أزمة الكهرباء في مصر مؤشر يعكس عمق الوجع الاقتصادي

من مصدرة للغاز الى مستوردة له... استياء شعبي مع قيظ الصيف وتوقف مصانع

Shutterstock
Shutterstock
مصباح على ضفاف النيل أثناء الغروب

أزمة الكهرباء في مصر مؤشر يعكس عمق الوجع الاقتصادي

أجبرت الانقطاعات المتكررة للتيار الكهربائي في مصر الحكومة على انتهاج سياسة ترشيد الاستهلاك وتخفيف الأحمال يوميا لساعات وقت ذروة الاستهلاك مع درجات الحرارة المرتفعة في فصل الصيف، وسيطرت حال من الاستياء في الشارع المصري، أدت إلى مواقف تتأرجح بين كون الدولة منتجة للكهرباء من جهة، في حين تعاني نقصا في التغذية بالتيار الكهربائي من جهة أخرى. وقد تدفعها هذه الفجوة الى استمرار قطع الكهرباء لساعات طويلة يومياً لتخفيف الأحمال، أو توفيراً للغاز المستخدم في تشغيل محطات توليد الكهرباء بهدف توفير ثمنه أو تصديره إذا اضطرت لذلك، لتعويض قصور موارد النقد الأجنبي.

وعلى الرغم من جهوزية البنى التحتية وإقامة العديد من المحطات للتعامل مع ارتفاع ذروة الاستهلاك، وإعلان الاكتفاء الذاتي من الطاقة وتصديرها إلى العديد من الدول، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، كون هذه المحطات تعتمد على الغاز في التشغيل، ويذهب 60 في المئة من إنتاج الغاز الطبيعي إلى توليد الكهرباء.

إلا أن نضوب الإنتاج من "حقل ظُهر" في محافظة بور سعيد لتسرب المياه إليه، وتوقف واردات أحد حقول الغاز من إسرائيل إلى مصر نتيجة الحرب في غزة، فرضا اللجوء إلى الوقود التقليدي بدرجة كبيرة، في ظل ارتفاع أسعاره عالمياً.

كانت الدولة أعلنت مطلع 2022 نيتها تصدير الكهرباء، لوجود فائض في الإنتاج، وسعيها لتصبح مركزاً إقليمياً للتصدير إلى الخارج، مما يثير العديد من الأسئلة في الشارع المصري

وطفت الانتقادات للحكومة من الغرف المغلقة إلى ساحات الفضاء الإلكتروني عبر منصات التواصل للتعبير عن الغضب، بعد سنة كاملة من تخفيف الأحمال ووضع جداول يومية بساعات الانقطاع، بدءا بساعة ثم زادت إلى ساعتين مطلع شهر أبريل/نيسان الماضي، إلى أن وصلت إلى ساعات عدة موزعة خلال اليوم، في وقت تقاسي بعض المحافظات درجات حرارة ملتهبة تجاوزت 50 درجة مئوية، وفي ظل صعوبة الأوضاع الاقتصادية وارتفاع تكلفة المعيشة على إثر الأزمات الحدودية والتوترات الإقليمية والأحداث الجيوسياسية التي طال أمدها. كذلك، توقفت بعض المصانع عن العمل بسبب نقص الغاز.

ألكس ويليامز

إقرأ أيضا: غاز شرق المتوسط على وقع حرب غزة

وكانت الدولة أعلنت مطلع 2022 نيتها تصدير الكهرباء لوجود فائض للإنتاج منها وسعيها لأن تكون مركزاً إقليمياً للتصدير إلى الخارج، مما أثار العديد من الأسئلة في الشارع المصري حول الفائض الذي أعلنته الدولة في كثير من المناسبات. وسيطرت حال من الامتعاض والغضب لتجاهل الحكومة الهدف الأسمى والأساسي لعملها حيال المواطنين، وهو الحفاظ على احتياجاتهم والتخفيف من معاناة شرائح المجتمع المصري كافة.

