اللاجئون السوريون في ميزان اقتصاد لبنان: الأرقام والآلام

قراءة في تقرير البنك الدولي المحدَّث عن التداعيات والتكاليف السنوية المقدرة بنحو 1,55 مليار دولار

.أ.ب
.أ.ب
أطفال سوريون، على تلة فوق مخيم للاجئين في محافظة البقاع، لبنان

اللاجئون السوريون في ميزان اقتصاد لبنان: الأرقام والآلام

منذ إندلاع الثورة السورية، وتحولها إلى صراع دموي بين النظام وداعميه من جهة، والمنظمات والفصائل المسلحة من جهة أخرى، سقط لبنان في مأزق الديموغرافيا مع النزوح السوري غير المسبوق الى لبنان. بدأ هذا النزوح عبر المعابر الحدودية الشرعية، ثم توسع وانتشر تسللا عبر المعابر غير الشرعية وطرق التهريب الكثيرة، بعدما امتنعت الحكومة اللبنانية عن تسجيل نازحين جدد.

في قراءة اقتصادية لمعضلة اللجوء السوري وأثره على التوازنات اللبنانية في شقيها السياسي والطائفي، قدم البنك الدولي في تقريره المحدَّث: "تداعيات الأزمة السورية على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان"، صورة عن الواقع الراهن حتى يونيو/ حزيران 2024.

يعي اللبنانيون جيدا حاجتهم لليد العاملة السورية، فلطالما كانت هذه العمالة تاريخيا العمود الفقري لقطاعي الزراعة والبناء

وإذا ما أضفنا أيضاً اللاجئين الفلسطينيين الموجودين على أرض لبنان منذ عام 1948، والبالغ عددهم نصف مليون تقريباً، بعدما نزح أخوان لهم أيضاً من المخيمات الفلسطينية في سوريا، نجد أن لبنان كان من أكثر الدول تضرراً من تدفق اللاجئين السوريين، ونال "أعلى نسبة تركز من اللاجئين في العالم نسبة إلى عدد السكان" وفق تقرير البنك الدولي.

ديانا استيفانيا روبيو

أنظر إنفوغراف: اللاجئون السوريون... مأساة بلا حدود

بعيدا من الدخول في تداعيات تراكم الأحداث والمناوشات التي تتكرر بين "الضيوف" والبيئة المضيفة، والأعمال المخلة بالأمن التي شكلت مرات عدة تهديداً أمنيا، لم تعد أجهزة الأمن ومؤسسات إنفاذ القانون، قادرة على ضبط التفلت المستشري، أو إعادة تعديل الإنتشار الديموغرافي للاجئين، لقطع الطريق أمام أي احتكاك واسع غير متوقع وسط بيئة المجتمعات المضيفة، وهو ما يضع البلاد أمام أخطار الفوضى وأعمال العنف.

ما بين الحاجة والمنافسة

يعي اللبنانيون جيداً حاجتهم لليد العاملة السورية، فلطالما كانت هذه العمالة تاريخياً العمود الفقري لقطاعي الزراعة والبناء، بيد أن عددها كان موسميا وتحت موجبات القانون، يزيد أو يقل وفقاً للعرض والطلب وحاجة الاقتصاد.

لم تعد انعكاسات كثافة النزوح السوري تقتصر على الخوف من ضخامة العدد وإنتشاره في كل حي وبلدة ومدينة، بل تعدى ذلك بعد تحوله الى "لاعب اقتصادي منافس" داخل منظومة الاقتصاد اللبناني، كما ترى "الهيئات الاقتصادية" التي تمثل غرف التجارة والصناعة وجمعيات أرياب العمل في لبنان، ودخوله على خط منافسة اللبنانيين في التجارة والعديد من الوظائف والمهن.

لا يعيش الاقتصاد اللبناني من دون العمالة السورية الفتية، لكن اقتصادا مبرمجاً على قياس أربعة ملايين لبناني ويعيش معاناة ومشاكل متراكمة بالجملة، لا يمكنه الاستمرار في تحمل جزء ثقيل من حاجات الاقتصاد السوري الذي أنهكته الحروب والعقوبات الدولية، وكانت انهكته قبل ذلك سياسات النظام الاقتصادية والفساد المستشري في البلاد، فلم يجد منفذا غير البوابة اللبنانية لتأمين المستوردات والحاجات الملحة.

