ما إن أسفرت انتخابات البرلمان الأوروبي عن نتائجها، التي حقق فيها اليمين المتطرف مكاسب انتخابية، حتى تحول الاهتمام إلى التأثير المحتمل لهذه المكاسب على سياسات الاتحاد الأوروبي. فالأحزاب القومية والشعبوية والأحزاب المتشككة في جدوى وحدة أوروبا وتكاملها، ضمنت لنفسها ربع المقاعد في جمعية الاتحاد الأوروبي تقريبا، باستفادتها من استياء الناخبين وقلقهم من ارتفاع الأسعار والهجرة وتكاليف سياسة التحول إلى مجتمعات خضراء خالية من انبعاثات الكربون. غير أن عوامل عديدة تشير إلى أن النفوذ السياسي لهذا اليمين، على الرغم من حضوره المتزايد، سيكون أدنى من ثقله الانتخابي، وهو ما سيقيد قدرته على صياغة سياسات الاتحاد الأوروبي إلى حد كبير.
ففي المقام الأول، لا تزال هذه الأحزاب تعاني من انقسام سياسي، يحد من قدرتها على التوحد ويعيق نفوذها وتعزيز انتصاراتها الانتخابية. فأحزاب اليمين المتطرف في مختلف أنحاء أوروبا، مثل حزب "التجمع الوطني" الفرنسي وحزب "الرابطة" الإيطالي وحزب "البديل من أجل ألمانيا" الألماني، تتشابه أيديولوجياً في بعض القضايا كالهجرة والمناخ، والتشكك في جدوى الاتحاد الأوروبي، إلا أنها غالبا ما تختلف في مسائل حاسمة أخرى، منها السياسة الاقتصادية والعلاقات مع روسيا. فها هي مثلا، زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان، مع أنها حثت في الآونة الأخيرة رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني على تشكيل تحالف يميني كبير، فإن حزبها وحلفاءه استبعدوا حزب "البديل من أجل ألمانيا" في الشهر الماضي. يضاف إلى ذلك، أن بعض حلفاء ميلوني رفضوا التحالف مع حزب "فيدس" الذي يتزعمه رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، بسبب موقفه المؤيد لروسيا. وهكذا يمنع افتقار هذه الأحزاب إلى الوحدة من تقديم جبهة متماسكة، ويقلل بالتالي من قدرتها التفاوضية داخل البرلمان الأوروبي.
كما أن بنية البرلمان الأوروبي نفسها، تفاقم وطأة هذا التحدي الذي تفرضه الانقسامات ما بين هذه الأحزاب. فالبرلمان يعمل وفق نظام يقوم على بناء التحالفات، فلا يستطيع حزب واحد أن يهيمن بمفرده. وأحزاب اليمين المتطرف، على تزايد عددها، لا تزال أقلية مقارنة بأحزاب الوسط والأحزاب ذات الميول اليسارية. وهذا يحتم عليها أن تبحث عن تحالفات مع غيرها من الأحزاب، وهو أمر شاق عليها بسبب أجنداتها المتطرفة التي تثير الجدل والانقسام في كثير من الأحيان. وليس من المرجح أن تعقد الأحزاب التقليدية الرئيسة تحالفات معها، وهي التي تشعر بالقلق من مواقفها من سياسة التحول إلى مجتمعات خضراء وبشأن السيادة وتكامل دول الاتحاد الأوروبي.
أحزاب اليمين المتطرف- على تزايد عددها- لا تزال أقلية، مقارنة بأحزاب الوسط والأحزاب ذات الميول اليسارية. وهذا يحتم عليها أن تبحث عن تحالفات مع غيرها من الأحزاب
علاوة على ذلك، فإن العملية التشريعية المعقدة في الاتحاد الأوروبي بوجوهها المتعددة، تقلص من نفوذ اليمين المتطرف. فتغيير السياسات يتطلب إجماع كل من البرلمان الأوروبي مع المفوضية الأوروبية ومجلس الاتحاد الأوروبي، فهذه الهيئات الثلاث تتقاسم السلطة التشريعية فيما بينها. لذا فإن التحرك ضمن هذا النظام المعقد وتأمين دعم جهات فاعلة متعددة، لها أولويات مختلفة يضيف طبقة أخرى من القيود على تأثير اليمين المتطرف. كما أن افتقاره إلى الانضباط في حضور عمليات التصويت والمشاركة الفعالة في هذه المؤسسات يقلل أيضا من نفوذه في الميدان التشريعي.
