4 روايات مصرية جديدة تدور في عوالم أدب الجريمة

من التشويق إلى تشريح المجتمع

4 روايات مصرية جديدة تدور في عوالم أدب الجريمة

تبدو أجواء عوالم الجريمة والتشويق البوليسية مغرية لعدد من الكتاب لكي يخوضوا من خلالها تجربة الكتابة الروائية، لا سيما إذا كانت تجاربهم الأولى، فمن خلالها يمكنهم أن يفرضوا حضورهم في ساحة أدبية متخمة بالعديد من التجارب، كما يجذبون من جهة أخرى عددا كبيرا من القراء بأسلوب التشويق المعتمد على فكرة البحث عن المجرم، سواء كان ذلك في قضية قتل أو سرقة أو تحرش أو غيرها من القضايا التي تمتلئ بها صفحات الحوادث، ويسعى كل كاتب منهم لأن يصبغ عالم روايته بتلك الصبغة الواقعية التي تجعل ما يتناوله ويتحدث عنه قريبا من القراء ومجتمعهم، بل يحاول أن يجعل القارئ شريكا له في طريقة التعرف الى الجاني، وينقله من زاوية القارئ فحسب إلى المشارك في كشف النقاب عمن يمكن أن يكون صاحب هذه الجريمة.

وقد حفل الأدب العالمي بنماذج عديدة للروايات البوليسية وروايات الجريمة، فبرزت منهم أسماء مثل أغاثا كريستي وآرثر كونان دويل وجورج سيمنون، وعلى الرغم من تفاوت مستوى الكتابة الأدبية بين كل كاتب منهم إلا أنه قد أصبح لهم عدد كبير من القراء والمتابعين يهتمون بإنتاجهم ويسعون اليه بشكل كبير، كما عرف من الكتاب العرب من تخصص في هذا النوع من الكتابة، ولكنه ظل يواجه بأنه نوع من الأدب الموجه الى الشباب والمراهقين وربما يكون ذلك أحد الأسباب التي نقلت هذا النوع من الكتابة الأدبية إلى قائمة الأكثر مبيعا وجعلت عددا من النقاد يصفونه بأنه لا يمثل الكتابة الأدبية الحقيقية.

في الآونة الأخيرة ظهر عدد من الروايات التي لفتت الأنظار لكونها استخدمت عالم الجريمة ولكنها حافظت في الوقت نفسه على ما تفرضه الكتابة الأدبية من فنيات وجماليات، سواء كان ذلك في لغة الكتابة أو قدرتها على التعبير عن طبقات وفئات مختلفة من المجتمع أو انتقالها بين الماضي والحاضر أو غير ذلك من تقنيات وآليات يمكن أن نفصل الحديث عنها مع الروايات التالية.

ينسج هيثم دبور في روايته حكايتين مرتبطتين بشكل مختلف بحكايات "ألف ليلة وليلة"

"حظر نشر"

في رواية "حظر نشر" للروائي والسيناريست هيثم دبور  (دار الشروق، 2021) نعود بالتاريخ إلى واحدة من أشهر جرائم القتل التي ترتب عليها العديد والعديد من القصص والحكايات، إنها "ألف ليلة وليلة" وذلك الملك المجرم شهريار الذي عرف عنه أنه يقتل كل امرأة يتزوجها، حتى تصل إليه شهرزاد وتغويه بحكاياتها فإذا بها تنجو من القتل، وتكتب لنا الرواية من خلالها تلك الحكايات الغرائبية والشيقة في الوقت نفسه. من هذه اللحظة التاريخية الملتبسة ينتقل الكاتب إلى جريمة أخرى معاصرة وهي التحرش الذي يتورّط فيه وزير ومسؤول كبير في الدولة، وكيف تتصرف منى، تلك السكرتيرة الضحية في ذلك الموقف الذي تعرضت له، ومن حولها والدها وخطيبها.

