الفكر الصيني المعاصر بين استشراق غربي وآخر ذاتيّ

كيف ساهمت أوروبا في ترسيخ صورة محددة عن الثقافة الصينية؟

Shutterstock
Shutterstock
معبد كونفوشيوس في نانجينغ، الصين

الفكر الصيني المعاصر بين استشراق غربي وآخر ذاتيّ

من أهم النقاط التي يثيرها الدرس الافتتاحي الذي كانت الأستاذة آن شانغ قد ألقته سنة 2008، بعدما أسند إليها كرسيّ "التاريخ الثقافي للصين" بالكوليج دو فرانس، ذلك الدرس الذي كان تحت عنوان: "الصين، هل هي تفكر؟"، محاولتها خلخلة الصورة المترسّخة عن الصين، وكونها لا تفكّر الآن مثلما "فكّرت" في الماضي، وتفنيد الرأي الذي يذهب إلى أن الفكر الصيني هو أساسا "حكمة قديمة" ظلت بمنجى ممّا يهز الثقافة العالمية.

الغريب أن هذه الفكرة هي التي نلفيها حتى عند الدارسين الغربيين أنفسهم، بل لعلهم هم من رسخوا الرؤية الاختزالية التي ترى إلى الثقافة الصينية على أنها، من شدّة ما فكّرت قديما، لم يعد في إمكانها أن تفكّر. ما سعت الأستاذة إلى أن تبيّنه، على العكس من ذلك، هو "أنّ الصين فكّرت، وأنّها لا تزال تفكّر". فالصين: "لم تعد تقبل أن تظل سلبية، مثل صورة جامدة تسلّم نفسها للدرس، وإنّما غدت محاورا فعّالا يساهم في جدالاتنا، وذلك لسبب وحيد، وهو أنّها انكبّت، منذ ما ينيف على ثلاثين سنة (أي منذ جيل)، على تحصيل كل ما جاءت به العلوم الإنسانية الغربية، كما انكبّت منذ وقت قريب، على إعادة تملّك تراثها الفكري والثّقافي، انطلاقا مما يخزّنه ماضيها".

فلاسفة وحكماء

تبدأ الأستاذة شانغ بأن تورد اقتباسا لأحد الصينيين المهتمين بالعلوم الاجتماعية يقول فيه: "لقد سادت لمدّة طويلة أوساط الدارسين الغربيين للصين، الفكرةُ التي ترى أن قدماء المفكرين الصينيين قبل العهد الإمبراطوري وحدهم هم من يمكن أن يصدق عليهم نعت الفلاسفة (ولم تعرف هذه الذهنية التغيّر إلا أخيرا). لقد كان هؤلاء المفكرون يُعَدّون بمثابة حكماء الصين القديمة. في مقابل انجذاب الدارسين الغربيين نحو الفكر الصيني القديم، نجد إعجاب الصينيين المحدثين بالفلسفة الغربية الحديثة. لقد كان التصور الضمني للحركة التاريخية هو هو، إلا أن الصين كانت مأخوذة بغرب "ما بعد عصر الأنوار"، بينما يحلم الغرب بالصين القديمة، التي لم تقتحم بعدُ العصورَ الوُسطَوية، أي الصين المفصولة عن تطوّرها الحديث".

ما واجهه الفكر الصيني الحديث، ليس الانفتاح على الفكر المعاصر فحسب، وإنما التحرر من القراءة التي رسّخها الباحثون الأوروبيون

فبعد انقضاء العهد الماوي استحوذ على المثقفين الصينيين تعطشٌ كبيرٌ دفعهم لأن يتهافتوا على كل ما هو جديد صادر عن الأوساط الجامعية الغربية، وخصوصا ما يأتي من أميركا الشمالية. ومن سخرية الدهر أنّ الموضات الثقافية الأميركية هي التي كانت واسطة في تعرّف النخب الثقافية الصينية على الفكر الفرنسي الحديث، أو ما يُطلِق عليه الأميركيون "النظرية الفرنسية". أعقبت هذا سلسلةٌ من "أشكال الحمَّى"طبعت العقد الأوّل من القرن العشرين: الحمّى الثقافية المتأثرة بعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، والنزعات البراغماتية والبنيوية والتفكيكية، وما سمّي ما بعد الحداثة... ومنذ بداية سنة 2000 أصابت حمَّى أخرى عالم الثقافة، وهي إحياء التراث و"الدراسات الوطنية". وهكذا أرادت الصين أن تكون هي نفسها فعالة في إعادة تملُّك ماضيها.

