نتنياهو... معارك صامتة على وقع حرب غزة وتوتر لبنان
نتنياهو "سيد الأمن"... وغانتس "رجل دولة"
نتنياهو... معارك صامتة على وقع حرب غزة وتوتر لبنان
إذا كان نتنياهو قد تعلم شيئا من حياته المهنية الطويلة كشخصية سياسية بارزة في إسرائيل، فهو أن التوقيت يمثل كل شيء. عندما تتاح الفرص، اغتنمها. ولكن الأهم من ذلك، إذا كانت الظروف غير مواتية، تراجع عن خطواتك. قم بالتأجيل، واركل العلبة إلى أبعد ما تستطيع. قم بالتأخير وانتظر إلى أن تصبح الظروف ملائمة أكثر، حتى لو تسبب ذلك في تفاقم الأزمة. إذا انتظرت وقتا كافيا، يمكن للنجوم أن تصطف مرة أخرى من أجلك. إنها استراتيجية بسيطة، لكنها أنقذت نتنياهو مرات عديدة، ويأمل أن يستخدمها مرة أخرى لإنقاذ نفسه من أسوأ أزمة واجهها حتى اللحظة. الكثيرون قالوا إن نتنياهو "انتهى أمره". لكنه ما زال هنا بانتظارهم.
في أواخر شهر مايو/أيار، تلقى رئيس الوزراء الإسرائيلي المحاصر أول إشارة إلى أن استراتيجيته قد تثمر. حيث أظهر استطلاع للرأي للمرة الأولى أن الإسرائيليين يفضلون نتنياهو على منافسه الرئيس، بيني غانتس. كان غانتس قد دخل الحكومة في أكتوبر/تشرين الأول، لكنه كان يشير في ذلك الوقت إلى قراره بالاستقالة. قبل هذا الاستطلاع تحديدا، كان غانتس يتقدم في استطلاعات الرأي بفارق كبير. في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، كان غانتس متقدما بفارق كبير على نتنياهو حيث فضّل 45 في المئة من الإسرائيليين رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، بينما رأى 27 في المئة فقط من المستطلعين أن نتنياهو هو الأنسب كي يشغل منصب رئيس وزراء إسرائيل.
يشعر بعض أنصار غانتس بخيبة أمل لرحيله، بينما يرى آخرون أنه أطال البقاء وكان عليه أن يغادر قبل شهور
ورغم أن الاستطلاع كان الأكثر وضوحا، فإنه لم يكن العلامة الوحيدة على تراجع الدعم لغانتس. من المؤكد أن حزب غانتس كان (وما زال) متقدما على حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو. لكن الفجوة بين الاثنين تقلصت من الذروة التي بلغتها في ديسمبر عندما كان حزب غانتس يحقق تقدما هائلا على نتنياهو بفارق 19 مقعدا، لينخفض الفارق إلى أربعة مقاعد في عدد من الاستطلاعات الأخيرة.
ويأتي انخفاض الدعم لخصم نتنياهو الرئيس في الوقت الذي كان غانتس يسعى فيه إلى تنفيذ مناورة صعبة، ألا وهي إخراج نفسه من حكومة الوحدة التي انضم إليها قبل ثمانية أشهر.
قبل 9 أشهر، بعد أيام من تعرض إسرائيل إلى واحدة من أسوأ الهجمات في تاريخها، انضم غانتس إلى نتنياهو، مدعيا أنه يضع "إسرائيل أولا". لم يكن هذا خيارا سهلا، ولكنه أتى بثماره لشهور عدة، حيث استمر غانتس في احتلال مراتب عالية في استطلاعات الرأي. ومن خلال قيامه بذلك، نجح في توحيد الصفوف المتنامية من أولئك الذين تحرروا من الوهم بسبب قيادة نتنياهو الضعيفة، كما نجح في ضم شريحة واسعة من الإسرائيليين الذين شعروا بأن السياسة يجب أن تتراجع إلى الخلف عندما ردت إسرائيل على هجمات "حماس".
