كيف يرى الغزّيون "اليوم التالي" للكابوس الطويل؟

حالة من اليأس تسيطر على غالبية النازحين من منازلهم

لينا جرادات/المجلة
لينا جرادات/المجلة

كيف يرى الغزّيون "اليوم التالي" للكابوس الطويل؟

بعد تسعة أشهر من الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة، ومعاناة أكثر من مليونين و300 ألف غزّي بسبب النزوح أو القتل أو الإصابة، ما زالت الحكومة الإسرائيلية لا تمتلك خطة لليوم التالي للحرب على القطاع، فيما تحاول الولايات المتحدة الأميركية وضع خطة أو فرضها على إسرائيل كبداية لتحديد ملامح الحالة التي سيكون عليها، فيما لم يبادر أحد بسؤال الغزيين عن رأيهم أو رؤيتهم لليوم التالي من الحرب التي اقتلعت ملامح المدن والشوارع والأحياء والمخيمات.

تحدثت "المجلة" مع عدد من الغزيين، بعضهم لا يزال في شمال قطاع غزة المعزول عن وسطه وجنوبه، فيما يوجد آخرون في المناطق الجنوبية للقطاع. سيطرت الحيرة وعدم التخطيط أو التفكير في رؤيتهم لليوم التالي للحرب على معظم من تحدثنا معهم، وذلك نابع من الضغط النفسي وحالة الفوضى وانشغالهم في قضاء حوائجهم اليومية من توفير الطعام والشراب والتنقل من مكان إلى آخر بسبب استمرار القصف وعمليات القتل الإسرائيلية.

حالة من اليأس تسيطر على غالبية الغزيين النازحين من منازلهم، التشاؤم سيد الموقف، والهمّ الأبرز والأهم بالنسبة لهم "كيف نحمي أنفسنا ومن نحب من أفراد الأسرة والأقارب والأصدقاء حتى إعلان وقف الحرب؟"، هكذا يقول الشاب إيهاب المغربي النازح من أقصى شمال قطاع غزة إلى وسط القطاع.

في السابق، أي ما قبل الحرب، كان المغربي (25 عاما) يعمل في مجال المونتاج الصحافي مع مؤسسات إعلامية عربية، ومع بدء الحرب على غزة وبسبب انقطاع الكهرباء والإنترنت واضطراره إلى النزوح وعائلته من منزلهم القريب من الحدود الشمالية إلى منزل شقيقته، اضطر إلى التوقف عن العمل عدة أشهر، يقول: "أنا كنت سهران مع أصدقائي، روحت البيت ونمت، صحيت لقيت الدنيا حرب وكل إشي في حياتي انقلب بدون أي تخطيط أو خطة لحماية أنفسنا على الأقل".

عاش المغربي حياة النزوح خلال الأشهر الثمانية للحرب، مُتنقلا من مدينة إلى أخرى، تارة يقيم في منزل لأقارب وتارة أخرى يضطر إلى المكوث في خيمة، لكن الأهم بالنسبة له أن أيامه تحولت إلى قضائها في توفير الاحتياجات الأساسية أو البحث عن مكان لقضاء الحاجة الطبيعية... "صرنا مش عارفين نوفر الأكل والشرب، ولا عارفين وين بدنا نقضي حاجتنا، مرة في منزل لغرباء، ومرة في مسجد أو مكان عام، وبعدين صار في دورة مياه بين الخيام"، يقول موضحا إنّ أسلوب حياة النزوح الذي فرضه عليهم الجيش الإسرائيلي، أجبره والآخرين على التفكير في قضايا ثانوية يومية، ولم يعد هناك وقت للتفكير أو التخطيط لما بعد الحرب.

