انتخابات إيران... شبح المقاطعة وظل ترمب يخيمان على الجولة الثانية

ما مدى قدرة "المرشد" على حسم فوز أحد المرشحَين؟

رويترز
رويترز
رجل إيراني يمر أمام لوحة جدارية عليها العلم الإيراني في أحد شوارع طهران، 29 يونيو

انتخابات إيران... شبح المقاطعة وظل ترمب يخيمان على الجولة الثانية

لا يمكن التقليل من أهمية الانتخابات الرئاسية الإيرانية، ولكن لا يمكن أيضا المبالغة في أهميتها، ولاسيما بالنسبة إلى حجم تأثير الرئيس الفائز، والذي سيحكم لولاية من أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، في السياسات الداخلية والخارجية للنظام ما دام "المرشد" علي خامنئي هو من يرسم الخطوط العريضة لهذه السياسات التي يلتزم بها الرئيس وحكومته وإن كانت هويتهما السياسية، سواء كانا من الإصلاحيين أو الأصوليين، تؤثر إلى حدود معينة في شكل هذا الالتزام وأدائه وحدوده وخطابه وكذلك في التوازنات الداخلية بين أجنحة النظام.

مع العلم أن الربط الذي كان قد أقيم بين هذه الانتخابات المبكرة منذ الدعوة إليها بعد مصرع الرئيس السابق إبراهيم رئيسي بتحطم مروحيته فوق جبال أذربيجان، والصراع على خلافة "المرشد" البالغ من العمر 85 عاما، قد تراجع تدريجيا خلال الأسابيع الماضية بالنظر إلى عدم وجود شخص بين المرشحين مؤهل دينيا لخلافة خامنئي، كما أن حدود تأثير الرئيس المقبل على "معركة" الخلافة مبهمة وتكاد تكون معدومة بالنظر إلى واقع مراكز القوى داخل النظام.

هذا في مجمله يقلل من أهمية هذه الانتخابات، وفي المقابل فإن ما يزيد في أهميتها أنها تجرى قبل 4 أشهر من الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وهو ما يطرح سؤالا رئيسا عن استراتيجية النواة الحاكمة في طهران للتعامل مع الرئيس الأميركي المقبل، وخصوصا مع وجود احتمال متقدم لوصول الرئيس السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض والذي كان قد اعتمد خلال ولايته سياسة "الضغوط القصوى" على إيران وانسحب من الاتفاق النووي كما قتل الجنرال الإيراني الأشهر قاسم سليمان.

إذا كان حلول بزشكيان في المرتبة الأولى خلال الجولة الأولى قد شكل مفاجأة "نسبية"، فإن المفاجأة الأساسية والأهم كانت تدني نسبة التصويت إلى مستوى قياسي

بصورة إجمالية يمكن القول إن هناك مستويين للانتخابات الإيرانية. فالخارج ينظر إليها من زاوية تأثير نتائجها على السياسات الخارجية لإيران سواء ما يتصل منها بمستقبل الأزمة النووية مع الغرب أو انخراط طهران في الصراع الجيوسياسي في الشرق الأوسط وكذلك تعاونها العسكري مع روسيا. أما الداخل الإيراني فيركز في المقابل على الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بالبلاد، وقد وصل معدل التضخم إلى 50 في المئة، وهو ما انعكس وما يزال في خطاب المرشحين اللذين سيتنافسان في الجولة الثانية المقررة يوم الجمعة المقبل في الخامس من يوليو/تموز الجاري، الإصلاحي التقليدي النائب لخمس مرات منذ 2008 مسعود بزشكيان، والأصولي المتشدد عضو "مجلس تشخيص مصلحة النظام" وممثل "المرشد" في "المجلس الأعلى للأمن القومي"، سعيد جليلي.
وكان أي من المرشحين المتنافسين الأربعة الذين اصطفاهم "مجلس صيانة الدستور" الخاضع لإرداة "المرشد" قد فشل في الفوز، خلال الدورة الأولى للانتخابات التي جرت يوم الجمعة الماضي في 28 يونيو/حزيران الماضي، بنسبة 50 في المئة زائد واحد من أصوات أكثر من 25 مليون ناخب، وهي النسبة المطلوبة للفوز بالانتخابات من الجولة الأولى. وبالتالي انتقلت الانتخابات إلى جولة الإعادة التي ستُجرى يوم الجمعة في الخامس من يوليو، بين المرشحَين اللذين نالا أكثرية الأصوات، أي بزشكيان الذي نال 10 ملايين و415 ألفا و185 صوتا، ليحلّ في المركز الأول، وجليلي الذي حل في المركز الثاني بتسعة ملايين و473 ألفا و298 صوتا. بينما حل الخاسر الأكبر، رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف ثالثا بثلاثة ملايين و383 ألفا و340 صوتا، وحل في المرتبة الرابعة مصطفى بورمحمدي بـ206 آلاف و397 صوتا فقط.

