نعي حزب "المحافظين" البريطاني

تاريخ الميلاد: 1834- تاريخ الوفاة: 2024؟

المجلة
المجلة
رئيس الوزراء ريشي سوناك قدم استقالته بعد الخسارة المدوية لحزبه، "المحافظين"، في انتخابات 4 يوليو

نعي حزب "المحافظين" البريطاني

تواصل التقارير في وسائل الإعلام التقليدية ونظيرتها الإلكترونية نشر معلومات تفيد بأن حزب "المحافظين" البريطاني، الذي يعود تاريخه إلى 190 عاما، قد فارق الحياة أو يواجه خطر الموت. وظهر الحزب لآخر مرة أثناء مشاركته في الانتخابات العامة في المملكة المتحدة يوم 4 يوليو/تموز 2024، حيث بدا متأثرا بوعكة خطيرة، مما أثار تكهنات واسعة حول حالته ومصيره المحتمل. وفي حال تأكدت نهايته في الأشهر أو السنوات القادمة، يمكن توجيه التبرعات بدلا من الزهور إلى مؤسسة (حزب) "الإصلاح" في المملكة المتحدة.

يتمتع حزب "المحافظين" البريطاني بلا شك بتاريخ حافل ومذهل، حيث يعد أقدم وأكثر الأحزاب السياسية نجاحا في الغرب. واستطاع عبر سنواته الـ190 الحفاظ على السلطة في ما يسمى اليوم بالمملكة المتحدة لما يقرب من 108 سنوات، سواء بمفرده أو كجزء من حكومات ائتلافية. وتطورت إنجازات الحزب مع تقدم العمر، إذ حافظ على السلطة لمدة تزيد على 79 عاما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بنسبة 62 في المئة من الوقت، إما بمفرده وإما بالشراكة مع أحزاب أخرى.

نشأ حزب "المحافظين" عام 1834 في أعقاب مشروع قانون الإصلاح لعام 1832، الذي شهد توسيعا كبيرا في نطاق التصويت وإصلاح القواعد الانتخابية. ويعود أصل هذا الحزب إلى كيان أقدم، وهو حزب توري (محافظ)، الذي كانت بداياته كنظام إيماني فضفاض في القرن السابع عشر قبل أن يتحول إلى حزب رسمي في أوائل القرن التاسع عشر. والسبب في لقب حزب "المحافظين" الحالي يعود إلى هذا السلف المبكر.

وكان أول رئيس وزراء محافظ هو السير روبرت بيل، الذي تولى المنصب لفترتين، من 1834 إلى 1835، ومن 1841 إلى 1846. وكان أحد أبرز إنجازاته التاريخية إنشاء أول قوة شرطة منظمة وإلغاء قوانين الحبوب عام 1846. وعلى الرغم من أن هذا الإجراء كان خطوة نحو المزيد من التجارة الحرة، فإنه أدى إلى تقسيم الحزب وإبعاده عن السلطة لفترة طويلة خلال معظم العقود الثلاثة اللاحقة.

ساهم وصول بنيامين دزرائيلي كزعيم في أواخر ستينات القرن التاسع عشر بشكل كبير في تعزيز صورة حزب "المحافظين"، حيث أصبح يُعرف كحزب الطبقات الوسطى وأحد أعضائه الأكثر تحفظا في مناطق الطبقة العاملة، خاصة في وسط إنكلترا. وأسهم التركيز الشديد على الإمبراطورية البريطانية في زيادة شعبية الحزب بشكل خاص، حيث كانت هذه القضية وسيلة فعالة لتجاوز الحواجز الطبقية السائدة.

ومع ذلك، يمكن اعتبار هذا التركيز على الإمبراطورية أيضا مصدر تحديات للحزب في عصر ما بعد الإمبراطورية. حيث أدى الحنين إلى المجد القديم إلى تضخم الشعور بأهمية المملكة المتحدة في العالم.

وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، تأثر حزب "المحافظين" بشكل كبير بالقضية الأيرلندية. وبينما استمر ما يمكن اعتباره سيطرة استعمارية بريطانية لفترة طويلة، ظهرت حركة قومية ناشئة تحدت هذه العلاقة لسنوات عديدة. واستفاد المحافظون هذه المرة انتخابيا من انقسام خصمهم الرئيس، الحزب الليبرالي، حول قضية الحكم الذاتي في أيرلندا. ففي حين دعمت القيادة الليبرالية الحكم الذاتي، عارضه المحافظون.

شاترستوك
تمثال رئيس الوزراء المحافظ بنيامين ديزرائيلي أمام قاعة سانت جورج في ليفربول

وأثناء الحرب العالمية الأولى، انضم حزب "المحافظين" إلى ائتلاف في السنة الثانية من الصراع، مما مكنهم من البقاء في السلطة حتى عام 1924. وباستثناء فترة قصيرة من الغياب عن الحكومة، هيمن الحزب على المشهد السياسي البريطاني حتى عام 1945، نهاية الحرب العالمية الثانية. وشمل ذلك قيادات من المستويات العليا والدنيا خلال السنوات التي سبقت الحرب وأثناء القتال.