فرضت الحرب حالة من الغوغائية وعدم الاستقرار النفسي والجسدي

بعد مرور 4 أشهر على الحرب، عاد للعمل بشكل جزئي بعدما استطاع توفير كهرباء وإنترنت في أحد المستشفيات وحيث يعمل الصحافيون والإعلاميون على نقل رسائلهم وتغطياتهم لمجريات الحرب، لكن التحديات استمرت مع المغربي كلما أُجبر على النزوح إلى مكان جديد ليضطر إلى الترتيب من الصفر لاستمرار عمله الذي يتعطل لأيام. ومع طرح السؤال حول رؤيته لليوم التالي للحرب، صمت لثوانٍ دون أي تعبيرات واضحة على ملامح وجهه، وقال "مش عارف".

أخذ وقته لعدة دقائق في التفكير قبل أن يجيب: "بافكر كيف بدي أحمي نفسي وكل أحبابي من العائلة والأصدقاء حتى إعلان انتهاء الحرب". وفسر إجابته بأن الحرب فرضت عليه والآخرين حالة من الغوغائية وعدم الاستقرار النفسي والجسدي، وبالتالي هو يفكر في النجاة كأولوية بينما سيفكر فيما سيفعله أو يرتئيه إن كان سيعيش في غزة أو يهاجر بعد انتهاء الحرب.

"بدي أهاجر"

على عكس المغربي، كانت عهود شمالي أكثر وضوحا وسرعة في الإجابة على تساؤل "المجلة": "بعد الحرب أنا بدي أهاجر، بدي أشوف حياتي ومستقبلي وبكفي اللي عشناه من حروب وقتل ودمار، كل إشي حلو في ذاكرتي دمروه". منذ بداية الحرب وطوال أكثر من ثمانية أشهر، رفضت النزوح من مدينة غزة إلى جنوب القطاع، وأصرت على البقاء مع جزء من أسرتها، حيث اضطروا إلى النزوح من منزلهم بحي الشجاعية شرق المدينة إلى غربها، وبالعكس أكثر من مرة حسب المناطق الأشد خطرا خلال أشهر الحرب.

شمالي (36 عاما)، تقول إنها ولدت في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وعاشت الانتفاضة الثانية ليتبعها عام 2008 الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وحروب متكررة حتى الحرب الحالية وهي الأطول والأكثر دمارا على صعيد تفاصيل المدينة التي أحبت الحياة فيها، وعلى صعيد صحتها النفسية التي تشوهت بفعل الدمار... "أنا صرت باكره أطلع من البيت وأمشي بالشارع، منظر الدمار في المنازل والمباني والشوارع وتجريف الشوارع والحدائق العامة وشارع البحر، كلها أشياء شوهت ذكرياتي وذاكرتي الجميلة عن مدينتي".

وتوضح خلال حديثها الهاتفي والذي استمر لأكثر من ساعة، أنها أصرت على البقاء في غزة على الرغم من خطورة القصف والحالة هناك، ويعود ذلك لاقتناعها بأن الجيش الإسرائيلي لن يترك بقعة في مساحة قطاع غزة المحدودة إلا ويصيبها بالدمار... "أنا قلت حتى لو بدي أموت من القصف، بدي أموت ببيتي أو على الأقل بمدينتي، ما بدي أموت بمكان تاني، وكل تفكيري حاليا بيركز كيف ننجو من الحرب حتى وقفها".

اختلفت الرؤية والنظرة المستقبلية لليوم التالي للحرب بين الغزيين، ليركز عدد منهم على الاحتياجات الشخصية الفردية

تنتظر شمالي لحظة الإعلان عن وقف إطلاق النار والتي تأمل أن يرافقها اتفاق يقضي بانسحاب الجيش الإسرائيلي وعودة باقي أفراد عائلتها وصديقاتها وجاراتها وزميلاتها في العمل والنازحات إلى جنوب القطاع، وهي على قناعة تامة ويقين بأنّ حل الدولتين هو الحل الأمثل والذي يجب أن تعمل عليه الدول الصديقة والمتضامنة مع الحق الفلسطيني بهدف وقف الحروب والمجازر التي ارتكبتها وما زالت ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين وخاصة سكان قطاع غزة على مر السنوات الماضية، وتقول: "لازم نوصل بيوم يُفرض فيه حل الدولتين على إسرائيل، مش لازم حياتنا تستمر بالحروب".