أكبر تركز لللاجئين المسجلين في محافظة البقاع (24%)، يليها جبل لبنان (21%) ثم الشمال (15%)، ويضم جنوب لبنان والنبطية وبيروت أقل عدد من اللاجئين السوريين (7,3% و3,8% و1,5%) على التوالي

تقرير البنك الدولي

يئن لبنان اليوم تحت وطأة انهيارين، إقتصادي ونقدي، أعادا تشكيل الحياة اليومية للبنانيين من درجة ممتاز إلى درجة البؤس والفقر، لتأتي أزمة انتشار أكثر من 1,5 مليون نازح سوري على أرض لبنان، من دون أي أفق لحل قضيتهم، لتزيد الطين الاقتصادي اللبناني بلة، ولتعيد تشكيل النظرة اللبنانية التي تعاطفت بداية مع مظلومية اللاجئين الهاربين من جحيم حرب وحشية، فتصبح خوفاً جدياً على قدرة ما تبقى من إقتصاد لبنان للصمود في المستقبل، ولا سيما عودة الفجوة  إلى ميزان المدفوعات، بسبب المزيد من تسرب الوافدين عبر بوابات التهربب المشرعة وارتفاع تكلفة ذلك على الإقتصاد وغيرها من العوامل الاقتصادية.

مليار يورو دعم أوروبي للبنان

ويتخوف اللبنانيون اليوم أكثر من أي وقت مضى، من استمرار المراوحة في ملف اللاجئين السوريين، ودخول الاتحاد الأوروبي على خط ما يسمى "دمج" اللاجئين بالمقيمين، وتقديمه أخيرا مبلغ مليار يورو للحكومة اللبنانية "بمثابة دعم للقطاعات الحيوية"، فيما رأى فيها قسم من اللبنانيين "رشوة" للحكومة اللبنانية للتوقف عن المطالبة بإعادة اللاجئين إلى بلادهم، في مقابل ضبط المياه الإقليمية اللبنانية لمنع تدفق المهاجرين إلى أوروبا عبر لبنان.

Shutterstock

هذا الواقع أضاء عليه، في جانب منه، التقرير المحدَّث للبنك الدولي، الذي لم يصدر رسميا بعد، واطلعت "المجلة" على مسوّدته التي عرضت على الحكومة اللبنانية التي اهتمت بوضع خطة عمل متكاملة بناء عليه. إضافة الى الورقة التي أعدها مستشار رئيس الحكومة للشؤون الاقتصادية سمير ضاهر وعرضت في المؤتمر الوزاري الثامن الذي نظَّمه الاتحاد الأوروبي في بروكسيل لدعم مستقبل سوريا والجوار.

أرقام البنك الدولي

فوفق تقرير البنك الدولي، أدى التدفق المفاجئ والكبير للاجئين السوريين إلى لبنان، الذي بدأ في عام 2011، إلى أعلى نسبة تركز للاجئين في العالم. ووفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يستضيف لبنان نحو 1,5 مليون نازح مسجل وغير مسجل، معظمهم غير مقيمين في مخيمات رسمية لنازحين، على نحو يعكس أيضاً سياسة عدم إقامة المخيمات التي تهدف إلى تجنب تكرار سيناريو الوجود الفلسطيني الطويل الأمد في المخيمات. وتراوح نسبة اللاجئين السوريين إلى العدد الإجمالي للسكان من 23 في المئة إلى 27 في المئة، مما يجعل تدفق اللاجئين واحداً من أكبر المعدلات في العالم. 

إقرأ أيضا: السوريون في لبنان... الأرقام وجهة نظر

يتركز اللاجئون السوريون في المجتمعات المضيفة في الأطراف، وخصوصا في الأماكن الحضرية في المنطقتين الشمالية والشمالية الشرقية. ويوجد أكبر تركز للنازحين المسجلين في منطقة البقاع الغنية بالنشاط الزراعي، حيث تبلغ نسبتهم نحو 24 في المئة، يليها جبل لبنان (21 في المئة) وشمال لبنان (15 في المئة). ويضم جنوب لبنان والنبطية وبيروت أقل عدد من اللاجئين السوريين، 7,3 في المئة و3,8 في المئة و1,5 في المئة على التوالي. وفي كل المناطق توجد المجتمعات المضيفة بشكل عام في الأماكن الحضرية - أكثر من 90 في المئة - مما يجعل التحدي المتمثل في تلبية احتياجات اللاجئين تحدياً حضرياً في الغالب.

تقدر التكاليف الإجمالية السنوية المتكررة لاستضافة اللاجئين السوريين في لبنان بنحو 1,55 مليار دولار، للاستجابة للحاجات المباشرة

تقرير البنك الدولي

ولكن لبنان، في رأي سمير ضاهر، وإنّ لم يوَقِّع اتفاقية الأمم المتحدة لسنة 1951 في شأن اللاجئين، التزم مسؤولياته الإنسانية والأخلاقية كدولة عبور. بيد أنه، مع وقف العمليات الحربية في سوريا، من الأهمية بمكان التمييز، في ما يتعلّق باللاجئين السوريين المسجّلين والمدوّنين على لوائح المفوّضية، بين فئتَيْن إضافيَّتين:

 - أولئك الذين غادروا ديارهم خوفاً على سلامتهم، مما يوجب اتخاذ ترتيبات لمعالجة إقامتهم في لبنان الى حين تأمين عبورهم ضمن مدة قصيرة محددة إلى دول أُخرى يستقرّون فيها، مع التشديد على أنّهم يشكلون أقلية من اللاجئين المسجلين والمدوّنين.

