فائق زيدان ودوره في مجلس القضاء العراقي

علاقته مع إيران وأميركا

رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مستقبلا رئيس مجلس القضاء الأعلى العراقي فائق زيدان، في مقره ببغداد، أكتوبر 2023

فائق زيدان ودوره في مجلس القضاء العراقي

عندما بدأت أميركا بإعداد مشروع مستقبل العراق ما بعد صدام حسين، صيف 2002، كانت هناك فرصة ضمن فريق العدالة الانتقالية للتأكيد على أن حرفية وتقاليد القضاء العراقي الذي كان عمره نحو قرن من الزمن كافية ووافية لتأسيس سلطة قضائية مستقلة تضمن عدالة انتقالية سلسة تعالج مظالم ضحايا النظام السابق وتطبق عدالة مستقبلية تحمي دولة يفترض أن تقوم على حكم القانون لحماية مشروع الديمقراطية والحرية في العراق. ولكن قدر "التغيير" شاء أن يكون المحامي سرمد الصراف المولود في أميركا أحد أعضاء الفريق، وهو من أب فلسطيني وأم عراقية هي شقيقة القاضي مدحت المحمود، فتمكن الصراف من دعم خاله مدحت رئيس مجلس شورى الدولة في زمن صدام، ليصبح رجلا أساسيا في مشروع إعادة تأسيس الماكينة القضائية وتشغيلها في العراق.

وكان المحمود قد زاد من تقربه من القوى العراقية، كما جعلته مزاملته الجزئية للزعيم الكردي الراحل جلال طالباني أيام دراسته للحقوق يحظى برضا الخارج والداخل. وهو الذي كان قد اقترح على الوكالات الأميركية المسؤولة عن إعداد منظومة عدلية تعالج انفلات الأمور الجزائية، تشكيل محكمة تحقيق جزائية مركزية ليتجنب مسؤولية القضاء العادي والعجز عن تحقيق العدالة من خلال المنظومة الجزائية العراقية المعروفة بالتشديد والقسوة منذ زمن "الحزب والثورة". واشترط المحمود لهذه المحكمة أن يكون قضاتها بمواصفات محددة وأن يرشّحوا منه ويعينوا من قبل الحاكم المدني، وبالتالي فإن قضاتها كانوا محصنين من أي مراجعة قضائية عن ماضيهم أيام النظام السابق.

وكان فائق زيدان، وهو من عائلة جنوبية، أحد هؤلاء القضاة المعينين والذين كانوا إما محامين جددا وإما قضاة سنّة هربوا من مناطق عملهم ليعملوا ضمن فريق المحكمة المركزية المحصنة في "المنطقة الخضراء". وقد حظي زيدان بدعم المحمود في كل قضايا الجزاء في العراق، وعلى رأس قضاة التحقيق في "المركزية".

التدرج بالمناصب

كان زيدان، وهو من مواليد عام 1967، قد تدرج في المناصب القضائية، إذ عين قاضيا عام 1999 وباشر عمله في بعقوبة، ثم عين نائب رئيس استئناف في 2006 لكنه لم يشغل المنصب، لأنه ظل قاضيا في المحكمة المركزية والتي لم تكن تتبع أي محكمة استئناف. وفي عام 2011 رقي للصنف الأول، ليعين بعد تسعة أشهر فقط عضوا في محكمة التمييز، وهو أمر نادر في تاريخ القضاء العراقي بأن ينال قاض عضوية محكمة التمييز بعد 9 أشهر من نيله "الصنف الأول"، ولم يكن عمره القضائي حينها سوى 12 سنة ونصف السنة فقط.

كان زيدان عضوا في حزب "البعث" المنحل، وكان والده أحد منتسبي "الحرس الجمهوري"

وبعد سنتين، في عام 2014، عين نائبا لرئيس محكمة التمييز، ثم وبعد سنتين أيضا أصبح رئيسا لمحكمة التمييز الاتحادية بتصويت مجلس النواب أي إنه أضحى رئيسا لمحكمة التمييز بعد أربع سنوات من تعيينه عضوا فيها فقط، ولم يكن يبلغ من العمر سوى 49 عاما، وهذا لم يحصل في تاريخ القضاء العراقي. 
 
