إسماعيل كاداريه التائه في عوالم الإمبراطورياتhttps://www.majalla.com/node/320166/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A5%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D9%84-%D9%83%D8%A7%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%A6%D9%87-%D9%81%D9%8A-%D8%B9%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%AA
لم يعرف الكاتب الألباني إسماعيل كاداريه، الذي فارق الحياة في الأول من يوليو/تموز 2024، عن عمر يناهز 88 عاما، عالما خارج عوالم الإمبراطوريات، التي ترغب دائما في التوسع والاحتلال وفرض الديكتاتوريات والسطو على الأحلام والخصوصيات والتواريخ. فتعدّ كتاباته- التي بدأت في الظهور خمسينات القرن الماضي- صراعا مع بنى الإمبراطورية التي انفجرت بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرت في تطوير أساليبها ومناهجها حتى الوقت الحاضر.
من هنا جاءت أعمال كاداريه، التي تجاوزت 80 كتابا، وترجمت إلى أكثر من 45 لغة، رصدا لأحوال التشظي التي عصفت بالعالم، والتحولات المتتالية التي أصابته، انطلاقا من خصوصية ألبانية تروي سيرة صراع هامش يناضل في سبيل انتزاع الاعتراف.
الديكتاتورية والجوائز
كان الكاتب الراحل ابنا للزمن الديكتاتوري، وكذلك أحد أكبر ضحاياه، مما جعله أسير التباسات وتناقضات حادة. فقد كان كاتبا شهيرا تحظى أعماله بترجمات عديدة إلى كثير من لغات العالم، ولكن السبب في ذلك هو تعايشه مع نظام حكم أنور خوجا الديكتاتوري، الذي سيطر على ألبانيا طوال 40 عاما، بين عامي 1944 و1985.
نجح كاداريه في جعل نظام خاضع للتعريف الإمبراطوري الديكتاتوري، يسوّق أدبا يدينه في العمق
المفارقة الكبرى في هذا تكمن في أن كاداريه نجح في جعل نظام خاضع للتعريف الإمبراطوري الديكتاتوري، يسوّق أدبا يدينه في العمق، ويعادي بعنف كل ما يمثله. فهل كانت تلك المعايشة نوعا من الحيلة، أم إنها تنطوي على نزعة تماهٍ مع الشخصيات السلطوية؟ هذه حالة لم تقتصر على كاداريه بل تشمل الكثير من الأدباء الراسخين والمهمين.
كان كاداريه ضيفا شبه دائم على قوائم المرشحين لجائزة نوبل، لكنه بقي مطرودا منها. سبق له أن نال جائزة "بوكر" البريطانية في عام 2005، وحاز جائزة "أورشليم" عام 2015، التي تمنحها الحكومة الإسرائيلية كل سنتين لشخصية أدبية أو فكرية، تحت عنوان "جائزة أورشليم لحرية الفرد في المجتمع". وقد صرح إثر نيله تلك الجائزة قائلا: "إن إسرائيل وألبانيا تناضلان من أجل البقاء في محيط كريه"، وهو ما أثار ردود فعل غاضبة واسعة.
وكان قد فر إلى فرنسا في عام 1990، حين توقع قرب سقوط نظام أنور خوجا، معلنا انقلابه على الشيوعية، وشرع بمتابعة نشاطه الأدبي، محملا إياه بخطابات تستكمل ما كان قد أنجزه في الداخل الألباني.
في هذه المرحلة، ظهرت استفادة الكاتب من مهادنة النظام الشيوعي، حيث وصل إلى فرنسا مسبوقا بالهالة الأدبية المتحققة بفضل الترجمات. واعتقد أنه يستطيع أن يكون نموذجا للمنشق والباحث عن الحرية، لكن موقفه الهوياتي بقي حاسما فيما يتعلق بالتكريس النهائي، أي الفوز بجائزة نوبل.
