربية

أخبار حملة أوليوس غالوس الفاشلة كما رواها المؤرخ سترابون عام 25 قبل الميلاد

shutterstock
shutterstock
الجزيرة العربية

حين حاول الرومان السيطرة على طريق البخور غرب الجزيرة العربية

كان طريق البخور العابر للجانب الغربي من الجزيرة العربية، موضع اهتمام قديم من جانب الإغريق والرومان عبر تاريخهم الطويل، وقد خصّص الرحالة والمؤرخ الإغريقي الشهير هيرودوت (484- 425 ق.م) فصلا من كتابه الضخم "التاريخ" تحدث فيه عن حياة العرب الباذخة، والمحاصيل العطرية التي أطنب في تعداد أنواعها وتبيان طرق قطافها التي وصلت إلى حدود الخيال. وهذه البضائع كانت تستنزف ثروات الإغريق والرومان بسبب أثمانها الباهظة، حيث لم يكن ثمة إمكان للاستغناء عنها في طقوس معابدهم وأعيادهم الدينية، وحتى في الأدوية التي كان يصنعها حكماؤهم.

مع دخول روما عصرها الإمبراطوري، أصبحت السيطرة على طرق التجارة الدولية الشهيرة واحدة من أولوياتها العسكرية، بعدما كانت في عصرها الجمهوري تعتمد على الاتفاقات والوكلاء المحليين. ويبدو أن كتب المؤرخين والرحالة الرومان والإغريق أغرت أغسطس قيصر (63 ق.م- 14 م) بالسيطرة على طريق البخور، وصولا إلى مزارع الطيوب في جنوب الجزيرة العربية، فاستشار حليفه الملك النبطي عبادة الثالث (حكم من 30 إلى 9 ق.م) بالأمر، فرحب بالفكرة ووضع وزيره الداهية سُلَيّ تحت تصرف قائد الحملة أليوس غالوس الوالي الروماني على مصر آنذاك.

لا نعلم إن كان المؤرخ والجغرافي الروماني سترابون (63 ق.م - 24م) قد رافق حملة غالوس، كما يذهب بعض الدارسين، أم أنه سمع أخبارها من صديقه الوالي الروماني، ولكنه نقل تفاصيلها بدقة في كتابه الشهير "الجغرافيا"، ووقف على محطاتها وما اعترضها من صعوبات أدّت إلى فشلها. وكما هو متوقع منه، فقد عزا سبب هذا الفشل إلى خيانة الوزير النبطي سُلَيّ الذي أعدم في روما في العام السادس قبل الميلاد على يد أغسطس قيصر لسبب آخر غير فشل الحملة كما تدل نصوص المؤرخين. وعلى الرغم من ذلك، يصر سترابون على أن الإعدام كان بسبب خيانة سُليّ وتسببه بفشل حملة صديقه غالوس وهي، على ما يبدو، محاولة مستميتة لتبرئة صديقه من تهمة الفشل الذريع الذي أزهق أرواح آلاف الجنود الرومان وأضر بصورة الإمبراطورية في لحظة إعلانها لنفسها.

 مع دخول روما عصرها الإمبراطوري أصبحت السيطرة على طرق التجارة الدولية الشهيرة واحدة من أولوياتها العسكرية

ثراء العرب

قبل أن يتناول حملة غالوس، مهد سترابون لحديثه عن العرب السبئيين والجرهائيين بقوله إنهم كانوا من أثرى الناس قاطبة بسبب تجارتهم الواسعة بالطيوب والتوابل، وقال إن سبب ثرائهم هم نقل هذه البضائع أو المتاجرة فيها، فكلاهما يجلب الثروة لأصحابه. وبحسب سترابون، فقد استعد غالوس لهذه الحملة جيدا حيث بنى ثمانين سفينة بطوابق متعددة، ولكنه اكتشف في ما بعد أن الأمر لا يتعلق بحرب بحرية بل الهدف هو نقل الجنود إلى ساحل الجزيرة العربية، والسبب عدم وجود أسطول معاد، ولذلك أمر ببناء 130 سفينة مخصصة لنقل الجنود العشرة آلاف الذين جندهم، بمن فيهم 1000 جندي عربي من الأنباط، ونحو 500 جندي من جيش الملك هيرودوس الأدومي، حاكم فلسطين آنذاك. ونستطيع أن نستشف من دون مورابة صفة الاندفاع غير المتبصر في هذا الوالي الروماني الذي لم يدرس أوضاع الجزيرة العربية جيدا قبل أن يبني أسطولا كبيرا اضطر إلى تفكيكه لبناء أسطول آخر للنقل فقط، كما أنه لم يدرس طبيعة الشعاب المرجانية في البحر الأحمر لكي يتجنب المناطق الضحلة التي أدّت الى دمار أسطوله قبل وصوله إلى الساحل العربي.