لكن ينبغي عليه أن يفعل العكس ويترك الحكومة. وهذا ينطوي على مخاطر جمة. فالانسحاب أمر سهل، لكن القيام بذلك دون ضرر سياسي سيكون إنجازا مذهلا. سيشعر بعض أنصاره بخيبة أمل لرحيله، بينما يرى آخرون أنه أطال البقاء وكان عليه أن يغادر قبل شهور.
ومرة أخرى يلعب التوقيت دورا حاسما. ففي مايو قام غانتس بخطوته الأولى للخروج من الحكومة، حيث وجّه في خطابه إنذارا أخيرا لنتنياهو، مطالبا الحكومة بصياغة خطة لتحقيق ستة أهداف رئيسة، تشمل إنقاذ الرهائن، وإيجاد بديل لحكومة "حماس" في غزة، وتمكين عودة الإسرائيليين الذين نزحوا بسبب الصراع على طول الحدود مع لبنان، والتحرك لتطبيع العلاقات مع السعودية. استغرق الأمر بضع ساعات فقط كي يرفض نتنياهو هذا الإنذار.
وأوصى غادي آيزنكوت، رئيس أركان سابق آخر للجيش الإسرائيلي وحليف رئيس لبيني غانتس، بأن يدرك الوزير رفض نتنياهو ويغادر بأسرع وقت ممكن. رفض غانتس، وأعطى نتنياهو مهلة ثلاثة أسابيع، استخدمها بيبي (بنيامين نتنياهو) لسحب البساط نحوه والاستحواذ على الرواية، بمساعدة الأحداث المتصاعدة في كافة أنحاء إسرائيل وغزة.
خلال هذه الأسابيع الثلاثة، أصبح الوضع أسوأ بالنسبة لغانتس. ففي البداية، تعرضت إسرائيل لسلسلة من الإدانات الدولية، بما في ذلك الأخبار التي تفيد بأن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية يسعى لإصدار مذكرات اعتقال ضد كل من نتنياهو ووزير الدفاع غالانت. وهذه بلا شك ليست أخبارا جيدة لبيبي. لكن هذا الأمر يعني أيضا أن غانتس يغادر الحكومة في الوقت الذي تكون فيه مكانة إسرائيل في العالم في أسوأ حالاتها، وهو ما قد ينقلب ضده.
يأتي بعد ذلك اشتعال شمال إسرائيل (بالمعنى الحرفي للكلمة)، مع تكثيف "حزب الله" لهجماته وسط موجة حارة تسببت في كثير من الحرائق. وحذر كثير من المسؤولين الإسرائيليين من إمكانية اتخاذ قرار بشأن شن حرب واسعة النطاق في لبنان قريبا. إذا اندلعت الحرب فور رحيل غانتس، فقد يضعه ذلك في موقف محرج، حيث سيصوره خصمه كرجل يضع السياسة أولا- وهو اتهام ينطبق على نتنياهو أكثر من غانتس بكثير، لكن المنظور الجماهيري يصبح هو الحقيقة في السياسة. وفي الوقت نفسه، تمر الحرب في غزة بمنعطف حرج مع توغل إسرائيل في عملياتها الآن بشكل أعمق داخل رفح.