نشأ حزب "المحافظين" عام 1834 في أعقاب مشروع قانون الإصلاح عام 1832، الذي شهد توسيعا كبيرا في نطاق التصويت وإصلاح القواعد الانتخابية

وجاءت إحدى النكسات البارزة في تاريخ الحزب على يد نيفيل تشامبرلين، عضو البرلمان عن منطقة برمنغهام، والذي أصبح زعيما للحزب في عام 1937. وارتبط تشامبرلين إلى الأبد بسياسة الاسترضاء، عندما أبرم صفقة مع أدولف هتلر، الزعيم النازي، في سبتمبر/أيلول 1938، مما مهد الطريق لألمانيا للاستيلاء على تشيكوسلوفاكيا بأكملها عام 1939.

ومع الغزو الألماني لبولندا في سبتمبر 1939، دخلت بريطانيا الحرب، وبحلول عام 1940 شُكلت حكومة وحدة وطنية بشرط تنحي تشامبرلين عن منصب رئيس الوزراء. وكان بديله، وهو أشهر رئيس وزراء بريطاني في التاريخ، رجلا مرتبطا بشكل أساسي بشعار "المحافظين"، على الرغم من أنه كان في وقت سابق عضوا في الحزب الليبرالي. إنه بالطبع ونستون تشرشل، الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من الروح القتالية التي قادت بريطانيا إلى النصر مع تحالف الحلفاء خلال الحرب. وقلما يذكر طرد الناخبين لتشرشل و"المحافظين" من السلطة بشكل حاسم في يوليو/تموز 1945، بعد وقت قصير من انتهاء الأعمال العدائية في أوروبا.

أ ف ب
ونستون تشرشل اشهر رئيس وزراء بريطاني من حزب المحافظين

لكن بحلول ذلك الوقت، كان حزب "المحافظين" قد أصبح تقريبا الحزب الحاكم الطبيعي في إنكلترا، الدولة الأكثر اكتظاظا بالسكان في المملكة المتحدة. وهكذا، كانت عودته إلى السلطة أمرا حتميا، وجاءت في عام 1950 مع المحاولة الثانية لتشرشل، تلاه أنتوني إيدن ثم هارولد ماكميلان. وعلى الرغم من أزمة السويس عام 1956، التي شكلت كارثة في السياسة الخارجية البريطانية وسط تفكك الإمبراطورية، بقي الحزب صامدا ومسيطرا حتى عام 1964.
في الستينات والسبعينات، واجه حزب "المحافظين" عقبات عديدة، إلا أن الأمور تغيرت في عام 1979 مع تشكيل حكومة الأغلبية بقيادة مارغريت ثاتشر. تبع ذلك ثمانية عشر عاما من حكم "المحافظين"، حيث شهدت البلاد تغييرات اقتصادية وهيكلية عميقة من خلال سياسات الثاتشرية. واستمرت تأثيرات هذه التغييرات إلى حد كبير، رغم استعادة حزب "العمال" للسلطة من عام 1997 إلى عام 2010.
ساعدت المرونة في إطالة عمر حزب "المحافظين"، حيث أثبت مهارته في تعديل أو تبني السياسات التي تحظى بشعبية لدى الناخبين، مع الحفاظ على القيم الاجتماعية والاقتصادية المحافظة. وكان آخرها في أواخر القرن العشرين، حين دعم الحزب السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة خلال حقبة ثاتشر.
أثبتت قيادة حزب "المحافظين" أنها منفتحة أيضا على الأفراد من المجموعات التي تعرضت تاريخيا للتمييز في المملكة المتحدة. فقد ولد بنيامين دزرائيلي يهوديا (رغم أنه اعتنق الأنغليكانية في سن الثانية عشرة)، وكان أول من يقود الحزب من تلك الخلفية. وفي عام 1975، أصبحت مارغريت ثاتشر أول امرأة تتزعم الحزب، وأول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في عام 1979. وفي عام 2022، أصبح ريشي سوناك، ابن المهاجرين من جنوب آسيا إلى المملكة المتحدة، أول شخص ملون وأول هندوسي يتولى رئاسة الحزب، ومن ثم رئاسة الوزراء.
وبعد فترة طويلة أخرى في السلطة، تراجعت الصورة العامة لحزب "المحافظين" بشكل كبير، وبات يواجه تحديات حرجة يمكن أن تعرض مستقبله للخطر. وليس من المصادفة أن البعض في وسائل الإعلام البريطانية أبدوا خلال الأسابيع القليلة الماضية اهتمامهم بالانتخابات الفيدرالية الكندية عام 1993، والتي أدت إلى إبادة حزب "المحافظين التقدمي" الذي ينتمي إلى يمين الوسط، والذي يشبه حزب "المحافظين" البريطاني. إذ بالكاد استطاع الحزب الكندي الاستمرار بشخصين فقط في البرلمان بعد تصويت عام 1993. وسرّع ظهور بديل يميني له يدعى حزب "الإصلاح" بزواله، على الرغم من أن كندا كانت تتمتع بعوامل إقليمية فريدة لا تنطبق على المملكة المتحدة.
ملحوظة تحذيرية بخصوص مدى إمكانية أن تكون الأزمة الحالية لحزب "المحافظين" قاتلة. إذ جرى التكهن في الماضي بشأن اندثاره حتى من داخل صفوف حزب "المحافظين" نفسه. ففي عام 2002، حذرت تيريزا ماي، التي قادت الحزب بعد ذلك، خلال اجتماع حزبي، من أن "هناك الكثير مما يجب علينا فعله في حزبنا. قاعدتنا ضيقة جدا، وكذلك نسبة تعاطفاتنا أحيانا. تعرفون اللقب الذي يطلقه علينا البعض: الحزب السيئ".
وقلما يذكر أن الحزب في وقت انتقاد ماي كان يميل نحو اليمين تحت قيادة إيان دانكان سميث، ومايكل هوارد، قبل أن يعود إلى الوسط مرة أخرى. وفي عام 2005، اختار الحزب ديفيد كاميرون البالغ من العمر 39 عاما زعيما له، وكجزء من عملية تغيير ناجحة، عاد إلى السلطة في حكومة ائتلافية مع الديمقراطيين الليبراليين في عام 2010. 