رويترز
لافتة تظهر المرشح الرئاسي مسعود بزشكيان في مركز حملته الانتخابية في طهران، 1 يوليو

وإذا كان حلول بزشكيان في المرتبة الأولى خلال الجولة الأولى متخطيا المرشحين الأصوليين جليلي وقاليباف، قد شكل مفاجأة "نسبية" يوم الجمعة الماضي، فإن المفاجأة الأساسية والأهم كانت تدني نسبة التصويت إلى مستوى قياسي مسجلة 39.9 في المئة وهي أدنى نسبة اقتراع في إيران منذ "الثورة الإسلامية" قبل أكثر من ثلاثة عقود، أي إن نحو 60 في المئة من المسجلين للانتخابات والبالغ عددهم نحو 61 مليون ناخب قد امتنعوا عن التصويت، وذلك رغم الدعوة الملحة ولمرتين التي وجهها رأس النظام، أي "المرشد"، للإيرانيين للإقبال بكثافة على صناديق الإقتراع. إذ قال في خطاب يوم 25 يونيو الماضي إن "المشاركة الشعبية الواسعة في الانتخابات الرئاسية المقبلة ستعد "نصرا لإيران على أعدائها"، ثم قال بعد الإدلاء بصوته يوم الجمعة الماضي إن "المشاركة الكبيرة للشعب الإيراني في الانتخابات مطلوبة لإثبات صحة وسلامة الجمهورية الإسلامية". ومع ذلك سجلت هذه الانتخابات أدنى نسبة تصويت منذ عام 1979 كما ذكر سابقا.

غالب الظن أن النظام الإيراني سيتعامل مع "شيخوخته" كأمر واقع لا يمكن تجاوزه أو تعديله في ظل موازين القوى الحالية داخل النظام وفي الشارع

كما أن هذا يطرح سؤالا رئيسا ليس عن أسباب التآكل التدريجي لنسبة مشاركة الإيرانيين في الانتخابات وحسب، بل أيضا عن كيفية تعاطي النظام مع هذه المقاطعة لناحية محاصرة تأثيراتها على "شرعيته" وصورته عن نفسه وصورة الآخرين عنه. لا شك أنه لا يمكن للنظام الإيراني التعامل مع امتناع النسبة الأكبر من الإيرانيين عن المشاركة في العملية الانتخابية كأن شيئا لم يكن وكأن المسألة عابرة وبلا أهمية تذكر على مستقبل النظام داخليا وخارجيا. لكن في المقابل فإنه يفترض عدم المبالغة في مقدار تأثير هذا الإحجام الشعبي على "نفسية" النظام ومعنوياته، وكأن رفع نسبة المشاركة في الانتخابات سيصبح أحد أولوياته العاجلة. 
الأمر ليس على هذا النحو طالما أن النظام لا يزال يتعاطى مع "الأزمة الداخلية" على أنها قابلة للاحتواء ما دامت دفاعاته قوية وفي ظل غياب أي دينامية داخلية جدية ضده. لكن لا شك أن النظام يدرك أن هذه المقاطعة الشعبية الكبرى والمتفاقمة هي دليل على أن "الأزمة الداخلية" ليست ثابتة وجامدة بل هي أيضا تكبر بمقدار تدني نسبة إقبال الإيرانيين على صناديق الاقتراع، بما يعكس تعمّق الفجوة بين نواة النظام والجمهور الإيراني، وهو ما كانت قد أشارت إليه الاحتجاجات التي انطلقت بعد مقتل الشابة مهسا أميني في سبتمبر/أيلول 2022 على يد "شرطة الأخلاق"، تلك الاحتجاجات التي استطاع النظام احتواءها وقمعها بأدواته الناعمة والخشنة على السواء. مع العلم أن 60 في المئة من الشعب الإيراني هم دون الـ30 من العمر، وهذا يؤشر إلى وجود أرضية صلبة لصراع الأجيال في إيران لا يمكن للنظام التعامل معها بخفة، خصوصا أن محاولته لفتح اللعبة الداخلية عبر إدخال عنصر منافسة على الانتخابات الرئاسية من خلال "إتاحة" ترشح وجه إصلاحي هو بزشكيان- وهو ما لم يحصل في الانتخابات الماضية التي حصلت بين محافظين- قد باءت بالفشل.

