سيرجي جنسن بصمة لافتة في مرحلة "ما بعد التجريدية"

رسم أشبه بالسرد

Getty images
Getty images
سيرجي جنسن

سيرجي جنسن بصمة لافتة في مرحلة "ما بعد التجريدية"

لا يزال الوقت مبكرا على التفكير في مرحلة "ما بعد التجريد" بعدما تخلى الرسامون عن شكل العالم الخارجي. ذلك الظن لم يكن في محله. أكثر من مئة سنة مرت على ظهور أول لوحة، تخلى رسامها بشكل كامل عن رسم الطبيعة والإنسان والحياة الجامدة.

كل ما نعرفه عن ماليفيتش وكاندينسكي وموندريان صار جزءا من تاريخ الفن، فيما أعمالهم الفنية ذهبت إلى المتاحف. غير أن ذلك لا يعني أن التجريدية قد انضمت إلى المدارس الفنية التي ظهرت في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين بشكل عاصف، غير أن تأثيرها سرعان ما خفت على الرغم من أن أفرادها لم يفقدوا مكانتهم الفنية بعدما كُرّسوا باعتبارهم رموزا للتمرد الفني كما أن نتاجهم لا يزال ينطوي على سحر خاص، مثل التكعيبي جورج براك والسورياليين سلفادور دالي ورينه ماغريت. بقيت الرموز في حين اختفت الظاهرة الفنية. تلك هي حال التكعيبية والسوريالية، وقبلهما الواقعية والانطباعية ومدارس وأساليب فنية كثيرة. غير أن التجريدية التي توقع بعض النقاد حين ظهورها أنها لن تدوم طويلا، قاومت الزمن من خلال تنوع مرجعيات فنانيها ومصادرهم، حتى صرنا في مواجهة تجريديات وليس تجريدية واحدة. لقد توزعت التجريدية بين ممارسات وميول مختلفة، فظهرت تجريدية غنائية وتعبيرية وأخرى هندسية وتقليلية وحركية وشعرية. وكل اتجاه يضم حشدا من الفنانين الموزعين في أنحاء العالم.

يعيد جنسن صناعة نسيج لوحته بدءا من إعادة النظر في المواد المستعملة

صمت اللوحة وضجيج موادها

الدانماركي سيرجي جنسن المولود عام 1973، الذي يقيم ويعمل في نيويورك والذي أقام معرضه في صالة "وايت كيوب" بلندن، يمكن أن يُضم عشوائيا إلى التجريدية التقليلية التي كان الأميركي مارك روثكو (1903 ــ 1970) رائدها، لولا أنه يعالج سطوح لوحاته التي لا تتضمن الكثير من المفردات بطريقة لا تحافظ على صمتها كما أنه يعيد صناعة نسيجها بدءا من إعادة النظر في المواد المستعملة وهي طريقة لا تقتصر دائما على القماش والأصباغ. ومع أن جنسن لا يزال ملتزما أصول اللغة البسيطة، غير أن التفاصيل التي اعتبرها جزءا من مسعى تحرره من التجريدية تحتل مجالا حيويا في عالمه. فهو على سبيل المثل حين اتجه إلى تحرير السطح من وحدته بعدما نسج أجزاء منه، أو حين عرض قماشة اللوحة المنجزة لعوامل التعرية الطبيعية، أو حين دمج بسطوح أعماله الجديدة عناصر هندسية اقتطعها من أعماله القديمة، فإنه خرج عن القواعد التي تفرض عليه مبدأ اتباعيا.

whitecube
معرض سيرجي جنسن في صالة "وايت كيوب" بلندن

كانت محاولات الإيطالي لوسيو فونتانا (1899 ــ 1968) في سعيه إلى الخروج من التجريد إلى ما وراءه من خلال شق سطح اللوحة، قد توقفت عند ذلك السلوك المتمرد ولم تتجاوزه. أما لدى جنسن فإن الأمور بدت أكثر استرخاء، ذلك لأن المتغيرات في المشهد الفني العالمي كانت لصالحه. هنا لا بد أن نذكر تجربة الرسام العراقي شاكر حسن آل سعيد (1925 ــ 2004) التي هي واحدة من أهم التجارب الفنية العربية التي تخطت حدود التجريد التقليدي إلى ما بعده، وقد سبق آل سعيد جنسن في كل ممارساته التي أهلته لأن يكون ممثلا حقيقيا لمرحلة "ما بعد التجريد".

