حتى يتمكن القاضي من أداء مهامه بتطبيق القانون وتحقيق العدالة، ولأجل أن تتوافر لديه الظروف النفسية والوظيفية والاجتماعية المناسبة لأداء تلك المهمة السامية، يجب أن لا يتعرض للتنكيل والتجريح والإساءة الشخصية والتي تصل في أحيان كثيرة إلى محاولة تشويه السمعة والمساس بها. وإزاء ذلك تقف التشريعات القانونية في كافة الدول موقف الحزم والردع من خلال تجريم أي فعل يشكل إهانة للقضاة أو للمؤسسة القضائية وفرض العقوبات المناسبة لمن يقترف مثل تلك الأفعال.
ولم تجرم التشريعات فعل إهانة القضاء لاعتبارات شخصية تتعلق بالقضاة، بل لاعتبارات تتعلق بحماية نظام العدالة وتوفير فرص أمثل للأمن القانوني في المجتمع من خلال ضمان استقلال القضاء والمحافظة على هيبته ومكانته في المجتمع، لأن أي إساءة وأي تجريح يتعرض له القاضي أو مؤسسته يتسبب في اهتزاز ثقة المواطنين في المؤسسة القضائية، وبالتالي يعرض نظام العدالة ككل لتصدعات خطيرة تنعكس على النظام القانوني بصورة كلية، وهذا هو السبب الموجب الذي يدفع التشريعات القانونية لتجريم فعل إهانة القضاء والإساءة للمؤسسة القضائية.
أما إذا كان هناك رأي مخالف لقرار أو حكم صدر من محكمة معينة، فإن طرق الطعن القانونية متاحة وحق النقد من خلال التعليق على الأحكام القضائية متاح أيضا، بعيدا عن المساس بشخوص من أصدروا تلك القرارات من القضاة بالإساءة الشخصية.
رغم أن الحفاظ على استقلال القضاء ليس مسؤولية القضاة فقط، بل هو مسؤولية مجتمعية ووطنية، فإن البعض يدفع باتجاه التشويه بدل المساندة
أسوق هذه المقدمة كتمهيد للحديث عما يتعرض له القضاء العراقي من إساءات متكررة طالت المؤسسة القضائية والكثير من القضاة ولم يسلم منها حتى رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي الدكتور فائق زيدان، تلك الإساءات التي صدرت وتصدر من بعض الشخصيات. وأدرك أن منطلق بعض تلك الإساءات كان شخصيا كون من صدرت منه الإساءة سبق وأن تضرر من بعض الأحكام القضائية. وبعض تلك الإساءات تنطلق من عدم فهم لدور المؤسسة القضائية والدور الوظيفي الذي يمارسه الرئيس فيها. فالرجل ساهم بشكل فاعل وأساسي في دعم المؤسسة القضائية وعلو كعبها وتوفير الحصانة لقضاتها من خلال قوة ومركزية السلطة القضائية في الوقت الحاضر بين بقية السلطات، تلك السلطة التي وفر لها القانون انعتاقا واستقلالا دستوريا عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، مما جعل التجربة القضائية في العراق من أفضل التجارب القضائية في المنطقة التي ما زالت غالبية مؤسساتها القضائية تتبع السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل.
ورغم ذلك، ورغم أن الحفاظ على استقلال القضاء ليس مسؤولية القضاة فقط، بل هو مسؤولية مجتمعية ووطنية فإن البعض يدفع باتجاه التشويه بدل المساندة، ذلك التشويه الذي طال حتى المسيرة المهنية لرئيس مجلس القضاء الأعلى وسط عدم الدراية وعدم الإلمام بتلك المسيرة، كون الرجل لم يأت لإدارة المؤسسة من خارجها فهو قاض عمل في بغداد منذ عام 1999.
وبعد تغير النظام تم اختياره سنة 2005 لرئاسة المحكمة الجنائية المركزية التي كانت لها الولاية على جميع المحافظات العراقية وتختص بمكافحة الإرهاب والفساد الإداري والجرائم المنظمة. وفي عام 2012 تم تعيينه عضوا في محكمة التمييز بعد ترشيحه من مجلس القضاء الأعلى مع 23 قاضيا آخر، وتم التصويت عليهم بالموافقة من قبل مجلس النواب. وفي عام 2014 تم ترشيحه من مجلس القضاء الأعلى لمنصب نائب رئيس محكمة التمييز، ووافق رئيس الجمهورية وصدر المرسوم الجمهوري بتعيينه في هذا المنصب الذي لا يحتاج دستوريا موافقة مجلس النواب. وفي عام 2016 تم ترشيحه من قبل مجلس القضاء الأعلى لمنصب رئيس محكمة التمييز ووافق مجلس النواب بالإجماع على ذلك. وفي عام 2017 صدر قانون مجلس القضاء الأعلى رقم 45 الذي فصل بين المحكمة الدستورية ومجلس القضاء الأعلى، وكان لغاية صدور هذا القانون رئيس المحكمة الدستورية هو رئيس مجلس القضاء الأعلى، لكن القانون المذكور جاء بنص جديد أوجب من خلاله أن يكون رئيس محكمة التمييز هو رئيس مجلس القضاء الأعلى. وهذا القانون تم اقتراحه إلى مجلس النواب من قبل مجلس القضاء الأعلى نفسه، لأن هذا النظام كان معمولا به في القانون رقم (26) لسنة 1963 وتحديدا في المادة (28) منه والتي اعتبرت رئيس محكمة التمييز رئيسا لمجلس القضاء. والقانون المذكور هو أول قانون للسلطة القضائية في العراق.
