خلال المناظرة الانتخابية الرئيسة على التلفزيون الرسمي، قبل إجراء الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الإيرانية بيومين فحسب، سُئل المرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان عن سبب كون أكثر أنصاره من "الأتراك القوميين"؟
لم يُنكر المُرشح المنحدر من أبناء القومية الأذرية/التركية الأمر، مُردفا: "إذا كانت هناك مطالبات ومناقشات حول القومية التركية أو القومية العربية أو غيرها من الحركات القومية المختلفة، فهذا بسبب الظلم. عندما لا يكون لأي من أبناء هذه الحركات والجماعات مكان في الحكومة والسلطة، بغض النظر عن مدى مواهبهم ومؤهلاتهم، ولا يزالون يفتقرون تماما للتمثيل السياسي، فمن الطبيعي أن يعبروا عن مظلوميتهم بطريقة قومية".
عقب صدور نتائج الجولة الأولى من الانتخابات، التي جرت في 28 يونيو/حزيران الماضي، وحصول بزشكيان على المركز الأول بأكثر من 10.4 مليون صوت، وحلول المرشح المتشدد سعيد جليل على المركز الثاني، المنحدر من مدينة مشهد، شمال شرقي البلاد، والمقرب جدا من المرشد الأعلى علي خامنئي، سارع المرشحان الآخران، رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف، الذي حصل على المركز الثالث بـ3.3 مليون صوت، والحاصل على المركز الرابع مصطفى بور محمدي، إلى إعلان تأييدهما للمرشح سعيد جليلي في الجولة الثانية من الانتخابات، التي ستجرى يوم الجمعة. حيث إن هذين المرشحين الأخيرين، ولغير صدفة، ينحدران من مدينة مشهد، التي تُعد مسقط رأس المرشد الأعلى والمرشح الفائز في الجولة الأولى سعيد جليلي.
تكشف الحادثتان، ومثلهما أخرى كثيرة، وجها آخر للمزاحمة السياسية الراهنة في إيران، وهي ليست مجرد صراع بين التيار المتشدد، الذي على اليمين من خطاب وخيارات النظام الحكام، والتيار الإصلاحي، الراغب في استخدام أدوات أكثر مرونة وحيوية في التعامل مع الملفات الإقليمية والدولية، لتكون إيران أقل صدامية مع العالم الخارجي، واتباع سياسات داخلية أكثر ليناً، تحديدا مع النساء والشباب والحركات المدنية، بغية الحفاظ على قبول نسبي للنظام الحاكم في الداخل.
ومن خلال متابعة النقاشات غير الرسمية، على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، يبدو الاستقطاب القومي والمناطقي واضحا في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الإيرانية. فالمرشح سعيد جليلي يمثل المركز السياسي الأساسي في البلاد، بجذوره الفارسية واعتداده بها، يصنف نفسه كواحد من أشد المدافعين عن النظام المركزي الحاكم، وأحد الأعضاء البارزين في "حلقة مشهد"، التي استحوذت فعليا على حُكم إيران طوال العقدين الماضيين، مع تهميش وعدم اعتراف تام بوجود أية قضايا قومية أو مناطقية في البلاد.
على العكس منه تماما، فإن المرشح بزشكيان، المولود في مدينة مهاباد، في أقصى غربي البلاد، ذات الأغلبية الكردية المطلقة وعاصمة الجمهورية الكردية التي أُعلنت واستمرت لوقت قصير عام 1946، من والد أذري/تركي وأم كردية، يتقن إلى جانب الفارسية اللغتين الكردية والأذرية، ويعبر بوضوح عن دعمه لتغيير سياسات إيران الداخلية، لتكون أقل مركزية في فارسيتها وأكثر تنوعا قوميا، تحديدا في مجالات التعليم والثقافة والإعلام والعلاقات الإقليمية.
مخزن الدولة العميقة
بغية تحديد مكانته ضمن المنظومة الحاكمة للبلاد، يصف مصطفى فقيهي، رئيس تحرير موقع "انتخاب" الإخباري الإيراني، المرشح سعيد جليلي قائلا: "لم يكن يوما بحاجة إلى موقع مسؤول ليمارس دورا، لأنه فعليا كان المنظر المرشد للكثير من السلوكيات الحكومية". فجليلي طوال مسيرته السياسية، سار وشغل مواقع قيادية في الأجهزة والمؤسسات المركزية في البلاد، التي تُمثل فعليا الدولة العميقة والسلطة الحقيقية في البلاد. تلك الجهات التي يعتبرها المراقبون متمركزة ومستندة على ثلاث عصبيات أهلية رئيسة في تحكمها بمركز السلطة: القومية الفارسية والطائفة الشيعية والمناطق الشمالية الشرقية من البلاد.
فجليلي خلال يفاعته كان مقاتلا وقائدا بارزا ضمن ميليشيات الباسيج، التي لعبت دورا محوريا خلال الحرب الإيرانية العراقية، حيث فقد جليلي أحد ساقيه خلالها، حينما كان في الحادية والعشرين من عمره فحسب، وتحول بسبب ذلك إلى واحد من القادة السياسيين والرموز الداخليين للنظام، يُطلق عليه لقب "الشهيد الحيّ". مطورا خلال السنوات اللاحقة علاقة خاصة مع واحد من أهم المنظرين الأساسيين للنظام، الشيخ محمد تقي مصباح يزدي، حيث صار جليلي الناطق السياسي باسمه. وفي فترة لاحقة صادق نجل المرشد الأعلى مُجتبى خامنئي، ليكونا معا تيار "الأصولية الجديدة"، المستندة على تلك العصبيات المركزية في بنية النظام.