وصل الجنود الرومان إلى ميناء "لوكي كومي" على الساحل الشمالي للبحر الأحمر وهو موقع اختلف الباحثون في تحديده إن كان ميناء الحوراء أم الوجه أم ينبع البحر في المملكة العربية السعودية. وصلوا منهكين جائعين عطاشى مذعورين بسبب بقائهم في البحر بين الشعاب المرجانية خمسة عشر يوما. ولذلك قضى أليوس غالوس وجيشه فصول الصيف والخريف والشتاء في الميناء ريثما استعاد الجيش عافيته لينطلق في الربيع إلى اليمن.

من أرض الحارث إلى أرض صعب

من ميناء "لوكي كومي" انطلق الجيش متوجها نحو اليمن، فدخل أرضا لم يذكر المؤرخ سترابون اسمها، ولكنه أسماها أرض الملك حارثة (Aretas)، وقال إن هذا الملك يمت بصلة قرابة لملك النبط عبادة (Obadas)، وهذا القول فتح باب التكهنات لدى الدارسين منذ قرنين من الزمان، وذهبت تقديرات غالبيتهم إلى أنه من الأسرة النبطية الحاكمة، وأنه كان ملكا على الجزء الجنوبي من مملكتهم. وهذا أمر لا يستقيم، ولا تؤيده أي نقوش أو نصوص تاريخية، فقد أجمع المؤرخون الذي كتبوا عن الأنباط وجود ملك واحد، ولم يتحدث أحد منهم عن وجود ملكين. وحتى لو كان هناك والٍ على جزء من المملكة فلا يمكن أن يسمى ملكا.

(واس )
"درب البخور" شريان تجارة العطور من جنوب الجزيرة العربيّة إلى شمالها

ويبدو أن حل هذا اللغز يكمن في النقش النبطي الذي عثر عليه في موقع القطيعة قرب تيماء في شمال المملكة العربية السعودية وفيه ذكر لملك يدعى حارثة بن زيد مناة ملك غسان. وهذا الاقتراح ينسجم مع المعطيات التاريخية الأخرى التي تحدثت عن وجود مملكة للغساسنة في المنطقة الواقعة إلى الجنوب من مملكة الأنباط، ويؤيد ذلك وجود قبيلتي الأوس والخزرج في المدينة المنورة (يثرب) في صدر الإسلام، وهما من قبائل الغساسنة المعروفة.

  نستشف من دون مورابة صفة الاندفاع غير المتبصر في هذا الوالي الروماني الذي لم يدرس أوضاع الجزيرة العربية

استقبل الملك حارثة أليوس غالوس استقبالا حسنا ورحب به وبجيشه، ويبدو أنه زودهم المؤن لاستكمال مسيرهم نحو اليمن، فسارت الحملة ما يزيد على ثلاثين يوما إلى أن دخلت أرضا وعرة قاحلة مأهولة بالأعراب تدعى عرعرين (Ararene) عليها ملك اسمه صعب (Sabos). ولا يخبرنا غالوس موقف الملك صعب من الحملة، إن كان قد أيدها وأمدها بالمؤن أو أنه واجهها؟ ولكن صيغة خبر الملك صعب وأرضه توحي بأنه التزم الحياد.

من نجران إلى مأرب

ومن أرض عرعرين انطلق غالوس وجيشه مدة  خمسين يوما حتى مدينة نجران (NEGRANI)، وهي كما يقول منطقة خصبة مزروعة آمنة، هرب ملكها، وأخذ الرومان مدينته. وبعد مسيرة ستة أيام عنها بلغ نهرا جرت عنده معركة خسر فيها العرب عشرة آلاف رجل. أما الرومان فلم يخسروا غير رجلين (؟!)، ومرد ذلك، بحسب سترابون، يرجع إلى تفوق الرومان في خططهم الحربية وعتادهم العسكري على عرب تلك الديار الذين كانت أسلحتهم تقتصر على السهام والرماح والسيوف والبلطات والمقاليع، وقد حدد أغلب الباحثين الذين درسوا جغرافيا هذه الحملة موقع هذه المعركة قرب وادي غيل الخارد في محافظة الجوف اليمنية حيث أنها المنطقة الوحيدة في تلك البلاد التي يجري فيها نهر كبير بحجم النهر الذي ذكره سترابون.