منذ تولي القاضي فائق زيدان مهام رئاسة مجلس القضاء الأعلى زاد بناء المحاكم الجديدة وتأهيل القائم منها وإدخال النظام الإلكتروني في عمل المحاكم
وإزاء هذه المسيرة المهنية فقد أقر رئيس مجلس القضاء الأعلى وفي أكثر من مناسبة أن هناك محاولات من بعض الجهات للتدخل في عمل القضاء وإملاء الإرادات من أجل تحقيق مكاسب ومنافع فئوية وحزبية من خلال قرارات المحاكم، إلا أن المؤسسة القضائية وقفت أمام تلك المحاولات والتدخلات من خلال المحافظة على استقلال القضاة، كذلك عززت الاستقلال الذاتي للقضاة من خلال منع نقلهم بناء على تدخلات السلطة التنفيذية أو التشريعية وتوفير الحماية الوظيفية للقاضي من تلك التدخلات.
ومنذ تولي القاضي فائق زيدان مهام رئاسة مجلس القضاء الأعلى، زاد التوجه لبناء المحاكم الجديدة وتأهيل القائم منها وإدخال النظام الإلكتروني في عمل المحاكم، إضافة إلى زيادة عدد القضاة وزيادة عدد القاضيات وتمكينهن من تأسيس رابطة النساء القاضيات وانضمامها إلى رابطة القاضيات الدولية. وفي خطوات مدروسة لانفتاح المؤسسة القضائية على المجتمع القضائي الإقليمي والدولي تم الانضمام إلى المنتدى الدولي الدائم للمحاكم التجارية والمشاركة الفعالة في اجتماعاته في نيوروك وسيدني والدوحة.
وخلال تولي القاضي زيدان رئاسته عقد مجلس القضاء الأعلى مذكرات تفاهم وأقام علاقات قضائية متميزة مع عدد من دول العالم وأولها المملكة المتحدة ثم فرنسا وقطر والأردن وإيران والمملكة العربية السعودية والكويت وتركيا والمغرب والإمارات ولبنان، وتعلقت تلك المذكرات ببناء التفاهمات بين محاكم العراق ومحاكم تلك الدول على مستوى استرداد الأموال والمتهمين والتعاون الدولي والإنابات والمساعدات القانونية والقضائية.
وقد اقتبس رئيس المجلس- من خلال زياراته المتكررة إلى النظام القضائي في المملكة المتحدة وحضوره مرتين متتاليتين احتفالية افتتاح السنة القضائية فيها عامي 2017 و2018- فكرة تنظيم احتفالية سنوية للقضاء العراقي. وفعلا يحتفل القضاء العراقي سنويا بيوم القضاء العراقي، في احتفال مهيب يجمع القضاة من كل المحافظات العراقية يتم خلاله التأكيد على استقلال القضاء ومهنيته.
وكان من أهم ما نجح في إنجازه بعد توليه المنصب عام 2017 هو الدفع باتجاه تشريع قانون ضم المعهد القضائي إلى مجلس القضاء بعد أن كان مرتبطا بوزارة العدل التابعة للسلطة التنفيذية والعمل على تطوير البناء الهيكلي والعلمي للمعهد القضائي العراقي كي يتمكن من أداء دوره في تدريس القضاة ورفد المؤسسة القضائية بهم.
ولم تكن المؤسسة القضائية بعيدة عن الجانب الإعلامي، حيث أصدر مجلس القضاء الأعلى صحيفة خاصة بالقضاء تغطي نشاطات وعمل المحاكم اليومي، كذلك تم إنشاء موقع إلكتروني متميز للقضاء يغطي هذه النشاطات.
أيا كانت عمليات التشويه فإنها لن تفتّ في عضد المؤسسة القضائية التي تنشغل بأداء مهامها أكثر من انشغالها بالرد على هذه الإساءة أو تلك
وإزاء وقوف المؤسسة القضائية قوية ومتصدية للأزمات الإدارية والسياسية والمجتمعية التي مرت بها الدولة العراقية وهي بصدد أداء مهامها، يوجه البعض الإساءات من خلال اتهام القضاء بعلاقته مع القوى السياسية، رغم أن القضاء سلطة ضمن مجموعة سلطات ولا يمكن لها أن تنفصل كليا عن بقية السلطات، لاسيما وأن القوى السياسية هي التي تكوّن تلك السلطات من خلال الأحزاب التي تنضوي تحتها. كذلك لا يمكن للسلطة القضائية أن تعمل بمعزل عن بقية السلطات طالما كانت تلك العلاقات مؤسساتية ولا تؤثر في توجهات المحاكم واتجاه بوصلة قراراتها، وهذا ما أنتج خضوع القوى السياسية والمكونات الاجتماعية لقرارات المحاكم واحترامها للقرارات التي يصدرها القضاء على مستوى فض المنازعات وإدارتها.
والبعض لا يميز بين مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية العليا، ويعتبر القرارات التي تصدرها المحكمة الاتحادية صادرة عن مجلس القضاء الأعلى، رغم أن المحكمة الاتحادية مستقلة عن مجلس القضاء الأعلى. وبين هذا وذاك، فإن بعض الشخصيات التي سبق وأن تولت مناصب عليا ومنعت من توليها مستقبلا بقرارات من المحكمة الاتحادية راحت تدفع بعض المواقع الإعلامية لكيل الاتهامات للمؤسسة ورئيسها وللقضاة.
وأيا كانت عمليات التشويه فإنها لن تفتّ في عضد المؤسسة القضائية التي تنشغل بأداء مهامها أكثر من انشغالها بالرد على هذه الإساءة أو تلك، وتأخذ على عاتقها مهمة إرساء سفينة هذا البلد إلى بر الأمان والمحافظة على الأمن الوطني والسلم الاجتماعي.