أدوار ما بعد  2003

وكان زيدان مثل كثيرين في زمن حكم صدام عضوا في حزب "البعث" المنحل. وقد عُين بين عامي 2003 و2012 قاضي تحقيق في المحكمة الجنائية المركزية الخاصة بالإرهاب والفساد (محكمة الساعة)، ما جنبه إجراءات "الاجتثاث"، وأخذ ينفذ، من خلال تعيينه رئيسا لقضاة التحقيق في تلك المحكمة ومشرفا على عموم قضاتها، ما اعتبره خصومه أنه أجندات رئيس الحكومة السابق نوري المالكي ومدحت المحمود الذي دعمه بعد 2007.
وعندما صدر أمر بالقبض ضد مدحت المحمود لاتهامه بجرائم النظام السابق من المحكمة الجنائية العليا (محكمة صدام حسين) نصب زيدان عليها وزاد دوره في التسويات القضائية وإدارة السلطة القضائية الاتحادية رغم أنه كان قاضي تحقيق في المحكمة الجنائية المركزية. كذلك عين رئيسا للجنة القضائية الانتخابية والتي تنظر في طعون المرشحين لمجلس النواب، في انتخابات 2010 وانتخابات 2014، فعمل على إقصاء المعادين للمالكي وفوز الموالين له، وكانت تلك فرصته لبناء علاقات مع الأعضاء الجدد في مجلس النواب ومع الجهات السياسية.

نُصب فائق زيدان على القضاء العراقي وجمع بين منصبي رئيس محكمة التمييز ورئيس مجلس القضاء الأعلى

وبسبب علاقاته الوطيدة مع القوى السياسية الموالية لإيران- حينما ترأس الهيئة القضائية الانتخابية عام 2010– خصوصا مع قوى تحالف "دولة القانون" ومع المالكي شخصيا، اختير ليكون خليفة المحمود في السلطة القضائية، وسعت هذه القوى إلى تعيينه نائبا لرئيس محكمة التمييز، لكن المادة 47-رابعا من قانون التنظيم القضائي كانت عائقا أمامه، لأنها تشترط في نائب رئيس محكمة التمييز أن يكون من أعضاء محكمة التمييز ممن لديهم خدمة فيها لا تقل عن ثلاث سنوات، بينما أمضى هو فيها أقل من سنتين، فاقترح المحمود إذاك تعديلا لهذه المادة، وقد مرر المالكي هذا التعديل بموجب قانون تعديل قانون التنظيم القضائي رقم 8 لسنة 2014، ثم صدر المرسوم بتعيينه نائبا لرئيس محكمة التمييز في 12 مايو/أيار 2014 من قبل خضير الخزاعي الذي كان يمارس مهام الرئيس وقتذاك بسبب مرض جلال طالباني.
وبعدما أحال المحمود جميع نواب رئيس محكمة التمييز ذوي الأقدمية إلى التقاعد، ومن ضمنهم القاضي حسن الحميري، فأصبح زيدان الأقدم. وقُدّم اسم زيدان على قائمة القضاة الأقدم في مرسوم جمهوري ليصبح على الفور نائب رئيس المحكمة إياها.
وعندما أبدت الإدارة الأميركية انزعاجا من المحمود الذي يقال إنه تعرض لانتقاد من قبل ممثل الرئيس الأميركي لملف العراق بريت ماكغورك بمقر وزارة الخارجية الأميركية في شهر فبراير/شباط 2014، حينها سعى زيدان وبدعم من أبي مهدي المهندس وقاسم سليماني، لعقد أول لقاء بين المحمود وقيادات إيرانية بطهران في أبريل/نيسان 2014، وقيل حينها إنه وزيدان أعربا عن تأييدهما لدور إيران في العراق مقابل دعمهما من قبل الفصائل الموالية لطهران للبقاء في قيادة القضاء العراقي.

أ ف ب
فائق زيدان (يسار) يقدم تعازيه للسفير الإيراني في العراق محمد كاظم الصادق (وسط) في وفاة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، 20 مايو