من أجل استبدال الحكومة الحالية، على غانتس والمعارضة الإسرائيلية بقيادة يائير لابيد العثور على منشقين داخل صفوف الائتلاف. وهذا لن يكون بالأمر السهل أبدا
وفي النهاية، جاءت القشة الأخيرة: ففي اليوم الذي كان من المفترض أن يعلن فيه بيني غانتس رحيله الدراماتيكي عن الحكومة، مع انتهاء المهلة التي حددها، أنقذت عملية إسرائيلية 4 رهائن إسرائيليين، الأمر الذي أجبر غانتس على تأخير إعلانه. وقبل يوم واحد، كان التقى مع عدد من عائلات الرهائن، كي يواجه الغضب والإحباط الكامن لدى أولئك الذين ينتظرون عودة أحبائهم منذ ثمانية أشهر. وهو ما رفض نتنياهو نفسه القيام به علنا. ولكن بعد ساعات، سارع نتنياهو إلى زيارة الرهائن الأربعة الذين أنقذوا، وأظهر نفسه كصديق الأوقات السعيدة، الموجود دائما في أوقات المرح، والغائب تماما في أوقات الشدة. وعبر عن هذه الحقيقة والد أحد الجنود الإسرائيليين الذين ماتوا في الأسر في غزة، إذ قال بمرارة: "عندما تنتهي الأمور بشكل سيئ، لا يأتي رئيس الوزراء. حتى إنه لا يتصل". ولكن مرة أخرى، كان بيبي هنا للاحتفال بالنصر، بعد أن قضى شهورا يبذل كل ما باستطاعته لتجنب تحمل المسؤولية عن الفشل الفادح الذي مثلته أحداث 7 أكتوبر.
الآن وبعد أن أخرج غانتس نفسه من الحكومة أخيرا، سوف يشتد إيقاع المعركة السياسية من أجل مستقبل إسرائيل. إذ لا يضمن رحيل غانتس انهيار حكومة نتنياهو، فالائتلاف الذي يقوده رئيس الوزراء الإسرائيلي ما زال يتمتع بالأغلبية في الكنيست. ومن أجل استبدال الحكومة الحالية، ينبغي على غانتس والمعارضة الإسرائيلية بقيادة يائير لابيد العثور على منشقين داخل صفوف الائتلاف. وهذا لن يكون بالأمر السهل أبدا، فقد أحاط نتنياهو نفسه بـ"أشخاص يوافقونه الرأي دائما" يبدو بعضهم منفصلا بشكل كلي عن الواقع. على سبيل المثال، أشادت وزيرة النقل الإسرائيلية ميري ريجيف بالحكومة وذلك لقيامها بـ"أشياء رائعة" وهي تنظر ببلادة إلى حقيقة أن "الكثير من الناس يقيمون في الفنادق، وكل ذلك بتمويل من الحكومة"، في إشارة إلى عشرات الآلاف من النازحين الإسرائيليين الذين تعرضت منازلهم للتدمير أو أصبحت غير آمنة.
وفي الوقت نفسه انتقد آخرون نتنياهو علانية أو من تحت الطاولة. وعلى رأسهم وزير الدفاع غالانت الذي ذكره غانتس على وجه التحديد في خطاب استقالته، ودعاه إلى "القيام بفعل الشيء الصائب". وتتصاعد التوترات أيضا داخل الائتلاف الحاكم وسط حملة دينية لتقديم مشروعين لقانونين، أحدهما لتوسيع نفوذ وزارة الشؤون الدينية، والآخر لإعفاء اليهود المتشددين من الخدمة العسكرية، في وقت تواجه فيه إسرائيل تحديات أمنية غير مسبوقة. وأعرب كثير من أعضاء حزب نتنياهو عن معارضتهم العلنية لهذه القوانين، مما أجبر بيبي على التراجع عن القانون الأول– مرحليا على الأقل. ولكن سيتعين على نتنياهو الاستمرار بعد أن حذرت الأحزاب الدينية من أنها قد تنسحب من الحكومة. وهذا يعني أن سيناريو انهيار الحكومة بقيادة نتنياهو من تلقاء نفسها ليس مستبعدا، خاصة مع تصاعد التوترات الداخلية. لكن الفصائل الممثلة حاليا في الحكومة تخشى الانتخابات عموما، لأنها تدرك أن لديها الكثير لتخسره وأنها لن تكسب شيئا في المقابل. وعلى الرغم من أن أداء الأحزاب الدينية قد يكون أفضل في الانتخابات بسبب مدى انضباط أنصارها، فإنها لن تكسب شيئا من تغيير الحكومة، إذ على الأرجح أن الحكومة البديلة، التي ستدعمها أحزاب علمانية في الغالب، لن تمنحهم التنازلات نفسها التي لا يمانع نتنياهو في تقديمها لهم. وفي ظل غياب استراتيجية سياسية واضحة، فإن معارضة نتنياهو ستقتصر على الانتظار بشكل سلبي حتى تنهار حكومته من الداخل، وهو ما لا يحدث ببساطة في الغالب.