 wikipedia
حملة جالوس

بعد هذه المعركة غير المتكافئة سقطت مدينة أسقة، التي يعتقد بأنها مدنة نشق اليمنية المعينية التي ورد اسمها في نقوش المسند بصيغة نشان، وموقعها الحالي هو ما يسمى "الخربة السوداء" في محافظة الجوف اليمنية قرب وادي الخارد المار ذكره، وهي الأخرى فر ملكها منها كما يقول سترابون، ومنها توجهت الحملة إلى مدينة أثرولة التي لم يستطع أحد تحديد موقعها على وجه الدقة، وتزود منها الحبوب والتمر وتوجه إلى مدينة مأرب (Marsiaba)، التي يطلق عليها اسم مدينة الرحمانيين (Rhammanitae) الخاضعين للملك الشرح (ilassarus).

Shutterstock
تمثال سترابو أماسيا - تركيا

هذه الفقرة تحتاج إلى شرح، ففيها الكثير من الألغاز التي تستحق التوقف عندها، فمدينة مأرب كانت مدينة مقدسة فيها أكبر معابد اليمنيين القدماء والذي يسمى الآن اعتباطا "محرم بلقيس"، والغريب أن النقوش والكتابات اليمنية لا تذكر قبيلة أو شعبا باسم الرحمانيين، بل ثمة إله يدعى رحمن لا تمثال له ولا صورة، ويرد في سياقات توحي بأنه اسم للإله الواحد، ومن المحتمل أن أتباع هذه الديانة اليمنية أطلقوا على أنفسهم في أثناء حملة غالوس اسم الرحمانيين نسبة لهذا الاله. أما اسم إيلاساروس بصيغيته اليونانية فهو يشير بلا شك إلى اسم الشرح، وهو اسم شائع عند اليمنيين، ولكن في فترة حملة غالوس ثمة فجوة زمنية في تسلسل ملوك سبأ حيث لا تظهر النقوش اسم ملك تلك الفترة.

حصار وانسحاب

وبحسب سترابون فقد حاصر غالوس المدينة ستة أيام، لكنه غادرها بسبب قلة مياهها، وعلم من الأسرى الذي أسرهم من حامياتها أن أرض الطيوب تبعد عنها مسيرة يومين فقط، فقفل عائدا إلى مصر بحجة نقص المياه. وقد كان طريق العودة أسرع، فقد بلغ مدينة نجران في تسعة أيام، وهناك نشبت من جديد معركة بين العرب والرومان يبدو أن الرومان تكبدوا فيها خسائر فادحة. أما غالوس فأسرع متوجها إلى الشمال فبلغ بعد أحد عشر يوما منطقة أسماها الآبار السبع لوجود آبار فيها، ومنها إلى منطقة تدعى كعلا أو كهلا (Chaalla) (ربما هي ذات كهل الفاو الحالية في المملكة العربية السعودية) ثم منطقة أخرى تدعى ملوثة (Malothas) إلى أن وصل إلى الحجر في أرض الملك عبادة، ومنها إلى ميناء الحجر، وقد قطع المسافة كلها من مأرب إلى ميناء الحجر بستين يوما، حيث عاد بمن تبقى من جيشه إلى الإسكندرية، مجللا بالهزيمة والفشل والمرض.

صرف الرومان النظر عن السيطرة على طريق البخور، وربما سمح ذلك باستمرار المملكة النبطية

بعد هذه الحملة الفاشلة صرف الرومان النظر عن السيطرة على طريق البخور، وربما سمح ذلك باستمرار المملكة النبطية نحو قرن آخر من الزمان، إذ قامت هذه المملكة العربية بدور الناقل الحصري لبضائع اليمن إلى روما، والدليل على ذلك انتشار المحطات التجارية النبطية في البحر المتوسط وصولا إلى الميناء النبطي قرب مدينة نابولي الإيطالية، وكل هذه المنشآت أقيمت في عهد الحارث الرابع (حكم من  9 ق.م حتى 41 م) خليفة الملك عبادة الثالث.

font change

مقالات ذات صلة