موقع بلاده الملتبس في الجنوب الأوروبي، وتاريخه المهادن للنظام الشيوعي، منعاه من نيل الاعتراف الأكبر في عالم الأدب، فبقي مقيما في الحالة التي كرس لها كل أدبه، وهي حالة الالتباس والتشتت. فكان الاعتراف به في كل مندرجاته تأكيدا على هذا الموقع الذي لم يستطع أن يغادره.
وفي هذا السياق الشخصي العارم لانتزاع الاعتراف الأدبي العالمي، يتجلى توق ألباني عام لانتزاع الاعتراف بالانتساب التام إلى أوروبا، فقد بقي نقاش التعريف قائما حول مدى أوروبية هذا البلد، وبقي يُعرَّف على أنه بلد تشوب أوروبيته رواسب عثمانية.
حرص كاداريه في كثير من حواراته بعد خروجه من ألبانيا على تأكيد صفاء الانتماء الأوروبي لألبانيا وقدرته على احتواء المكونات الألبانية بكل خلفياتها الثقافية الإسلامية والعثمانية والأرثوذكسية من دون جدوى. حروب التصنيفات والتعريفات والطموحات الإمبراطورية لم تخف أو تنطفئ بل تبدلت وتطورت وتعقدت كثيرا وباتت معها التعريفات والاعترافات أكثر جدلية وصعوبة.
الوجود المائل
في مثل هذا العالم يحتل مفهوم المائل موقعا مركزيا في أعمال كاداريه، فهو يمثل بنية جغرافية ولكنه يصلح كذلك لتركيب تصور مفهومي عن عالم يعادي الثبات والرسوخ وفكرة البناء والتطور.
في رواية "مدينة الحجر" التي ترجمها عفيف دمشقية إلى العربية عام 1989، يتحدث كاداريه عن مدينة مائلة: "كانت مدينة مائلة، بل ربما أكثر المدن ميلا في العالم، تحدت جميع قوانين العمارة وتنظيم المدن وكان أعلى أحد البيوت يلامس أحيانا أسس بيت آخر، وكانت بالتأكيد المكان الوحيد في الدنيا الذي لو انحدر فيه المرء على جانب أحد الشوارع لأوشك أن يلقي نفسه على أحد السطوح".
في مثل هذه المدينة، يسكن الناس في انعدام التوازن الذي يستجر بدوره فقدان الاتزان، لا توجد مراكز ممكنة للمعاني والأفعال، فكلّ شيء متصل بنقيضه. الأجساد تتعثر وكذلك العواطف والأفكار. الحياة ليست سوى اصطدام مستمر بالحجر الذي يتعامل معه الكاتب كحالة ومفهوم، لا كمادة. إنه روح المكان التي تشد كل ما فيه إليها، فيتحجر ويتصلب ويصبح غير قابل للحركة. وبذلك، فإن كل ما هو مائل ومتحجر في أساسه يعود ويتفشى. تدخل إلى المدينة المائلة أعمال السحر وتفسَّر من خلالها الأحوال وتتحدّد المصائر، وتسود ممارسات تنطوي على قدر كبير من العنف الطقسي الذي يخاطب عوالم بدائية، غابرة بوصفها مرجعا وأصلا.
في معظم أعمال كاداريه، يحضر المائل كمنطق يتحكم في الأحوال أو يصف طبيعتها ومسارها
في معظم أعمال كاداريه، يحضر المائل كمنطق يتحكم في الأحوال أو يصف طبيعتها ومسارها. في رواية "قصر الأحلام" التي نقلتها حياة الحويك إلى العربية عام 1992، يعمل "مارك عالم" في مؤسسة تعنى بجمع أحلام البشر وتحليلها لتحديد مكامن الخطر على الإمبراطورية. تلك السلطة الضخمة على مكنونات البشر التي تخفيها الأحلام، لا تنجح في منح "مارك" الشعور بالأمان حتى بعد وصوله إلى رئاسة تلك المؤسسة، بل بات متيقنا من أنه سقط في جحيم لا فرار منه.
