كل الحضارات الإنسانية تفتخر برموزها العظام، بل ترفعهم إلى منزلة فوق منزلتهم الواقعية، إن استطاعت. على سبيل المثل، عند اليونان الأقدمين، عندما يموت الرجل العظيم يتحول في الذاكرة إلى إله. كل الأسماء التي نعرفها من ملاحم هوميروس وأشعار هزيودوس هي في ظني لرجال عظماء حوّلهم التاريخ إلى آلهة. هذا في تخميني هو سبب كثرة أسماء الآلهة في تاريخ الإغريق. والعرب مثل غيرهم في هذا يعظّمون رموزهم ويحترمونهم ويتفاخرون بقصصهم. نستثني من ذلك أصحاب النظرة المذهبية الحزبية الضيقة التي لا تقبل إلا من كان من مذهبها.
في هذا الأسبوع تداول الناس فيديوهات تنقل عن بعض رجال الدين مقولة جديدة تزعم أن العالِم العربي جابر بن حيان شخصية وهمية. لا أدري ما سر هذه الهجمة ولمَ في هذا الوقت بالذات، إلا أن من أثاروا هذه القضية ليسوا من بلد واحد، لكن يجمعهم الانتماء للخط السلفي. حجة بعضهم على النفي هو أن جابر بن حيان لم يُذكر في كتب التراجم السلفية وأنه لا دليل على وجوده. لو طالبنا بالدليل على وجود كل شخص لطارت منا شخصيات تراثية كثيرة، وبالتالي فالمطالبة بالدليل لا تصب في صالح هذه الدعوى.
مؤلف موسوعة "سير أعلام النبلاء" يخصص مئات الصفحات لأحمد بن حنبل، ويكتفي بصفحة ونصف الصفحة عن صلاح الدين الأيوبي
في العودة إلى ابن حيان، الطبيعي ألا يُذكر وغير الطبيعي أن يُذكر في مثل تلك الكتب، لأنها متخصصة في الترجمة لرجال الحديث والفقه ولا تتعامل بإنصاف مع الباقين. عندما تنظر مثلا في موسوعة "سير أعلام النبلاء" تجد أن مؤلفه شمس الدين الذهبي يخصص مئات الصفحات لأحمد بن حنبل، ويكتفي بصفحة ونصف الصفحة عن شخصية محورية مثل صلاح الدين الأيوبي محرر القدس، وثمة صفحة عن الجاحظ يصفه فيها بأنه ماجن قليل الدين. فقط علماء العربية المختصون يعرفون بشكل دقيق حجم الفضل الكبير الذي للجاحظ والمتنبي وغيرهما على اللغة العربية وتطورها.
نفي وجود ابن حيان من الزيادات التي زادها السلفيون المعاصرون على آراء ابن تيمية ومما خالفوه فيه، فالشيخ ابن تيمية لم يُنكر وجود جابر بن حيان ولم يقل إنه شخصية وهمية كما ادعوا، بل أثبت وجوده، وإن كان قد وصفه بأنه "مجهول لم يُعرف بدين" وكلمة "مجهول" هنا هي من مصطلحات علم الرجال والتراجم والجرح والتعديل، ولا يراد بها نفي وجود الشخصية، بل المقصود هو جهالة الحال في الرواية فلا يُعرف شيء عن أهليته لرواية الحديث من جهة الحفظ والضبط والثقة. وقوله "لم يُعرف بدين" لا تعني شيئا سوى أنه ليس من المشايخ المشغولين بالعلوم الدينية، ولم يقصد بها القدح في دينه. وكل هذا متفق عليه، فابن حيان عالم بالطبيعة، خصوصا الكيمياء، وليس مختصا بعلوم الدين. هذا ما لم ينتبه إليه من استعجلوا وجزموا بنفي وجود ابن حيان وهو خطأ لم يقع فيه الشيخ ابن تيمية.
ابن حيان عالم كبير ومفخرة لكل تاريخ الأمتين العربية والإسلامية، فهو أحد أكبر رواد علم الكيمياء على مستوى العالم. هذا المجهول، بزعمهم، هو أبو موسى جابر بن حيان الذي ترجم الباحث البريطاني ريتشارد راسل عددا من كتبه إلى الإنكليزية، ووصفه بأنه أشهر علماء العرب وفلاسفتهم، وعدّ له أستاذ الجيل الدكتور زكي نجيب محمود 52 كتابا في العلوم الطبيعية المختلفة.
هل يليق أن نرد على هذا الاحتفاء الكبير بالعلماء العرب والمسلمين بأن نقول إنهم شخصيات وهمية؟
هذا الإنكار لجهود علماء الطبيعة المسلمين مخجل، مع أنك لو عدت إلى كتب تاريخ العلم لوجدتها تقول إن كليات الطب في أوروبا بقيت عالة على كتاب "القانون في الطب" لابن سينا خلال قرون متتابعة، حتى زمن الثورة العلمية الحديثة، وإن جابر بن حيان والحسن بن الهيثم وغيرهما من العلماء العرب، يعاد تقييمهم الآن في العالم الغربي بحيث أصبحت تقام لهم المؤتمرات العلمية السنوية وتكتب عنهم الأوراق وتدون البحوث. هل يليق أن نرد على هذا الاحتفاء الكبير بأن نقول إنهم شخصيات وهمية؟ هناك أمر حبذا أن ينتبه إليه الإخوة الباحثون في هذا المجال، ألا وهو أن الدنيا ليست محصورة في المراجع السلفية. حبذا أن نخرج من هذا الجحر الضيق فالدنيا أرحب.