 يقابل الكاتب بين شهرزاد الحكاءة التي أنقذتها الحكاية من الموت، وبين منى التي يسعى كل من حولها لأن يخرسوا صوتها خوفا من الفضيحة وكيف يمكن أن يتحول ذلك إلى موت معنوي لها وسط مجتمع يهتم بالمظاهر ويدّعي الحفاظ على الأخلاق والتمسك بتعاليم الدين، فيما يمتلئ بمن ينتهك الحرمات ويستغل سلطاته من أجل أن يوقع بالمزيد من الضحايا الذين يضمن سكوتهم. بين القصتين ينقلنا هيثم دبور إلى حكاية ثالثة تتعلق بنشر مخطوط كتاب "ألف ليلة وليلة" نفسه وكيف تعرّض للكثير من الهجوم والمصادرة كونه خير معبّر عن الحرية، سواء من قصته الأولى حيث استطاعت أن تروي فيه مختلف أنواع الحكايات، مرورا بكونه يحتوي على قصص تخالف السائد والمألوف وتقتحم عوالم مسكوتا عنها سواء في حديثها عن الجنس أو الدين أو الحكام، وكيف عبرت بشكل مكشوف عن علاقة الرجل بالمرأة وتحدثت عن الكثير من الأساطير والخرافات الشعبية المؤثرة. من هنا كانت رحلة الاطلاع على حكايات ألف ليلة وليلة ونشرها، رحلة شيقة أخرى تتبع الكاتب خطواتها منذ القدم حتى عصرنا الحالي.

 لا يكتفي هيثم دبور في روايته بجريمة التحرش المعاصرة التي يرصد تفاصيلها، ونحن نعلم الجاني فيها منذ السطور الأولى، ولكننا نتتبع عواقب وردود أفعال جريمته وكيفية مواجهتها، وينسج من خلال روايته أيضا حكايتين مرتبطتين بشكل مختلف بتلك الحكاية الأصلية، ومن خلال ذلك الربط الدرامي والسرد المتدفق ينسج خيوط روايته بحكمة واقتدار.

تغرق بطلة "سيدة القرفة" وتورط القارئ معها في وصفات الأطعمة والمشروبات التي تجعل للرواية مذاقا خاصا

"سيدة القرفة"

إلى عالم الطهي وتفاصيل الطبخ الشهية تأخذنا رحمة ضياء في روايتها "سيدة القرفة" (الشروق، 2024)، ومنها تنقلنا إلى حادثة وفاة والد البطلة الطباخ الشهير توفيق الذي تكتشف بعد تشريح جثته أنه مات مقتولا. وعلى الرغم من قسوة الخبر وتبعاته على نفسية البطلة ميمي، إلا أنها تتمكن ومن خلال أسلوب الخطابات أو الحكايات لذلك الوالد الغائب، من أن تتغلب على صدمتها برحيل والدها المفاجئ ومقتله، بل تتجاوز ذلك بالاطلاع على أسرار من حياته لم تكن تعرف عنها شيئا، ويتتبع القارئ كل ذلك معها حتى نتوصل الى مرتكب تلك الجريمة.

لا تبدو الكاتبة ولا بطلتها على السواء مهتمتين بجريمة القتل تلك قدر الاهتمام برصد تفاصيل تلك العلاقة الاستثنائية التي جمعت بين ميمي ووالدها، فيما غابت الأم بشكل مفاجئ في بداية حياتها عن الصورة، ولكنها تحضر بعد وفاة الوالد، وتكتشف ميمي أن لها أختا من أمها، وتبدأ في التعرف الى ذلك العالم القريب والبعيد عنها الذي كان والدها يفرض عليه سياجا بأسلوبه في احتوائها وإبعادها عن أي مصدر من مصادر القلق. من جهة أخرى تغرق البطلة وتورط القارئ معها في العديد من وصفات الأطعمة والمشروبات التي تجعل للرواية مذاقا خاصا، سواء لكون تلك المأكولات وسيلة للهروب من ضغوط الحياة اليومية، أو إعادة اكتشاف لطعوم وعلاقات مختلفة بالناس والحياة من جهة أخرى، وكيف يؤثر ذلك في النهاية على طريقة تلقيها خبر معرفتها بالقاتل.