صحيح أنها تُصر على نيتها بالهجرة بعد انتهاء الحرب، لكنها تأمل أيضا بإعادة إعمار قطاع غزة والذي يحتاج إلى سنوات على أمل أن تفكر في العودة مستقبلا إلى مدينتها... "حتى الهجرة ما باقدر أقول إني ضامنة تتسهل معي، لكن حتى لو هاجرت واستقريت في الخارج، عندي أمل أرجع لبلدي بالمستقبل بعد ما تكون الأوضاع أفضل وأكثر أمانا واستقرارا".

"بدنا نعمرها"

اختلفت الرؤية والنظرة المستقبلية لليوم التالي للحرب بين الغزيين، ليركز عدد منهم على الاحتياجات الشخصية الفردية. إبراهيم الشنباري (19 عاما) من سكان بيت حانون شمالي قطاع غزة، اضطر إلى النزوح لجنوب القطاع بعد الشهر السادس للحرب، لكنه فقد الاتصال والتواصل مع والده وشقيقه خلال اجتياح منطقة سكناهم... "والدي وشقيقي رفضوا النزوح معنا من بداية الحرب، واحنا اتنقلنا داخل الشمال حتى اضطرينا للنزوح إلى خان يونس، وفقدنا التواصل معهم، يمكن عايشين ويمكن لا، ما بنعرف مصيرهم".

يفكر إبراهيم في اليوم التالي للحرب بعدما فقد فرصته في إتمام الحصول على شهادة الثانوية العامة خلال العام الدراسي المنصرم بسبب توقف الدراسة والدمار الذي أصاب معظم مدارس قطاع غزة ومباني وزارة التربية والتعليم، ويقول: "أنا بس نفسي توقف الحرب ونرجع على بيت حانون بدي أطمن على أبويا وأخويا إذا عايشين نرجع نجتمع وإذا فقدناهم نعرف ندفنهم ونحفظ كرامتهم".

لينا جرادات/المجلة

أما سميحة موسى (36 عاما) من سكان مدينة خان يونس، والتي اضطرت إلى النزوح خلال فترة اجتياح المدينة والانتقال إلى مدينة رفح أقصى جنوب القطاع قبل أن تعود إلى منزلها الذي أصابه الدمار الجزئي، فإنها تنتظر لحظة انتهاء الحرب والتوصل إلى اتفاق علها تتمكن من إنقاذ طفلها الرضيع إيهاب والذي يعاني من أمراض عدة بسبب ولادته المُبكرة خلال الحرب، وتقول: "ابني الوحيد أجاني بعد انتظار 14 سنة، مريض وبحاجة للعلاج بالخارج لكن معبر رفح مغلق وخايفة يفقد حياته".

مع اختلاف رؤية الغزيين لليوم التالي للحرب، يمشي الشاب حسين الراوي (27 عاما) وبشكل يومي على دراجته الهوائية حيث ينزح مع أسرته في بلدة الزوايدة وسط القطاع، ويسير على شارع البحر باتجاه الشمال، يقف على مرتفع مقابل مدخل مخيم النصيرات، وبالقرب من غرب وادي غزة، ينظر باتجاه الشمال على مدينة غزة حيث ولد وعاش ويحمل الأمل بأنّ شيئا ما سيحدث ويتغير، ربما الحرب ستنتهي قريبا وعليه أن يكون سباقا للعودة لكي يستعيد حياته السابقة التي فقدها إثر النزوح، ويقول: "تعبت واشتقت لكل تفاصيل حياتي، البيت والشوارع والأصدقاء، حتى لو دمروهم وقتلوا البعض منهم بدي أرجع ونعيد تعميرها".

font change

مقالات ذات صلة