مصر من تصدير الغاز إلى استيراده

ورجح البعض أن تكون أسباب الأزمة ارتفاع الطلب على الكهرباء خلال فصول معينة أو نشاطات اقتصادية خاصة، أو نتيجة تغير المناخ وزيادة عدد السكان وزيادة كميات الكهرباء المسروقة، مما يشكل ضغطاً على انتظام واستدامة ما تتيحه إمكانات محطات التوليد الحالية، إضافة الى السبب الرئيسي وهو نقص الغاز والمحروقات، وهذا ما تعاني منه مصر الآن. إلا أن هناك من يرى أن أحد الأسباب يكمن في قلة الاستثمار في تحديث البنية التحتية وصيانتها، كون شبكة الكهرباء غير قادرة على تلبية الطلب المتزايد. وسارعت وزارة الكهرباء والطاقة المصرية إلى تبرير الأزمة في تصريحات سابقة عن خطتها لتخفيف الأحمال ولتوفير ما يصل إلى أكثر من 35 مليون دولار شهرياً. وتبنت الحكومة المصرية منذ قرابة السنة سياسة ترشيد الاستهلاك، والعودة إلى استخدام المازوت في محطات الكهرباء مطلع عام 2023.

كانت الحكومة المصرية تتطلع إلى تسريع الإنتاج من حقول الغاز المكتشفة في الآونة الأخيرة، خصوصا من حقل ظُهر البحري الذي اكتُشِف عام 2015 وكان يعد أكبر حقل غاز في البحر المتوسط وأحد أكبر اكتشافات الغاز العالمية في السنوات الأخيرة. وكانت مصر قد أبرمت عام 2018 اتفاقاً مع إسرائيل لاستيراد الغاز الطبيعي لمدة 10 سنوات، بقيمة إجمالية تبلغ 15 مليار دولار، واعتبر وقتها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن مصر حققت هدفاً عقب الاتفاق وأنه نقلة جديدة في مجال الطاقة في مصر، بعد دخول حقل ظُهر مرحلة الإنتاج، وتغيرت وجهة مصر إلى دولة مصدرة للغاز، مع تطلعها إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي بحلول 2019.

بعدما كانت مصر مصدرة للغاز باتت مستوردة له، واضطرت مطلع 2024 الى زيادة الكميات التي تستوردها من إسرائيل بموجب الاتفاق إلى 1,15 مليار قدم مكعبة يومياً، وهو المعدل الذي يفوق ما كانت عليه قبل حرب غزة

وصدّرت مصر عام 2022 كميات كبيرة من الغاز الطبيعي إلى أوروبا، لتكون من أهم الجهات التي خففت حدة الضغوط التي مارستها روسيا من خلال منع تصدير الغاز الى أوروبا بعد حربها على أوكرانيا مطلع العام نفسه.

لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه. فبعدما كانت مصر مصدرة للغاز باتت مستوردة له مع نضوب حقل ظُهر لتسرب المياه إليه. واضطرت البلاد مطلع عام 2024 الى زيادة كميات الغاز التي تستوردها من إسرائيل بموجب الاتفاق إلى 1,15 مليار قدم مكعبة يومياً، وهو المعدل الذي يفوق ما كانت عليه الأوضاع قبل حرب إسرائيل على قطاع غزة.

رفع منتظر لتكلفة فاتورة الكهرباء

وعلق الرئيس السيسي على الأزمة أخيراً في أحد المؤتمرات قائلاً إن في الإمكان التوقف عن تخفيف الأحمال الذي يزعج المواطنين "شريطة زيادة فاتورة الكهرباء ثلاثة أضعاف، وهو ما ينتظر في الفترة المقبلة". وعزا رئيس الحكومة الدكتور مصطفى مدبولي أزمة الكهرباء، بالإضافة إلى ما ذكر سابقا، إلى نقص الغاز الطبيعي الناجم عن تقادم الحقول وتراجع الاكتشافات التعويضية الجديدة.

إقرأ أيضا: تداعيات الحرب على أسعار الغاز: مصر المتضرر الأكبر

يخشى الخبراء في الأوساط السياسية والاقتصادية الذين استطلعت "المجلة" آراءهم، من تأثير أزمة الطاقة في مصر في الفترة المقبلة على مستقبل الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتأثير انقطاع الكهرباء في السياحة والصناعة والتجارة ومعنويات المواطنين، مما يضطر الحكومة للجوء إلى استيراد الغاز من الخارج لتوفير الطاقة، وهو ما سيؤثر بدوره في احتياطات النقد الأجنبي التي شهدت تحسناً نهاية الشهر الفائت، لتصل إلى ما يزيد على 46 مليار دولار.