لا تنتهي رواية "سيدة القرفة" باكتشاف البطلة قاتل الدها، وإنما بقدرِ كبير من التغير ترصده وتعبّر عنه بوضوح، سواء في تقبلها لما عرفته من أسرار ومفاجآت تتعلق بسيرة والدها الذي لم تكن تعرف عنه الكثير، أو باقترابها من أمها واستعادة علاقتها بها بعدما باعدت بينهما الظروف، وبالتالي طريقة ميمي للتعامل مع ذلك العالم الجديد الذي تعرفت اليه حقيقة واستطاعت أن تواجهه خاصة بعد تلك التجربة المؤلمة.  

تنتقل "بياض على مدّ البصر" من وصف الجريمة وأبعادها وملابساتها إلى أن تكون رواية اجتماعية نفسية

"بياض على مد البصر"

إلى عالم القرية وما فيها من علاقات وخبايا وأسرار، ينقلنا محمد عبد الرازق في روايته "بياض على مد البصر" (دار العين، 2024) ليلقي الضوء على الفتاة الصغيرة ياسمين جثة هامدة يحتار أهلها في معرفة السبب الحقيقي في وفاتها، هل ماتت منتحرة أم مقتولة؟

 نتعرّف من خلال أفراد عائلة الضحية ياسمين الى طبيعة حياتهم وما كانوا يحملون من حكايات وأسرار، وعلى الرغم من أن الرواية تبدو مهتمة بتلك الجريمة، وتدور كلها حول جثة البطلة، إلا أن الكاتب استطاع أن يضيء على شخصيات الرواية ونفسياتهم، وانتقل بالرواية من كونها رواية جريمة عن الحادثة وملابساتها إلى رواية اجتماعية نفسية يدرك فيها القارئ أبعاد كل شخصية ودوافعها وحكايتها، وذلك على اختلاف أعمارهم ومراكزهم من الحكاية الأصلية. فالحكاية تبدأ عند الجدة حليمة التي تسعى منذ معرفتها بالخبر إلى أن تواصل سيطرتها على الميتة وأهلها، بعدما أحكمت السيطرة على الأحياء، فلا يذاع خبر الانتحار، ولا يجرى تحقيق في أسباب الوفاة، ولكن الأمور لا تسير وفق هواها، ويفاجأ الجميع بمصيبة القتل تلك.

يعرفنا الكاتب - ومن خلال تقنية الراوي العليم- الى أفراد العائلة وعلاقاتهم، وتاريخهم وما فيه من صراعات وأزمات ومواقف جعلت كل واحد منهم على ما هو عليه، فيجعل القارئ في الغالب متعاطفا مع كل هؤلاء الأبطال المهزومين في معركة الحياة ومحاولاتهم الدؤوبة الحصول على أبسط حقوقهم في الكرامة والعيش على الكفاف. وبين حياتهم البسيطة في القرية وتطلعاتهم الطبيعية الى حياة المدينة، تتمزق أحلامهم وتضيع، فها هو الأب مسعد يسعى بكل ما أوتي من قوة لكي يوفر لعائلته مكانا بعيدا عن فقر القرية وعالمها، وتعمل زوجته هالة في مصنع القطن، ولكن الأمور لا تستقيم لها هناك حتى تعود بحسرتها إلى القرية، وبين هؤلاء نتعرف الى فئات اجتماعية أخرى من طبيب الطب الشرعي المسؤول عن بيان حالة الوفاة إلى ضابط الشرطة الذي يحقق في القضية، إلى البسطاء الذين يتابعون ما يحدث وينقلون تفاصيله في حيرة وانهزام.