بعدها يقول معارضوه إنه زيدان يعتبر "رجل إيران" في القضاء العراقي بسبب علاقته مع المهندس وسليماني، وهو الذي كان قد وصف الأخير عبر قناة "الشرقية" بأنه أخوه الذي لم تلده أمه، ثم أعلن في إحدى مناسبات تأبين المهندس قبل نحو سنة أن الأخير وهادي العامري وبنصيحة من قاسم سليماني "حميا القضاء من المظاهرات الشعبية التي طوقت مبنى مجلس القضاء الأعلى". 
وقتذاك قام زيدان بتشكيل أول محكمة مختصة بقضايا المخابرات خلافا للدستور والقانون اللذين ينصان على أن مهمة المخابرات هي جمع المعلومات عن التهديدات الخارجية وتزويد المؤسسات الأمنية العراقية بها ليس إلا.
لم يتلق زيدان دعما من الجنرال سليماني وحسب، بل دعمته أيضا الجهات السياسية العراقية الموالية لإيران ليكون رئيسا لمحكمة التمييز تمهيدا لمنحه بالتوازي منصب رئيس مجلس القضاء الأعلى، فصوّت البرلمان في الأول من يوليو/تموز 2017 لجعله رئيسا لمحكمة التمييز، ثم صدر قانون مجلس القضاء الاتحادي الذي نص على أن يكون رئيس محكمة التمييز رئيسا لمجلس القضاء الأعلى. وعليه، بات فائق زيدان يجمع بين منصبي رئيس محكمة التمييز ورئيس مجلس القضاء الأعلى مدى الحياة.

 القضاء 

بعد استحواذه على رئاسة مجلس القضاء الأعلى، عمل زيدان مع المحمود على إصدار أحكام من المحكمة الاتحادية العليا، لتعديل قوانين بعض مؤسسات القضاء إزاء تشكيلات الادعاء العام والإشراف القضائي بالإضافة إلى محكمة التمييز الاتحادية وإدارة مجلس القضاء.