لطالما كان الولوج إلى السرائر حلم الأنظمة الشمولية، ولكنه يظهر في الرواية عنوان سلطة تبحث عن علامات زوالها وترصدها، فهي متأكدة من هشاشتها وتعبّر عنها بالمزيد من محاولات فرض السيطرة. الأرض التي تقيم عليها عالمها تستعيد بنية المدينة المائلة، فهي متحركة وغير ثابتة.
لا تغادر أعمال كاداريه تلك الدلالة. تتوسع التوظيفات والإحالات والغوص في التواريخ والفلكلور والأساطير، ولكن تبقى دائما الإشارة إلى حالة لا تعكس واقعها ولا تكمن حقيقتها في ما تظهره بل في ما تكتنزه من ذكريات وأسرار. أماكن كاداريه تسكن في الريح، وشخصياته تغرق في الطقوس والآمال المتبددة والهويات المستحيلة.
السوريالية الواقعية
لجأ بعض النقاد إلى توصيف أعمال كاداريه وفق التقسيم الأيديولوجي، فذهبوا إلى تصنيفه انطلاقا من تعارض كتاباته مع منطق الواقعية الاشتراكية وما تفترضه من بطل إيجابي يعبر عن القيم الاشتراكية العامة وما إلى ذلك. ومع أنه كتب روايات تستجيب لمتطلبات تلك المدرسة، فإنه كان متحايلا لأنه يعلم أن كل نظرية أدبية صادرة عن نزوع شمولي مطلق ينسفها التحايل مهما كان بسيطا، ويساهم في تفكيكها ويطلق مسار سخرية لا يمكن أن تحتمله بأي شكل من الأشكال. وبذلك، فإن بعض روايات كاداريه التي تظهر انتسابا إلى مدرسة مغلقة مثل الواقعية الاشتراكية إنما تمثل حربا خفية عليها وتهديما لمنطقها.
ومن ناحية أخرى، فإن رد عمله إلى السوريالية أو التاريخية والأسطورية لا يبدو منصفا فالسوريالية التي تظهر في أعمال كاداريه تبقى مشدودة إلى الواقع والتاريخ بقوة، وتفتح باب رمزية شفافة يمكن من خلالها اكتشاف ما يرمي إليه، كما أن توظيفه للأساطير يدخلها في علاقات مع الحديث كما في رواية "الوحش" التي تظهر حصان طروادة يجول في مدينة معاصرة.
وفي رواية "جنرال الجيش الميت"، التي تحولت عام 1983 إلى فيلم من إخراج لوسيانو توفولي وبطولة مارسيلو ماستروياني وأنوك إيمي وميشيل بيكولي، يتابع رحلة ضابط إيطالي إلى ألبانيا بعد عشرين عاما من انتهاء الحرب بهدف العثور على جثث الجنود الإيطاليين. لكن تلك الرحلة لا تكشف عن الجثث، بل عن سلاسل من الآثار والقصص والذكريات، وينتهي به الأمر بأن تحتله الجثث، فلا يستطيع أن يرى في أي شخص حي سوى ظل لجثة خفية، فيغادر المكان تحت هول القصص التي عرفها والتي أصابته بعار لا يحتمل.
السوريالية كما تتجلى هنا تلعب مع فكرة غير الممكن واللامتوقع والخيالي من خلال المهمة نفسها التي تبدو ممكنة، ولكنها فعليا مستحيلة، لأن نبش الجثث يتطلب نبش تاريخ الجرائم التي قام بها الغازي والمحتل، وتوثيقها في عملية تكاد تكون أشبه بالانتحار المقصود. فتتم إعادة المشهد إلى الواقع عبر الخلاصة. ما يمكن نبشه ليس جثث الجنود، ولكن تاريخ العار ووقائعه التي لا يمكن إنكارها. السوريالي يقود إلى الواقعي ولا ينسفه، وفي ذلك تتجلى خصوصية كاداريه المرة والساخرة.