سيميل القارب الذي غادره غانتس نحو اليمين بشكل أكبر، حيث يستخدم بن غفير وسموتريتش نفوذهما لكسب المزيد من السطوة على الحكومة
ويشير الوضع الحالي في الكنيست إلى أن آخر أوراق المعارضة ستكون إقناع أعضاء من ائتلاف نتنياهو بالانشقاق. فعلى الرغم من جميع الاستطلاعات السلبية، وحتى بعد مغادرة غانتس، لا يزال المعسكر اليميني بقيادة نتنياهو يمتلك 64 مقعدا من أصل 120 في الكنيست. ووفقا للقوانين الأساسية الإسرائيلية، التي تعادل الدستور، فإن التصويت على حل الكنيست ومن ثم فرض انتخابات جديدة، وهو أفضل فرصة للمعارضة للإطاحة بنتنياهو، يتطلب أغلبية مطلقة تبلغ 61 صوتا. وهذا يعني أن المعارضة بحاجة إلى انشقاق خمسة أعضاء من الائتلاف الحاكم لتحقيق هذا الهدف.
وعلى الرغم من تزايد التوترات داخل صفوف بيبي، فإن تحويل هذا الإحباط المكبوت إلى تحد علني سيكون مهمة صعبة. وكي يتمكن غانتس من ممارسة ما يكفي من الضغط، سيتعين عليه أن يكسر المحرمات، بما فيها الانضمام المحتمل إلى دعوات لاحتجاجات عامة. لكن ولكونه رئيسا سابقا لأركان الجيش الإسرائيلي، فمن المرجح أن لا يقدم غانتس على مثل هذه الخطوة في ظل الحرب المندلعة. وقد أكد فريق غانتس أنهم يريدون الإضافة الأحدث إلى المعارضة أن تكون "رجل أمة" بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وفي الوقت نفسه انتقد الفريق رئيس حزب "العمل" اليساري المنتخب حديثا يائير غولان، لأنه تمادى كثيرا عندما دعا جنود الاحتياط إلى عدم الالتزام بتأدية الخدمة. يدرك فريق غانتس جيدا أن الطريق إلى التغيير قد يكون طويلا، وأن خروجهم الدراماتيكي لا يمثل إلا البداية.
واتخذ غانتس الخطوة الأولى، بعد أيام من استقالته، من خلال المشاركة في احتجاج صغير في جنوب إسرائيل. لكنه لم يدعُ حتى الآن لتنظيم أي احتجاج. ولا يميل فريق غانتس إلى تصوير الوزير الإسرائيلي السابق كزعيم للاحتجاجات، فهم يشعرون أنه يجب أن يبقى بمظهر رجل الدولة حتى يتمكن من التغلب على بيبي على المدى الطويل، كما أنهم يدركون أن هذا قد يكون سباق ماراثون وليس سباق سرعة.
حاليا، سيميل القارب الذي غادره غانتس للتو نحو اليمين بشكل أكبر، حيث يستخدم بن غفير وسموتريتش نفوذهما الجديد- باعتبارهما من بعض آخر حلفاء بيبي المتبقين– لكسب المزيد من السطوة على الحكومة. وهذا أمر مقلق للغاية لأنهم سيتولون المسؤولية في منعطف حرج من الحرب. حتى لو تمكنت المعارضة من العثور على الأصوات المفقودة لإقالة الحكومة الحالية، سيستغرق إجراء الانتخابات ثلاثة أشهر. كما أن الفرصة بالوصول إلى الانتخابات هذا الخريف، كما دعا غانتس، ضئيلة إلى حد كبير، حيث سينهي الكنيست جلساته قريبا أواخر يوليو/تموز، ومن المقرر أن لا تبدأ الجلسة التالية قبل نهاية أكتوبر.