رفض زيدان قرار المحكمة الاتحادية بمنع مجلس القضاء الأعلى من ترشيح أعضائها

وعندما طُعن في انتخابات عام 2018 أعطي فائق زيدان سلطة التدخل لترميم العملية الانتخابية من خلال قضاة قريبين منه، فأعلن أن نتائجها "صحيحة" وسط تشكيك آخرين، ثم أصدر الوسط السياسي قانون مفوضية الانتخابات لتشكيل مجلس المفوضية من قضاة اختارهم زيدان نفسه – ما خلا قضاة إقليم كردستان- من خلال قرعة، من أجل فرض سيطرته على إدارة الانتخابات. هذا بالإضافة إلى تعيينه قضاة الهيئة القضائية الانتخابية التي أسسها وأوكل رئاستها إلى القاضي حسن فؤاد القريب منه ومن مدحت المحمود.
بعدها، عُدل قانون المحكمة الاتحادية العليا وبلغ جميع قضاتها سن التقاعد وتوفي أحدهم، ثم جيء بقضاة يرأسهم قاض مقرب من هادي العامري هو جاسم العمري، فأصبح لدى زيدان نفوذ في المحكمة تلك، فأقيمت دعاوى باسم مجلس القضاء الأعلى وصدرت أحكام إضافية لمزيد من السيطرة على القضاء، وأسس لقواعد قضائية تمنع مجلس النواب من إصدار أو تعديل أي قانون دون موافقة زيدان شخصيا بحجة استقلالية القضاء.
ولم يتم احترام قرار المحكمة الاتحادية 38/اتحادية/2019 بمنع مجلس القضاء الأعلى من ترشيح أعضائها، وتم اللجوء إلى القضاء المدني العادي- محكمة بداية الكرخ- لإلغاء تعيين قاض اتحادي هو محمد رجب الكبيسي، بل ويشاع أنه "هدد" رئاسة الجمهورية بتحريك دعوى جزائية ضدها لإصدارها مرسوم تعيين قاض اتحادي، ما اضطر الرئاسة العراقية إلى إلغائه، وهذا مثبت بإقرار من زيدان ومنشور في الموقع الرسمي للسلطة القضائية.
إلى ذلك، عطلت أعلى محكمة اتحادية لمدة 18 شهرا قبل أن يصمم قانونها بطريقة محددة، وهو ما يخالف الدستور وأصول التشريع، ما أثر على استقلالها الدستوري والقانوني. وهو لا يزال يكرر الدعوة علنا إلى تعديل الدستور ما يوثر على دور ممثلي الشعب في تعيين القضاة بحجة استقلاليته. 
واللافت أنه طالب علانية وفي التلفزيون بتعديل الدستور لمعاقبة مجلس النواب. كما رفض التطبيق النصي لقانون مجلس القضاء الأعلى رقم 45 لسنة 2017 والذي ألزمه ترشيح نواب رئيس محكمة التمييز الاتحادية وأعضاء المجلس- رؤساء محاكم الاستئناف الاتحادية في المحافظات- ثم طعن في القانون أمام المحكمة الاتحادية، والتي قبلت الطعن وحرمت مجلس النواب من هذا الاختصاص، ليكون مؤثرا في أعضاء مجلس القضاء تعيينا وتنسيقا وتنقلا، حتى أصبح موضوع الاختصاص الجماعي للمجلس وفقا للدستور والقانون وإمكانية تحدي أوامر وتوجيهات ورغبات رئيسه ضربا من المستحيل.
ورفض طوال 4 سنوات التطبيق النصي لقانون الادعاء العام رقم 49 لسنة 2017، وطعن فيه أمام المحكمة الاتحادية السابقة بالدعوى 112/اتحادية/2021، فقبلت الطعن في 9 مواد. ولكن "الاتحادية" رفضت قبول طعن زيدان بحرمان الادعاء العام من الاستقلال المالي والإداري عن مجلس القضاء. وحاول زيدان من خلال علاقاته في مجلس النواب تعديل قانون الادعاء العام، ولكن مجلس النواب رفض التعديل رغبة منه في منح هذا التشكيل نوعا من الاستقلالية لمواجهة الإرهاب والفساد واحتراما للحكم القطعي البات من "الاتحادية". ورغم هذا الحكم البات قام زيدان بمجرد تشكيل المحكمة الحالية بالطعن في المواد نفسها المطعون فيها رغم قطعيتها في نص الدستور والقانون، فقبلت هيئة المحكمة الجديدة برئاسة محمد جاسم عبود الطعن وألغت أي نوع من استقلال الادعاء العام الاتحادي عن رئاسة زيدان.
كما رفض ولمدة 6 سنوات التطبيق النصي لقانون هيئة الإشراف القضائي الاتحادي رقم 29 لسنة 2016، وقد طعن فيه أمام المحكمة الاتحادية السابقة، فقبلت جزءا من الطعن ورفضت قبوله في مسألة استقلال هذا التشكيل ليتمكن من ممارسة الرقابة الداخلية الحقيقية على أعمال القضاة بمن فيهم الرئيس، ولكن زيدان رفض تطبيق الحكم القطعي البات لـ"الاتحادية". مرة أخرى حاول زيدان استغلال علاقاته في مجلس النواب لتعديل قانون هيئة الإشراف القضائي، ولكن المجلس رفض التعديل رغبة منه في منح هذا التشكيل نوعا من الاستقلالية لتشجيعه على أداء واجبه بالرقابة على أعمال القضاء واحتراما للحكم القطعي البات من "الاتحادية".

بخلاف كل المناصب المهمة التي يتغير متولوها كل أربع سنوات، فإن القضاء سيطر عليه مدحت المحمود

ومع رفض مجلس النواب لإجراء التعديل والحكم القطعي البات من المحكمة الاتحادية التي رفضت حرمان هيئة الإشراف من الاستقلالية، طعن زيدان بمجرد تشكيل المحكمة الحالية في المواد نفسها المطعون فيها، فقبلت هيئة المحكمة الجديدة الطعن، وألغت أي نوع من استقلالية هيئة إشراف القضاء الاتحادي عن رئاسة زيدان.
ورغم أن نظام المراسيم رقم 4 لسنة 2016 نص على تقدم رئيس المحكمة الاتحادية على رئاسة مجلس القضاء، فإن زيدان وبمجرد تشكيله للهيئة الحالية للمحكمة الاتحادية وسيطرته عليها قام بالطعن في هذا النظام المعمول به لمدة 5 سنوات، وقبلت المحكمة بالتنازل الجبري في حكمها الاتحادي 93/2021. أكثر من ذلك عدّل اسم بناية السلطة القضائية الاتحادية إلى "بناية رئاسة مجلس القضاء الأعلى"، في وقت نصت فيه المادة 89 من الدستور على أن "تتكون السلطة القضائية الاتحادية من مجلس القضاء الأعلى، والمحكمة الاتحادية العليا، ومحكمة التمييز الاتحادية، وجهاز الادعاء العام، وهيئة الإشراف القضائي، والمحاكم الاتحادية الأخرى التي تنظم وفقا للقانون".
تلك الأدوار التي قام بها زيدان مكنته من أن يصبح طباخ التوافقات السياسية في كل اجتماعاته مع الرئاسات أو قيادات العملية السياسية، سواء كانت معلنة أو سرية داخل مكتبه في مجلس القضاء أو في منزله، على نحو لم يشهده تاريخ القضاء العراقي. وقد أصبح تأثيره في المحاكم العليا والدنيا ومفوضية الانتخابات كبيرا جدا. حيث تجاهل 40 ألف طعن انتخابي عام 2018، بينما يجتمع اليوم علنا بالرئاسات والقيادات المعترضة على نتائج الانتخابات، في وقت وجهت فيه اللجان القضائية بقبول طعون القوى الميليشياوية المعترضة ضد المستقلين والقوى السياسية الفائزة.