- أولئك الذين غادروا ديارَهم سعياً وراء سبل عيشٍ أفضل، وهم يمثلون الغالبية الساحقة من اللاجئين المسجّلين والمدوّنين والذين ينبغي متابعة ترتيبات عودتهم بشكلٍ فعّال ومنظّم إلى وطنهم حيث لا يواجهون تهديداً لسلامتهم.

تأثير حرب سوريا على الاقتصاد الكلي اللبناني

كان للصراع السوري تأثير سلبي كبير على الناتج المحلي الإجمالي للبنان، وتسببت الحرب في سوريا، التي بدأت في عام 2011، في انخفاض معدل النمو بواقع 2 إلى 3 نقاط مئوية سنوياً حتى عام 2017 (ما يعادل نحو 31 مليار دولار). وكان التأثير الأكثر حدة على النمو وفق البنك الدولي خلال أول عامين من الصراع. إذ أدت التداعيات الأمنية والسياسية السلبية إلى إضعاف الاستهلاك والاستثمار والتجارة. وبين عامي 2011 و2017، انخفضت الاستثمارات الإجمالية بنحو 20 في المئة، في حين انخفضت الواردات والصادرات بنحو 35 في المئة و45 في المئة، على التوالي، جراء الصراع.

رويترز
لاجئون في مخيم "غير رسمي" في البقاع، 2021.

ويعتبر لبنان الأشد تضرراً من الصراع السوري مقارنة بالدول المجاورة (الأردن والعراق وتركيا). ويعود ذلك في رأي البنك الدولي إلى "مواطن الضعف القائمة في الاقتصاد الكلي، وهشاشة المؤسسات، والروابط الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية القائمة منذ أمد بعيد. كما ساهم الصراع السوري في تراكم الاختلالات الاقتصادية الكلية في الفترة السابقة للأزمة المالية في 2019".

تكلفة اللاجئين على الاقتصاد اللبناني

تقدر التكاليف الإجمالية السنوية المتكررة لاستضافة اللاجئين السوريين في لبنان بنحو 1,55 مليار دولار. ويشمل هذا الرقم تكلفة الاستجابة للحاجات المباشرة فقط، بحسب تقرير البنك الدولي. وتمثل هذه التكاليف تقديراً للمبلغ الإجمالي المطلوب لتلبية الاحتياجات من حيث الغذاء، والمأوى، والحد الأدنى من الخدمات العامة. ويختلف المبلغ الإجمالي عن التكاليف الفعلية الممول من الجهات الإنسانية ومن الحكومة (أي التكاليف التي تتحملها المالية العامة). ولم يؤخذ في الحسبان الاستثمار الرأسمالي، والتكاليف الاقتصادية الأوسع، وإيرادات الضرائب المباشرة وغير المباشرة، بسبب نقص البيانات.

منذ بدء الأزمة في عام 2019، وانهيار الليرة اللبنانية ونهب كل الودائع في المصارف، صارمعظم اللبنانيين من الفئات الأكثر حاجة مدفوعين إلى وظائف ومهن شتى

صحيح ان اللاجئين السوريين ساهموا في النشاط الاقتصادي على المستوى المحلي، بيد أن تأثيرهم على المستوى الاقتصادي الكلي (على سبيل المثل، الناتج المحلي الإجمالي وتدفقات رأس المال) يبدو أقل وضوحا. وعموما، يبدو أن الأثر السلبي للصراع على الاستهلاك والاستثمار والتجارة يفوق الأثر الإيجابي للنازحين على المستوى المحلي، وفق البنك الدولي.

إقرأ ايضا: 700 مليار دولار خسائر سوريا... والإعمار مهمة مستحيلة

كذلك تأثرت خدمات البنى التحتية سلبا أكثر من غيرها، فلم تنجح الإصلاحات والاستثمارات في تخفيف الضغوط المتزايدة. تأثر جراء ذلك اللاجئون والمجتمعات المضيفة على حد سواء نظراً الى افتقار الخدمات العامة المقدمة من الجهات الحكومية المحلية إلى القدرات اللازمة للاستجابة على نحو ملائم للتدفق الكبير للنازحين، كما تفاقمت الأوضاع بسبب الأزمات التي اجتاحت لبنان على مدار السنوات الأربع الماضية.