خمسون لوحة في لوحة واحدة

لكن جنسن لا يكتفي بصناعة لوحته، بل يفكر في طريقة عرضها. ذلك ما لم يكن يملكه آل سعيد ولا سواه من الفنانين العرب. الجزء الأكبر من قوة جنسن مكتسب من القاعات الفنية التي تبنته. وليست تلك القاعات مجرد دكاكين لعرض اللوحات باعتبارها بضاعة. فلو لم تكن تلك القاعات ذات سطوة، لما تمكن جنسن وهو دانماركي مغترب في الولايات المتحدة، من أن يملي ما حققه من اختراق على القاعات العالمية ويكون واحدا من رواد ما بعد التجريدية، وهو الذي تأثر بكثيرين سبقوه ولم يحققوا شهرته. كان العرض في "وايت كيوب" مدهشا فعلا. أكثر من خمسين لوحة بقياسات موحدة عُرضت متصلة ومتسلسلة كأنها عمل واحد. طريقة العرض وحدها تخطف الأنظار. فما على المتلقي سوى أن يبحث عن خيطَي الوعي والعاطفة اللذين يصلان لوحة بما يجاورها من لوحات. يتساءل المرء وهو ينظر إلى ذلك المعرض "هل فكر الرسام في عرض رسومه بهذه الطريقة أم أنها فكرة مجنونة ألهمتها مساحة القاعة الكبيرة؟"، ذلك سؤال ساذج. فالاستعراض من صنع الفنان الذي يعرف أن قاعة كبيرة بحجم "وايت كيوب" لا تمانع تنفيذ ما يقرره. وكما أرى، فإن طريقة العرض كان لها تأثير مباغت على المشاهدين. فمعرض في لوحة واحدة تحتل مساحة العرض كلها، هو غير لوحات موزعة على الجدران. لن يستفتي المرء ذائقته الجمالية في ما إذا كانت لوحة أجمل من أخرى بقدر ما سيفكر في صدمته الجمالية.

ما على المتلقي سوى أن يبحث عن خيطَي الوعي والعاطفة اللذين يصلان لوحة بما يجاورها من لوحات

إعادة ثقة المتلقي بالعالم الخارجي

في كل المناسبات الفنية التي ظهر فيها سيرجي جنسن، يُقدّم على أنه واحد من أهم رواد "ما بعد التجريدية". وفي ذلك محاولة لإضفاء نوع من الحيوية على تجربته التي سعى عبر سنوات من الجهد الخلاق إلى أن يفصلها عن مرجعياتها الفنية، السابقة والمعاصرة، بحيث يبدو أنه يستأنف عمله من مكان بعيد، يكون فيه امتزاج التجريد بشيء من التشخيص أمرا محتملا، على الرغم من أن الأشكال التي تحدثها عمليات تفعيل المواد لا تظهر إلا في سياق نظرة تجريدية إلى العالم. مع ذلك، فإن الحدود بين العالمين غير واضحة. وهو ما وهب جنسن حرية مضافة في خلخلة القواعد الصامتة التي بني عليها الأسلوب التجريدي.

whitecube
معرض سيرجي جنسن في صالة "وايت كيوب" بلندن

لا يُخفي جنسن أن لوحته هي نتاج فكرة، لم يقم بتنفيذها مباشرة بل تضافرت عوامل كثيرة، بعضها شخصي والبعض الآخر موضوعي في ما بينها للوصول إلى اللحظة التي يكون فيها سطح اللوحة قد اكتمل. كثير من أجزاء سطوحه هي نتاج ممارسات مجاورة لفعل الرسم. ولا أولي هنا أهمية لمبدأ المصادفة. فحتى حين يتخلى جنسن عن فعل الرسم، يعرف ما الذي ينتظره من خلال عمليات اللصق والحياكة واستعمال مؤثرات طبيعية لكسر قواعد الرسم، ومن ثم الدفع بالذائقة الجمالية إلى مستويات تعيد ثقة المتلقي بالعلاقة المتينة التي تربط الفن التجريدي بالعالم الواقعي. وهو ما يضفي على عروضه صفات تقربه من عالم السرد المتخيل.                   

font change

مقالات ذات صلة