المنصب

يرى فائق زيدان- وبعض القوى القريبة منه- أن مصادقة مجلس النواب على تعيينه رئيسا لمحكمة التمييز ثم رئاسة مجلس القضاء الأعلى تلقائيا، جعلت من بقائه على رأس السلطة القضائية أمرا أبديا إلى حين إحالته على التقاعد لبلوغه السن القانونية، فلا يمكن لأي جهة أن تحاسبه على تصرفاته أو تناقشه في منصبه.
وبخلاف كل المناصب المهمة في الدولة العراقية التي يتغير متولوها كل أربع سنوات ومن ضمنها الهيئات المستقلة، فإن القضاء سيطر عليه مدحت المحمود ثم "ورّثه" لفائق زيدان ليظل في منصبه لفترة لا تقل عن 15 سنة، هذا إذا لم يعدّل القانون ويرفع له سنه التقاعدية.

استغل دوره في المحكمة الاتحادية لمنح "الإطار التنسيقي" ما يعرف بـ "الثلث المعطل"

إن القوانين التي صدرت بالاتفاق بينه وبين القوى القريبة من إيران، وأهمها قانون مجلس القضاء الأعلى وقانون مفوضية الانتخابات وقانون الأحزاب السياسية، وضعت بين يديه أخطر الملفات. وهو  إصدر أمر قبض على الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب لقتله قاسم سليماني.
وبعد أن شعر أن الأكراد ومقتدى الصدر يخططون لإبعاده عن القضاء، استغل سيطرته على المحكمة الاتحادية لمنح "الإطار التنسيقي" ما يعرف بـ "الثلث المعطل"، بخلاف النص الدستوري لانتخاب رئيس الجمهورية الذي يكلف رئيس الوزراء بتشكيل الحكومة.

مواقف الداخل والخارج

إلى ذلك تربطه علاقة وطيدة بـقيادات من "الحرس الثوري" الإيراني والرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي الذي سماه "قريني"، وهو يزور طهران باستمرار. وله أيضا علاقات "تبادل مصالح سياسية" مع ما يسمى "فصائل المقاومة".
يتحاشى النواب العراقيون المس بزيدان أو أي من رؤساء المحاكم، وبالتالي فإن المهمة الرقابية لمجلس النواب أصبحت أثرا بعد عين، خصوصا بعد تنفيذ حكم الحبس للنائب هادي السلامي الذي تجرأ على مس قضاء محاكم النجف التي ترفض حسم مئات ملفات الفساد بحجة نقلها إلى بغداد.

أ ف ب
رئيس مجلس القضاء الأعلى العراقي فائق زيدان (الثاني على اليسار)، ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني (في الوسط) وزعيم قوات "الحشد الشعبي" فالح الفياض