هكذا انتقلت الرواية من حالة وصف الجريمة وأبعادها وملابساتها، إلى أن تكون رواية اجتماعية نفسية تكشف عن مجتمع القرية وما يدور فيه، وتلك السلطات التي تفرض حضورها وتؤثر على الناس فيها حتى عصرنا الحالي، لا سيما تلك الجدة حليمة التي تسعى بكل ما تملك إلى أن تفرض وصايتها حتى بعدما رأت حفيدتها جثة هامدة.

استطاعت "لونجا" أن تقدم صورة ورؤية مختلفة لرواية الجريمة لا تتوقف عند القاتل فحسب

"لونجا"

في روايتها "لونجا" (الكتب خان، 2024) تقدم مريم عبد العزيز عالما مختلفا للجريمة التي اعتدنا عليها فتبدأ من حدث اختفاء أثر أحد سكان عمارة بوسط البلد، واكتشاف الجيران لجثته بعد وفاته بأيام، ليكتشفوا أن ثمة جريمة قتل أودت بحياته، ومن خلال تعرفنا اليه والى علاقاته بجيرانه وبمعارفه نبدأ االتعرف الى من يمكن أن يكون القاتل.

منذ السطور الأولى يبدو على الرواية الاهتمام بتفاصيل أخرى في السرد بعيدا عن الكشف عن القاتل والجريمة، إذ ندخل معها بيت ذلك العازف ونتعرف الى تفاصيل حياته ومشاكله، وعلاقته الخاصة بالموسيقى، وفي كل فقرة تبدو الكاتبة قادرة على إثراء النص بالمزيد من التفاصيل المتعلقة بعوالم أبطالها على اختلافهم، فالموسيقى تحضر بمستويات متعددة سواء في التقسيم الذي اعتمدته الكاتبة والذي تفسره في مدخل الرواية بعنوانها "لونجا: قالب موسيقي عربي يتميز بالانتقال المفاجئ والسرعة في الأداء، ويتكون من أربعة أقسام كل قسم منها يسمى خانة، وجزء مكرر يسمى تسليما"، وهي تعتمد هذا التقسيم في روايتها فتجعلها مكونة من أربعة أقسام/ خانات، نتعرف من خلالها الى العمارة وأفرادها واحدا واحدا وكيف كانت علاقتهم بالقتيل، وإلى أي واحد منهم يمكن أن تشير أصابع الاتهام في مقتله.

لم تقتصر الرواية على حادثة موت واحدة، فهناك حالة وفاة أخرى قريبة ولكنها بدت طبيعية للجار الشاب خالد، وكأن الكاتبة قصدت أن تضع عددا من المقابلات بين حالتي الموت الذي سيطر على الرواية، بين ذلك الشاب "الرايق" كما كانوا يلقبونه، وبين الموسيقار توفيق الذي خانه التوفيق طوال حياته، حتى في الحصول على حبيبته بعد كل هذا العمر، فلا يجد سوى آلة العود يبثها أشجانه وأحزانه، ويفاجأ بأن ذلك الشاب يقاسمه هما مشتركا وإن لم يدرك تماما ما هو، حتى تأتي مفاجأة النهاية في تحقيقات الشرطة التي تحوّل مسار الرواية بشكل كبير.

بين عالم الموسيقي القتيل والشاب الرايق وسكان العمارة على اختلاف طبقاتهم، دارت رواية "لونجا" وبدا العزف فيها جامعا بين الحزن والتأمل، وكأنه كما يرد في الرواية من "مقام الصبا"، ولكنها استطاعت أن تقدم صورة ورؤية مختلفة لرواية الجريمة لا تتوقف عند القاتل فحسب، وإنما  تعرفنا أكثر الى سكان تلك المنطقة من وسط البلد في القاهرة، بل وتدور مع القارئ دورة أخرى مغايرة لكي تعكس وجها آخر من وجوه هؤلاء البسطاء حينما تتاح لهم الفرصة للإيقاع بالضحايا.

font change

مقالات ذات صلة