من أسباب الأزمة زيادة أعداد اللاجئين الذين يضغطون على موارد الدولة، وكانت مصر حققت نوعاً من الاكتفاء الذاتي قبيل الفترة التي سبقت الأزمات الحدودية سواء في السودان أو في غزة

الدكتورة حنان رمسيس، خبيرة في الاقتصاد والأوراق المالية

وقالت الخبيرة في الاقتصاد والأوراق المالية الدكتورة حنان رمسيس في مقابلة مع "المجلة": "أعلنت مصر الاكتفاء الذاتي من الكهرباء ونيتها التعاون لمد شبكات الكهرباء مع العديد من الدول الأخرى قبيل فترة أزمة إنشاء سد النهضة، لكن عقب التصعيد في غزة اختلفت الرؤى جملة وتفصيلاً". وألمحت إلى توقف العديد من مصانع الأسمدة لنقص إمدادات الغاز في الوقت الراهن، مما أثر في اقتصاد البلاد بطريقة أو بأخرى لأن لهذه المصانع مساهمة في إنتاج الأسمدة التي كانت تصدرها مصر إلى الخارج وكانت تتقاضى في مقابلها أكثر من ثمانية مليار دولار سنوياً. وعقب تفاقم الأزمة، انخفضت الكميات التي كانت مصر تنوي تصديرها، مما يهدد ببقاء الصادرات المصرية من الأسمدة قليلة في الفترة المقبلة، بل وقد تضطر البلاد إلى استيراد الأسمدة والغاز المسال من الخارج حتى تكفي احتياجاتها. 

لكن الدكتورة رمسيس أرجعت بعض أسباب الأزمة التي تمر بها مصر الى زيادة أعداد اللاجئين معتبرة "أنهم باتوا يضغطون على موارد الدولة". ونبهت إلى أن مصر حققت نوعاً من الاكتفاء الذاتي في العديد من البنود قبيل الفترة التي سبقت الأزمات الحدودية سواء في السودان أو في غزة. كما أشارت إلى امتناع إسرائيل عن تصدير الغاز إلى مصر للضغط عليها لتقبل أوضاعاً ترفضها، مما كان له تأثيرات سلبية في الاقتصاد المحلي.

وهناك الإجراءات التي تنتهجها مصر لتوفير المنتجات الصناعية والزراعية، والتي ستشهد في الفترة المقبلة مزيداً من الارتفاعات في الأسعار، علماً بأن المصرف المركزي كان يراهن على خفض الأسعار، لكي يبدأ في الخفض التدريجي لمعدلات الفائدة. وقالت إن تلك الملفات الشائكة ستُوضَع على طاولة الحكومة الجديدة المزمع اعلانها خلال الفترة القصيرة المقبلة، "لكن في ظل انخفاض الآمال والطموحات منها، ستزداد الأمور تعقيداً في الأوضاع الاقتصادية إن لم تستطع مصر تصدير ما كان متفقاً عليه".

تبدد الوعود... ومصر تحتاج لاستيراد الفيول

وكان رئيس الحكومة تقدم باعتذار للشعب المصري في مؤتمر صحافي قبل أيام قليلة وقال إن مصر ستحتاج إلى استيراد ما قيمته نحو 1,18 مليار دولار من الفيول أويل والغاز الطبيعي من أجل التخفيف من انقطاع التيار الكهربائي المستمر. وأضاف أن هذه الشحنات ستصل كاملة في الأسبوع الثالث من شهر يوليو/تموز، مشيراً إلى أن الحكومة تهدف إلى وقف قطع الكهرباء بحلول نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل.