تصر الكثير من الدراسات على تصنيفه ككاتب كلاسيكي يحافظ، مهما أخذته الألاعيب الأدبية، على بنية سردية تروي قصة متماسكة. لكن رواياته لا تستجيب لمتطلبات ذلك التصنيف، وتذهب بالقارئ إلى مجال مختلف، جاعلة الحكاية المباشرة المنتظمة والمسرودة خلفية لشيء آخر يضم عناصر سوريالية واقعية ساخرة ودرامية تتحرك بشكل متزامن ككتلة واحدة لا يمكن فصل أحد مكوناتها عن الآخر، وتصنع من ذلك التشابك نوعا يصعب تحديده.
الهم الألباني
أعمال كاداريه مسكونة بالهم الألباني، وهو يسعى إلى جر كل ما يمكن من توظيفات ورموز وإحالات تاريخية إلى هذه القضية، التي تعتبر قضية ذات بعد عالمي يتصل ببنية السلطة الإمبراطورية وهولها ومآزق الهوية وأزمة الاعتراف والدفاع عن الخصوصيات.
يستجلب في سبيل ذلك العالم إلى تلك البقعة التي تمثل شاهدا على ما يحدث فيه ويعيد تأويل كل ما يقع بين يديه من أساطير ويدمجها في بنية تأويلية تحاول أن ترصد أثر المشروع الأمبراطوري على ذلك البلد والانطلاق من ذلك التأويل للبحث في المشكلة الإمبراطورية ككل بوصفها أزمة تعصف بالوجود الإنساني وتهدده.
لا تخرج المسألة التي تعالجها أعماله عن مقاربة أثر الصراعات الإمبراطورية على الثقافات المحلية والخصوصيات
لذا كانت كتابة كاداريه حديثة على الدوام، إذ إنها على الرغم من استعاراتها لحشد من الأساليب المختلفة ودمجها، بقيت محافظة على نزوع حداثي، فالمسألة التي تعالجها أعماله لا تخرج عن مقاربة أثر الصراعات الإمبراطورية على الثقافات المحلية والخصوصيات، وهو ما عاد إليه في آخر كتبه "ديكتاتور ينادي" الصادر عام 2023 والذي وصل إلى قائمة جائزة "بوكر" الدولية لعام 2024، والذي يستعيد الموضوع الذي طبع كتاباته منذ أن شرع في النشر قبل أكثر من نصف قرن.
ومع أن كاداريه بدأ شاعرا، إلا أن الاهتمام العربي بترجمة شعره كان ضعيفا مقارنة برواياته، لكن الترجمات القليلة تعكس تماهيا لافتا بين أغراض شعره وبين الإطار العام الذي يسيطر على عمله الروائي.
يقول في قصيدة بعنوان "الشلالات" من ديوان "خطوتي على الرصيف" الصادر عام 1961 والذي ترجمه ألبرت إيلزي إلى الإنكليزية ونقله إلى العربية ياسر شعبان:
"تسقط الشلالات إلى أسفل
مثل جياد بيضاء مفعمة بالحيوية
وأعرافها مغطاة بالزبد وقوس قزح
لكن فجأة، على حافة الممر
تسقط على أرجلها الأمامية
تنكسر أرجلها البيضاء
وتموت عند سفح الصخور
والآن في عينيها الميتتين
تنعكس السماء المتجمدة".
ذلك العالم الذي تعكسه عيون الخيول الميتة ليس سوى عالم الإمبراطورية الذي يجمّد كل ما يمسه ويمنعه من التحرك والتفاعل.
يصفه في رواية "مدينة الحجر" التي تعتبر أحد أبرز مفاتيحه الروائية، قائلا: "وإذا كانت تحافظ بمشقة على الحياة البشرية في أعضائها وتحت درعها الحجري فإنها لم تكن أقل حرصا على إصابة هذه الحياة بالكثير من الآلام والخدوش والجراح، وكان ذلك طبيعيا لأنها مدينة من الحجر، ملامسة قاسية وباردة. ولم يكن من السهل أن يكون الإنسان صبيا في هذه المدينة".
الصبي الذي يرتدي كاداريه ملامحه بقي الأقدر على فهم أثر الديكتاتورية التي تحرص على صناعة إنسان البيولوجيا الصافية، حيث تقايض استمراره في العيش بحرمانه مما يجعله إنسانا.