.أ.ف.ب
لاجئات سوريات على شرفة مبنى في مدينة صيدا جنوب لبنان، 17 مارس 2020.

ولما كانت حالات اللجوء معرضة لأن تطول، فإن ثمة ما يدعو للتحول من حالات الطوارئ الإنسانية إلى إدارة الأخطار على المدى الطويل. ويتطلب هذا، وفق البنك الدولي، "قيادة حكومية قوية واستخدام أنظمة البلد لتقديم المساعدة. كما ينطوي على تقاسم فعال للمسؤوليات بين المجتمع الدولي ولبنان باستخدام أدوات ميسرة ويمكن التنبؤ بها". يمكن التخفيف من تأثير استضافة اللاجئين السوريين على المجتمعات المحلية اللبنانية، من خلال وضع برامج حماية اجتماعية فاعلة للمواطنين المتضررين. ويكتسب هذا الأمر أهمية خاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية، كما أن التعاون مع الشركاء الخارجيين ضروري أيضاً لضمان تقديم المساعدة الكافية للنازحين والمجتمعات المضيفة معا.

المنافسة على الوظائف

منذ بدء الأزمة في عام 2019، وانهيار الليرة اللبنانية ونهب كل ودائع الناس ومدخراتهم في المصارف، صار معظم اللبنانيين مدفوعين إلى وظائف ومهن شتى، وقد ساهم ذلك على الأرجح في زيادة حدة تدهور العلاقات بين اللبنانيين والسوريين. فقد تصاعدت المنافسة على الوظائف بين السكان المضيفين واللاجئين وبات اللبنانيون من الفئات الأكثر حاجة، مع تدهور القيمة الشرائية لليرة، يبحثون عن وظائف منخفضة المهارات والدخل. 

وفي عام 2023، زادت نسبة توظيف اللبنانيين في القطاع الزراعي بمقدار الضعفين، مقارنة بعام 2018، وزادت إلى ثلاثة أضعافها في "الخدمات الأخرى"، وإن كانت هذه النسبة لا تزال محدودة.

على لبنان إعادة تصويب سياستِه تجاه اللاجئين بهدف تقليص عددهم وعودتهم إلى سوريا، عوضاً عن نهج يهدف الى زيادة المساعدات المالية، التي لا تصل سوى قطرات منها إلى المجتمعات اللبنانية المضيفة

سمير ضاهر، مستشار رئيس الحكومة اللبنانية للشؤون الاقتصادية

وقد أدى التمويل الإضافي المقدم من المانحين إلى توسيع نطاق خدمات الرعاية الصحية والتعليم. وكذلك إلى زيادة الاعتماد والتعويل على التمويل المقدم من المانحين في القطاعين. ولم يلاحظ تدهور في تلك الخدمات إلا في قطاع الرعاية الصحية، 

.أ.ب
أطفال سوريون يلعبون كرة القدم بجوار خيامهم في مخيم للاجئين في بلدة بر الياس في وادي البقاع، لبنان، 7 يوليو 2022.

إجراءات حكومية منتظرة؟

ماذا عن  الإجراءات الأساسية لمقاربة ملف السوريين المقيمين في لبنان كما تراه الحكومة اللبنانية؟

وفق ضاهر يمكن ذلك عبر تدابير تتخذها السلطات اللبنانية داخل الحدود الوطنية بمساعدة المجتمع الدولي ودعمه لخططها. وتستلزم هذه التدابير الآتي:

 - تكليف المديرية العامة للأمن العام إجراء مسح وتسجيل جميع السوريين المقيمين على الأراضي اللبنانية.

  - نزع صفة "اللجوء" الذي أضفته المفوضية على اللاجئين المدرجين على قوائمها الذين يعبرون الحدود ذهاباً وإياباً إلى سوريا.

للمزيد إقرأ: ثلاثة "خيارات مؤلمة" أمام اللاجئين السوريين في لبنان

  - ترحيل السوريين الصادرة في حقّهم أحكام قضائية لارتكابهم جرائم.

 - إخضاع جميع المواطنين السوريّين غير المُدرَجين على قوائم المفوّضية، لقوانين الإقامة والعمل والممارسات التجارية في لبنان.

-  على لبنان إعادة تصويب سياسته تجاه وجود اللاجئين إلى نهجٍ هدَفُه تقليص عددهم وعودتهم إلى سوريا، عوضاً عن نهجٍ يبغي زيادة المساعدات المالية، والتي لا تصل سوى قطرات منها إلى المجتمعات اللبنانية المضيفة.

-  تجميع المخيمات المنتشرة عشوائيا ودمجها ضمن بضعة مراكز منظّمة تُستحدث على مشاعات الدولة.

font change

مقالات ذات صلة