كانت مصر بدأت في استيراد الغاز من إسرائيل وإسالته ومن ثم إعادة تصدير كمية منه إلى أوروبا عبر محطتي الإسالة في إدكو ودمياط. وحققت عام 2022 إيرادات من صادرات الغاز وصلت إلى 8,4 مليارات دولار

ووفق وكالة "رويترز"، تعتزم الحكومة المصرية شراء ما بين 15 و20 شحنة من الغاز الطبيعي المسال، لتغطية الطلب المتزايد على الطاقة خلال فصل الصيف. وتسعى القاهرة للحصول على ثلاث شحنات أخرى للتسليم، بين شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 2024. وسترفع مصر كميات المازوت الموردة إلى محطات الكهرباء 11  في المئة في يوليو/تموز إلى 30 ألف طن بعد استيراد كميات إضافية.

تسديد فاتورة الاستدانة... وشروط الصندوق

وكانت مصر بدأت في استيراد الغاز من إسرائيل وإسالته ومن ثم إعادة تصدير كمية منه إلى أوروبا عبر محطتي الإسالة في إدكو ودمياط. وحققت مصر عام 2022 إيرادات من صادرات الغاز الطبيعي المسال إلى الخارج وصلت إلى 8,4 مليارات دولار، في مقابل 3,5 مليار دولار عام 2021، بزيادة بلغت 140 في المئة، لتصديرها كميات كبيرة من الغاز المسال إلى أوروبا عقب الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات التي فُرِضت على موسكو.

واتخذت الحكومة سلسلة من الإجراءات التقشفية الشديدة خلال السنوات الثماني المنصرمة، وذلك التزاماً منها شروط صندوق النقد الدولي، سواء في برنامج نوفمبر/تشرين الثاني 2016، التي حصلت بموجبه على قرض حجمه 12 مليار دولار، أو حين حصلت على الدفعة الأولى من قرض جديد بلغ ثلاثة مليارات دولار في 2022. وكانت المحادثات في شأن القرض الأخير قد توقفت لمدة سنتين إذ لم يجر استكمال المراجعات للحصول على باقي دفعات القرض. لكن مصر عادت في مارس/آذار من السنة الجارية وحصلت على مبلغ 9,2 مليارات دولار من الصندوق، عقب إتمام صفقة رأس الحكمة التي حصلت مصر بموجبها على 35 مليار دولار من دولة الإمارات العربية المتحدة.

قررت الحكومة تخفيف أحمال الكهرباء بإغلاق المحال التجارية من الساعة العاشرة مساءً، ولم يرحب المعنيون بالقرارات لتأثيرها المباشر في تراجع الإنتاج وزيادة معدلات البطالة والفقر

ونفذت القاهرة شروط الصندوق بتحرير جديد لسعر الصرف وزيادة الضرائب وإجراء خفوضات كبيرة في دعم الطاقة. وكانت وزارة المالية المصرية أعلنت في موازنة السنة المالية المقبلة 2024-2025، زيادة مخصصات الإنفاق على الدعم (تشمل زيادة دعم الطاقة والمواد البترولية والكهرباء) والمنح والميزات الاجتماعية إلى نحو 13,5 مليار دولار، مما يمثل نسبة 7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي (يستقر سعر الدولار حالياً عند 48 جنيهاً)، في مقابل 11,22 مليار دولار للسنة المالية الحالية، ما يوازي 4,5 في المئة من الناتج المحلي، ولم يتجاوز الدولار وقت إقرارها حاجز 31 جنيهاً. 

وأصدرت الحكومة قرارات لتخفيف أحمال الكهرباء بإغلاق المحال التجارية انطلاقا من يوليو/تموز من الساعة العاشرة مساءً، واستثنيت المطاعم والصيدليات من القرار. ولم يرحب المعنيون بالقرارات لتأثيرها المباشر في حجم العمالة إذ توقعوا تراجعاً في حجم الإنتاجية، مما سيؤدي بالتالي إلى زيادة حجم البطالة ونسب معدلات الفقر.  

وطرح خبراء حلولاً أهمها المزيد من الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، مما قد يساهم في تخفيف الاعتماد على الوقود التقليدي. كما حضوا الدولة على تنويع مصادر الطاقة الكهربائية لتقليل الأخطار المحتملة وأيضاً لتحسين إدارة الطاقة والتخطيط الاستراتيجي لتلبية الطلب بشكل فاعل ومستدام إلى جانب تعزيز التوعية بأهمية استدامة الطاقة وكيفية توفير الكهرباء بشكل فاعل لدى المواطنين والشركات.

font change

مقالات ذات صلة