أ ف ب
المرشح الرئاسي سعيد جليلي (الثاني من اليمين) يحضر فعالية انتخابية في صالة الألعاب الرياضية التقليدية "زورخانة" في طهران، 30 يونيو

وفي المحصلة فإن خيارات النظام في هذه الانتخابات، أو هندسته لها كما يشاع لم تنجح بل أظهرت أن أدوات النواة الحاكمة لترميم الفجوة مع الشارع مستنفدة وأن أفق تجديد النظام من داخله مسدود. وهذا ما بدأ يدفع كثيرا من المحللين للقول إن الزمن تجاوز ثنائية الإصلاحيين/الأصوليين داخل النظام مثلما تجاوز في بداية "الثورة" ثناية اليسار/اليمين. 
لكن رغم ذلك فإن غالب الظن أن النظام سيتعامل مع "شيخوخته" كأمر واقع لا يمكن تجاوزه أو تعديله في ظل موازين القوى الحالية داخل النظام وفي الشارع، وبالتالي فهو سيعمل على إدارة "أزمته" مستخدما أدواته الناعمة وحتى الخشنة إذا تطلب الأمر، مع الاكتفاء بالشرعية الدستورية والسياسية التي تتيحها له الانتخابات في كل مرة ولو على حساب الشرعية الشعبية القوية. لكن كما ذكر سابقا فهو لا يستطيع أن يتجاهل ضمور الشرعية الشعبية طويلا، ولذلك ثمة سؤال مطروح عما إذا كانت النواة الحاكمة في طهران ستفسح في المجال أمام تيارات فكرية جديدة تحاكي وتمثّل طموحات الشباب الإيراني وتوجهاته لكي تدخل المشهد السياسي، أم لا؟ وهو سؤال يستدعي سؤالا آخر عن مدى اتكاء النظام في طهران على "إنجازاته" الخارجية لتدعيم أو تعويض شرعيته الشعبية المتناقصة؟

ثمة تساؤلات عن خيارات "المرشد" في الجولة الثانية للانتخابات انطلاقا من استراتيجيته للتعامل مع المرحلة المقبلة، وبالأخص مع نتائج الانتخابات الأميركية

كذلك، وفي البعد الخارجي للانتخابات إذا جاز التعبير، فثمة تساؤلات عن خيارات "المرشد" في الجولة الثانية للانتخابات انطلاقا من استراتيجيته للتعامل مع المرحلة المقبلة، وبالأخص مع نتائج الانتخابات الأميركية واحتمال إعادة انتخاب دونالد ترمب. 
بعض المحللين يعتقد أن جواب خامنئي على احتمال عودة الرئيس الجمهوري السابق وإمكان اعتماده سياسة متشددة تجاه طهران كما فعل في ولايته السابقة، قد يكون بالدفع نحو فوز  جليلي الذي ينتمي إلى المحافظين الجدد والذي سيكون قادرا على الصمود بوجه ضغوط ترمب في حال أراد الضغط، وفي الوقت نفسه متشددا بالنسبة لشروط إيران في أي اتفاق مع أميركا في حال أراد الأخير التوصل إلى صفقة. 

لكن قراءة من زاوية أخرى للمعطيات نفسها، ترى أن فوز بزشكيان- الذي أكد أنه ملتزم بتطبيق السياسات العامة للدولة التي يحددها "المرشد"- قد يكون أكثر فائدة لخامنئي، ولاسيما لناحية لجم سياسة "التوجه شرقا" التي اعتمدتها حكومة إبراهيم رئيسي خصوصا تجاه روسيا. وبالتالي سيكون بإمكان رئيس اصلاحي إرضاء ترمب من خلال الابتعاد قليلا عن بكين وموسكو، وبذلك يكون بيد إيران في أي مفاوضات مع أميركا عرض لا يمكن لرئيس الولايات المتحدة رفضه.

ويبقى السؤال الأساسي فيما يخص هذين السيناريوهين هو مدى قدرة خامنئي على حسم فوز أحد المرشحَين من دون التسبب بانتكاسة قاتلة للأصوليين "حراس الثورة" أو إحياء "حركة خضراء" جديدة بينما جمر احتجاجات مهسا أميني لا يزال تحت الرماد.

وفي المحصلة فإن متابعة الملف الإيراني ستكون مشوقة أكثر في المرحلة المقبلة.

font change

مقالات ذات صلة