الانتخابات الفرنسية... اليمين المتطرف على أعتاب السلطة وتلاشي "الماكرونية"

فرنسا تشهد تحولا سياسيا تاريخيا

اي.بي.ايه
اي.بي.ايه
مارين لوبان وزعيم حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف جوردان بارديلا في ملصق انتخابي

الانتخابات الفرنسية... اليمين المتطرف على أعتاب السلطة وتلاشي "الماكرونية"

أكدت نتائج الدور الأول من الانتخابات التشريعية المبكرة في فرنسا ديناميكية صعود اليمين المتطرف، وتغييره المشهد السياسي في بلد له مكانته السياسية والاستراتيجية داخل البناء الأوروبي، ناهيك عن الانعكاس السلبي المحتمل على تماسك فرنسا الداخلي وموقعها العالمي.

ومن أبرز دروس الجولة الأولى في الثلاثين من يونيو/حزيران الماضي ترسُّخ اليمين المتطرف وإبراز انتشاره المناطقي والطبقي، وعدم تقدم القوى اليسارية والخضر المنضوية في "الجبهة الشعبية الجديدة". وهو الحدث اللافت غير المسبوق في المعسكر الرئاسي، وترنح تيار ماكرون قبل انتهاء ولايته.

وستتوقف نتائج الدور الثاني، الأحد القادم، على احترام المرشحين لتعليمات أحزابهم، ونسبة التغيير في توجهات الناخبين، وكذلك تركيب التحالفات واختبار إمكان إحياء "الجبهة الجمهورية" (التحالف الواسع الذي يتيح تنازلات بين مرشحي اليسار واليمين والوسط) من أجل كبح صعود اليمين المتطرف ومنعه من إحراز أكثرية مطلقة.

وبانتظار خلاصة استحقاق السابع من يوليو/تموز، تعيش فرنسا ساعات عصيبة يختلط فيها القلق والدهشة والخوف من المجهول. ويتفق كثير من المراقبين على أن قرار الرئيس إيمانويل ماكرون بحل الجمعية الوطنية كان كارثيا، وأن ماكرون كان "مهندس الفوضى التدميرية" بشكل مقصود، إذ تم الكشف عن تخطيط فريق عمله لاحتمال فوز "التجمع الوطني" وتنظيم "تعايش" معه يكون أشبه بالمبارزة، ويمكن أن يكون الاحتمال الثاني انتخاب جمعية وطنية من دون أكثرية واضحة، مع ما يعنيه من تغليب منطق تعطيل الحكم.

التخويف من الآخر

من خلال قراره بحل الجمعية الوطنية، تسبب الرئيس إيمانويل ماكرون في انهيار أغلبيته، وفي التمهيد لسابقة في تاريخ الجمهورية الخامسة عبر وضع اليمين المتطرف على أبواب السلطة، إذ تصدر "اتحاد قوى اليمين" الذي يقوده "حزب التجمع الوطني" بنسبة 34 في المئة ("حزب التجمع الوطني" لوحده كانت حصته 29.3 في المئة) أي إن تصويته ارتفع بنسبة أربعة أضعاف عما كان عليه في 2017، مع ما يعنيه ذلك من عدم تعبيره عن "تصويب عقابي" بل عن التمتع بقدرة تمثيلية بديلة للقوى التقليدية، خاصة مع المشاركة الكثيفة للناخبات والناخبين (نحو 67 في المئة).

اعتمد اليمين المتطرف على الأولوية الوطنية والشعبوية وأسلوب مواجهة المؤسسات القائمة من أجل الترويج لشعاراته، وكانت هناك عوامل مؤثرة أخرى مثل التخويف من الآخر وربط مشكلات الأمن بتزايد الهجرة واللجوء والتبدل الديموغرافي و"رهاب الإسلام"، وتم أيضا استغلال الفشل الاقتصادي والتضخم لجذب الكثيرين من الطبقات الشعبية والوسطى.

وحلت "الجبهة الشعبية الجديدة" في المرتبة الثانية بنسبة 28 في المئة، وكانت حركة "فرنسا الأبية" (مؤسسها ورئيسها جان لوك ميلانشون) الخاصرة الرخوة في التحالف، إذ جرى اتهامها من قواعد يسارية تقليدية باستيراد مأساة غزة من أجل تسجيل مكاسب انتخابية.

اعتمد اليمين المتطرف على الأولوية الوطنية والشعبوية وأسلوب مواجهة المؤسسات القائمة من أجل الترويج لشعاراته

أما التيار الوسطي الماكروني فقد حل ثالثا وأحرز 20 في المئة، أما الديغوليون من الحزب الجمهوري فقد اكتفوا بنسبة أقل من 7 في المئة وتأكد تهميشهم. ويبقى الأهم ترجمة ذلك في عدد المقاعد النيابية حيث تستلزم الأكثرية المطلقة الحصول على 289 مقعدا من أصل 577. وهناك ترجيح بعدم تمكن أي كتلة من الكتل الثلاث الرئيسة من تحقيق ذلك.