ساعدت المرونة في إطالة عمر حزب "المحافظين"، حيث أثبت مهارته في تعديل أو تبني السياسات التي تحظى بشعبية لدى الناخبين، مع الحفاظ على القيم الاجتماعية والاقتصادية المحافظة

وعند عودته إلى السلطة في عام 2010، لاحقت حزب "المحافظين" أمجاده السابقة، وكانت أبرزها القضية التي عانى منها الحزب لعقود طويلة، وهي مكانة المملكة المتحدة في أوروبا. إذ كانت هناك رغبة كبيرة لدى جزء كبير من حزب "المحافظين" في إجراء إصلاحات كبيرة في الاتحاد الأوروبي أو في خروج المملكة المتحدة من الاتحاد.
مزقت قضية الاتحاد الأوروبي حكومة "المحافظين" بقيادة رئيس الوزراء جون ميجور، واختار كاميرون معالجتها بشكل مباشر من خلال استفتاء عام 2016. وكان هذا التصويت، الذي جاء بعد هزيمة استفتاء عام 2014 لصالح استقلال اسكتلندا، يهدف إلى حل الانقسامات داخل حزب "المحافظين" والمجتمع البريطاني بشكل عام. ولم يكن من الصدفة أن بعض الشخصيات البارزة في حملة "البريكسيت" كانوا من "المحافظين"، بما في ذلك مايكل غوف، وبوريس جونسون. واستغل جونسون في النهاية قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي للوصول إلى قيادة الحزب ومن ثم تحقيق فوز كبير في الانتخابات عام 2019.
لم تتضح الفوائد المحتملة لـ"البريكسيت" حتى الآن بشكل واضح، وأدى الفشل الملحوظ في "استعادة السيطرة" على حدود المملكة المتحدة إلى إضعاف حزب "المحافظين" وتركه يتأرجح على حافة الانهيار. ويأتي الخطر المباشر على الحزب من حزب "الإصلاح" في المملكة المتحدة بقيادة نايجل فاراج، والذي يضع نفسه بوضوح في مكان يسمح له بالتأثير في الاتجاه المستقبلي للتيار المحافظ البريطاني. 

شاترستوك
رئيسة الوزراء ليز تروس التي لم تكمل الشهرين في منصبها

ويتشابه مستقبل حزب "المحافظين" مع ما حدث لحزب "المحافظين التقدمي" في كندا عام 1993. فبعد هزيمة كبيرة، واصل حزب "المحافظين التقدمي" التعثر في الكثير من الانتخابات اللاحقة، ويرجع ذلك جزئيا إلى الانقسام بين الناخبين الذين يميلون نحو يمين  الوسط. وأدى ذلك إلى زيادة الضغط على الحزب للاندماج مع مجموعة أخرى. وفي نهاية المطاف، استولى حزب "الإصلاح" الشعبوي على الصورة المحافظة لحزب "المحافظين" الكندي. ومن الممكن أن يتكشف وضع مماثل في المملكة المتحدة خلال العقد المقبل. ونظرا لمرونته في الماضي، فربما لا يكون حزب "المحافظين" قد انتهى تماما، ولكن إذا واجه لحظة حرجة بعد الرابع من يوليو، فقد يلعب نايجل فاراج دورا حاسما في تحديد مصيره.

font change

مقالات ذات صلة