كما تخفف الضمانات المؤسسية داخل الاتحاد الأوروبي من تأثير اليمين المتطرف. فنظام ضبط المؤسسات بعضها بعضا والتوازن في تمثيل الآراء والمصالح المتنوعة، الذي يتبناه الاتحاد الأوروبي، والمصمم لمنع أي كيان منفرد من ممارسة سلطة مفرطة، يتكفل بجعل أي تحولات سياسية جذرية أمرا يصعب تحقيقه. فمحكمة العدل الأوروبية، مثلا، تدعم سيادة القانون وتستطيع أن تلغي أي سياسة تنتهك معاهدات الاتحاد الأوروبي. فهذه الرقابة القضائية تشكل حصنا بوجه تنفيذ سياسات اليمين المتطرف التي تتعارض مع مبادئ الاتحاد الأوروبي.
ورغم أن اليمين المتطرف قد لا يغير، بانتصاراته الانتخابية، سياسات الاتحاد الأوروبي مباشرة، فإنه قادر على التأثير تدريجيا على السياسة عبر صياغة النقاش السياسي الأوسع ودفع مركز الثقل السياسي نحو اليمين. ومن المرجح أن يدفع هذا التحول الأحزاب الرئيسة، تفاديا منها لخسارة الأصوات في المستقبل، إلى تبني مطالب اليمين المتطرف في قضايا مثل سياسة التحول إلى مجتمعات خضراء ومسألة الهجرة.
وكمثال على ذلك، فمع أن الاتحاد الأوربي قد انتهى مؤخرا من صياغة معظم المحددات القانونية لاتفاق أوروبا الخضراء، التي تهدف إلى تحويل صافي انبعاثات الكربون من الاتحاد الأوروبي إلى الصِفر بحلول عام 2050، إلا أن المعارضة اليمينية المتطرفة قد تقوض تنفيذها. ولهذا أخذ بعض الأحزاب الرئيسة في التراجع عن سياسة المناخ بهدف احتواء وجهات نظر اليمين المتطرف. ويتجلى هذا التراجع بوضوح في معارضة حزب "الشعب الأوروبي" الذي ينتمي إلى يمين الوسط، لخطط التخلص التدريجي من محركات الاحتراق بحلول عام 2035، وهي السياسة ذاتها التي تعارضها بشدة الكثير من أحزاب اليمين المتطرف.
رغم أن اليمين المتطرف قد لا يغير، بانتصاراته الانتخابية، سياسات الاتحاد الأوروبي مباشرة، فإنه قادر على التأثير تدريجيا على السياسة عبر صياغة النقاش السياسي الأوسع ودفع مركز الثقل السياسي نحو اليمين
كما قد يدفع نفوذ اليمين المتطرف أيضا أحزاب الوسط لتبني استراتيجيات صارمة في مسألة الهجرة. ويشمل ذلك عقد اتفاقات مع دول مجاورة لتتولى إدارة الهجرة على أراضيها، وإضفاء مزيد من الطابع الأمني على مسألة الهجرة، بإدراجها ضمن المسائل المهددة للأمن.
يمثل صعود اليمين المتطرف إشارة واضحة إلى السخط، الذي ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يعالجه إسعافيا. أما تجاهله فسيسمح لهذه الأحزاب بتعزيز نفوذها على بنى الاتحاد وهياكله، وهو ما يعرض دور الاتحاد ومبادئه وتكامله وصناعة سياساته لتهديد كبير. وهكذا فالتحدي الذي يواجه الاتحاد الأوروبي هو أن يستجيب بكفاءة لهذا السخط وأن يعالجه، وأن يحمي في الوقت نفسه قيمه الأساسية مع الحفاظ على الاتحاد متماسكا وعيونه تتطلع إلى المستقبل.