إضافة إلى الهزيمة الانتخابية القاسية التي لحقت بالمعسكر الرئاسي، تلاشت الماكرونية في جوهرها إثر انتخابات الأحد الماضي، ولم تكن مارين لوبان على خطأ عندما مارست فعل الشماتة بحق غريمها في معركتين رئاسيتين لأنه نجح في "محو تياره"، خاصة مع سقوط رهانه على رفض الفرنسيين "التصويت لصالح التطرف"، بينما كانت النتيجة أن يحصل "حزب التجمع الوطني" وحلفاؤه على أكثر من 10.5 مليون صوت، أي ما يقارب أربعة أضعاف ما حصل عليه في الانتخابات التشريعية عام 2017 (3 ملايين صوت).

وبرز فشل الماكرونية مع سقوط الرهان منذ 2017 على تجاوز الانقسام بين اليمين واليسار والاستفادة من ضعف الأحزاب القديمة "المسؤولة عن الانسداد السياسي في البلاد"، فإذا بانتخابات 2024 تكرس عودة الانشطار والشرخ في البلاد بين معسكرين أساسيين، وإذا برئيس الجمهورية يسعى أيضا وراء التوافقات والانسحابات الحزبية لإنقاذ عدد من مرشحي تكتله.

وكان الأدهى إثارة الرئيس ماكرون شبح "الاستسلام أمام التطرف"، و"الفوضى"، و"الحرب الأهلية". من أجل محاولة تعويم تياره الوسطي. وفي هذا الصدد جرى انتقاده مليا لأنه لم يحترم حيادية موقعه وذهب بعيدا في التهويل على الرأي العام. وإذا تأكدت المعلومات الصحافية عن مقاربته لأسوأ السيناريوهات قبل الجولة الأولى، يتضح أنه في مواجهة مع الصعود المنتظم لـ"حزب التجمع الوطني"، وانهيار حزبه، حيث انتهى الأمر بإيمانويل ماكرون إلى إقناع نفسه بأنه يستطيع بمفرده، في مواجهة حكومة يمينية متطرفة، أن يفتح أعين ناخبي "التجمع الوطني" ويكشف النقاب عن عدم قدرة قادته على الحكم.

إضافة إلى الهزيمة الانتخابية القاسية التي لحقت بالمعسكر الرئاسي، تلاشت الماكرونية في جوهرها

وهذه الرغبة في "تعايش قتالي" مع غوردن بارديلا النجم الصاعد لليمين المتطرف، تهدف كذلك إلى أن تثبت للفرنسيين أن هذا التيار غير مؤهل للحكم مما يقطع عليه الطريق في الانتخابات الرئاسية في 2027. 

بيد أن فشل الرهان الأولي لماكرون على نتائج الجولة الأولى، يمكن أن تعقبه انتكاسات أخرى، إذ يبدو جليا الآن أن "التجمع الوطني" بمفرده أو مع حلفائه اليمينيين، يستطيع أن يفوز دائما بالأغلبية المطلقة، أو على الأقل أن يصبح المجموعة الأقوى في الجمعية الوطنية.

لن يسعنا- إلا في منتصف الأسبوع الجاري، بمجرد معرفة التشكيلات الدقيقة للمرشحين في الدوائر الانتخابية البالغ عددها 577- معرفة ما إذا كان "حزب التجمع الوطني" أو اليسار قادرين على فرض التعايش الرابع للجمهورية الخامسة على إيمانويل ماكرون، أو تجنب الارتباك الكبير الذي قد ينجم عن وجود جمعية وطنية غير قابلة للحكم، على عكس الهدف الرئاسي من وراء حل البرلمان. وسيكون الأصعب والأكثر حرجا وجود القيد الدستوري الذي يمنع رئيس الجمهورية من حل البرلمان قبل مرور سنة على القرار الأخير. 

اي.بي.ايه
نتائج الدور الأول من الانتخابات التشريعية المبكرة في فرنسا

ومع اقتراب "التجمع الوطني" من عتبة السلطة في فرنسا. يسود القلق في أوروبا والعالم. وهناك شبه إجماع على أن هذه الانتخابات تمثل "نقطة تحول تاريخية" بالنسبة للجمهورية الفرنسية. خاصة مع صعود التشدد ونزعة الأولوية الوطنية في بلد كان حسب توصيف "نيوبورك تايمز" مهد فكرة معينة عن حقوق الإنسان والتنوير. وتعرب أوساط أوروبية عن القلق لأن "التجمع الوطني" لديه "أصول تاريخية مخزية". 

أيا تكن تركيبة الجمعية الوطنية الفرنسية الجديدة ، فإن فرنسا، بعد السابع من يوليو/تموز، معرضة لمخاطر أزمة سياسية غير مسبوقة ويمكن أن تلحق أضرارا جسيمة بسماتها وسمعتها وسلطتها داخليا وخارجيا، وسيتضح إذا ما كان قرار ماكرون انتحاريا أم إنه مجرد قرار غير مدروس يكرس سلسلة النكسات والإخفاقات. 

font change

مقالات ذات صلة