وبعد الانتخابات النيابية الأخيرة وظهور مشروع تشكيل التحالف الثلاثي الذي خطط لعملية إصلاح تشمل القضاء، قام زيدان بأمر المحكمة العليا بخلق تفسيرات جديدة للدستور لتحطيم هذا المشروع الذي يستهدفه شخصيا. وبالفعل أدت هذه التفسيرات إلى أكبر مظاهرات شعبية أمام مبنى السلطة القضائية في صيف 2022 مطالبة بإصلاح القضاء، فقام زيدان بإصدار أمر غير مسبوق في تاريخ العراق قضى بتعطيل كامل مرفق السلطة القضائية ما أربك المشهد العراقي برمته، دولة ومؤسسات وشعبا ومصالح دولية.
أما القوى الكردية، فرغم أن قانون مجلس القضاء الاتحادي نافذ، فقد رفض مجلس قضاء إقليم كردستان التعامل مع القضاء الاتحادي الذي يرأسه زيدان بتحد واضح، بحيث اضطر مجلس القضاء الأعلى لإبلاغ كل محاكم العراق بعدم التواصل مع الهيئات القضائية في كردستان إلا من خلال مكتب علاقات حكومي مرتبط بمجلس الوزراء الاتحادي في بغداد.
ولكن القوى الكردية انقسمت فريقين في التعامل مع زيدان: الأول هو حزب "الاتحاد الوطني" الذي أقنعه الإيرانيون بالتعامل مع زيدان ليستطيع منافسة "الحزب الديمقراطي". والثاني هو "الحزب الديمقراطي" الذي تتراوح علاقته مع زيدان بين التحدي والتسليم خوفا من إيران. لكن الجميع في مطلق الأحوال يسلّم بسلطة زيدان سواء بدفع من الحكومة العراقية أو إيران.

رفض مناقشة أي مبادرة لمحاسبة الميليشيات المتهمة في استهداف القوات الأميركية

كما أن القوى الدينية متهمة هي الأخرى بالتسليم بسلطة زيدان. حتى إنها تجاهلت دعوة بابا الفاتيكان خلال زيارته الأولى إلى العراق في مارس/آذار 2021 لمعالجة مظالم العراقيين الذين سماهم "عطشى العدالة". ويرجح البعض أن تكون المرجعية الشيعية أوقفت خطب الجمعة بعد يأسها من إصلاح القضاء.
قطعا يعرف الأميركيون والممثلية الأممية والتحالف الدولي ضد "داعش"، حجم تأثير زيدان على القضاء والسلطات، ولكنهم ظلوا يجاملونه حتى وصلوا إلى قناعة بأن استهدافه يعني انهيار الاستقرار الهش في العراق، والدليل أن الكونغرس الأميركي أصدر تقريرا مفصلا تقدمه اسم زيدان يطالب الحكومة الأميركية بمراجعة الشروط التي تجعله تحت طائلة العقوبات.
وكان مسؤول ملف العراق في "معهد واشنطن" مايكل نايتس قد طلب علنا من الحكومة الأميركية السماح بكشف جزء من التسريبات الهاتفية التي حصلت عليها الوكالات الاستخباراتية الأميركية، بما في ذلك ما أثارته قناة "فوكس نيوز" حول دعوة وزارة الخارجية الأميركية زيدان لزيارة واشنطن في مارس/آذار الماضي ولقاء المسؤولين في وزارة العدل الأميركية، حتى تقاذف البيت الأبيض ووزارتا الخارجية والعدل المسؤولية عنها وتم أخيرا إلغاؤها على أثر ذلك. 
ورغم التهديد الأميركي للحكومة العراقية بوقف الدعم للعراق، فقد رفض زيدان مناقشة أي مبادرة لمحاسبة الميليشيات المتورطة في استهداف القوات الأميركية أو الأكراد خلال عمليات ما سمي "دعم المقاومة في غزة"، وبدلا من ذلك أمعن في توجيه المحكمة الاتحادية للتدخل بإلغاء وتعديل ووضع تشريعات تفرض على إقليم كردستان.
في إحدى إطلالاته الإعلامية النادرة على إحدى القنوات التلفزيونية في أول يوم من شهر رمضان للسنة الهجرية المنصرمة، رفض زيدان أن يعمل أولاده في القضاء بالنظر إلى التحديات والاستهدافات المريرة التي يعاني منها هو شخصيا، كما قال. وعندما سئل لماذا لا يقبل العرض المقدم له من قبل القيادات السياسية الشيعية والسنية والكردية لرئاسة الحكومة وقطع النزاع الحاصل حول الانتخابات الأخيرة، أجاب بأنها ليست المرة الأولى التي تعرض فيها عليه رئاسة الحكومة ولن تكون الأخيرة، ولكن غالب الظن أنه لن يقبل بها أبدا، لأنه الآن قادر على أن يتحكم بالدستور والقوانين والتشريعات والرئاسات والسلطات والمؤسسات، فلماذا يتخلى عن كل ذلك لرئاسة حكومة مؤقتة؟

* عضو فريق العدالة الانتقالية لمستقبل العراق وخبير في الحوكمة الرشيدة

font change

مقالات ذات صلة