عولمة تكنولوجية

لا ينبغي أن ننسى أنّ كلّ هذا قد تمّ على خلفية عولمة تكنولوجية: "إن الطريق السيّار الذي يربط الولايات المتحدة بالصين، الذي أومأتُ إليه في البداية، هو أيضا طريق المعلومات. إن السياق المعَولم الذي نعيش فيه اليوم، يدفعنا دون انقطاع، نحو مزيد من التنوّع والحركة وردّ الفعل، ولكن أيضا، نحو مزيد من السرعة والاستعجال. بفضل الشبكة العنكبوتية، التي يستخدمها الصينيون استخداما أكثر اتساعا وشدّة مما عليه الأمر عندنا في أوروبا، فإن عرض المعلومات اليوم غدا لا محدودا، كما أن انتشارها يتمّ من أقصى مناطق المعمورة إلى أقصاها، مما يفرض تنبّها آنيا، وقدرة على الالتقاط والهضم، وسرعة كبيرة في ردّ الفعل تبعث على الدوار. تعكس التحولات التي عرفها الواقع الصيني اليوم، تمام الانعكاس هذه السرعة التي لم يتقدم لها مثيل، والتي تفرض بدورها إيقاعا جنونيا على الدراسات الصينية".

Shutterstock

نتفهم، والحالة هذه، مطالبة الباحثين الشباب بتجديد الدراسات الصينية، بما هم مسلحون بأبحاث ميدانية وباتصالات دولية ومقاربات تستفيد من تداخل التخصّصات في ما بينها. إلا أن ما واجهه الفكر الصيني الحديث، ليس الانفتاح على الفكر المعاصر فحسب، وإنما التحرر من القراءة التي رسّخها الباحثون الأوروبيون عن الصين القديمة عندما حاولوا الانفلات مما تسمّيه الأستاذة "قبضة النزعة الأوروبية": "يتعلق الأمر هنا بنوع من الدراسات المقارنة التي ما زالت رائجة، خصوصا أنها فرضت نفسها كشعار يوجّه تقاليدنا الأكاديمية يسند الرغبة في الانفلات من قبضة النزعة الأوروبية المتمركزة على ذاتها. إلا أنه يظل تابعا لمنظور استشراقي من حيث إنه يرمي إلى تحويل الفكر الصيني إلى متحف، وإلى اختزاله ليلعب دور "الآخر" كطرف مقارنة لكي يتمّ إرغامه على الجواب عن أسئلة لا تخصُّه هو بالذات".

لقد رسّخ "الاستشراق الأوروبي" الصورة التي فرضها هو عن الصين القديمة-الحكيمة، فكان على المفكرين الصينيين المحدثين أن يتملكوا من جديد تراثهم، وأن يقوموا ضد تلك الرؤية الاختزالية التي جعلت من الفكر الصيني "الآخر المطلق" في عين الأوروبي الذي كان يعتقد أن التوجّه نحو الصين يمكن أن يكون طريقا إلى التخلص من هيمنة نزعة التمركز حول الذات الأوروبية، وبديلا جديدا كل الجدة عن "الثقافة الغربية". لقد عملت هذه الرؤية على أن "تعطّل" الفكر، فرأت أن الثقافة الصينية لم يعد في إمكانها أن تفكر من شدّة ما فكرت قديما. في هذا المعنى فإن الاستشراق كان من بين العوامل التي لعبت دور الحاجز الذي حال دون انفتاح الفكر الصيني على المعاصرة.

استشراق ذاتي

ما تتخوف منه أستاذة كرسيّ "التاريخ الثقافي للصين" بالكوليج دو فرانس، هو ألا يعمل المحدثون من الباحثين الصينيين الذين تفتحوا على الفكر المعاصر، إلا على استبدال "استشراق ذاتي" بالاستشراق الأوروربي، فيتوهمون أنهم، بطبعهم، أقرب إلى أصولهم، وأكثر "أصالة" من غيرهم. نقرأ في درسها الافتتاحي: "إننا سنجانب الصواب إن اعتقدنا أن معاصرينا الصينيين هم بطبعهم أقدر من الغربيين للحكم على تراثهم، بحكم أنهم انفصلوا عنه بفعل التحديث ومن جراء قرن من الثورات، إذ أنهم، عندما لا يكونون تحت تأثير التأويلات الغربية التي استوعبوها، بكيفية لا شعورية في بعض الأحيان، بفعل الوقوع في نوع من الاستشراق الذاتي، فإنهم قد يقعون ضحية أطروحات ذات منحى ثقافوي فيتوهمون أنهم يمتلكون الحقيقة بدعوى انتمائهم إلى أصل 'أصيل'، إن لم نقل أصلا جِينِيا". لذلك هي تدعو هؤلاء المحدثين من الدارسين الصينيين إلى أن يولوا انتباههم الشديد لشروط هذا التملُّك الجديد للتراث وأهدافه، "لأنه تملّك يتم على خلفية أيديولوجية متفجرة: إنه استغلال لشعور بالانتقام من تجربة احتقار واستلاب تمت معاناتها منذ قرن ونصف القرن، وكذا تجربة انبهار بصعود وترقٍّ ضمن السياق المعَوْلم الجديد. صحيح أنها نقاشات وأبحاث من شأنها أن تتعرض للتوجيه من طرف هذه الرهانات نحو دلالة مموهة علينا أن نقيس قوتها كي نتحاشاها ونحتمي منها، ولكن عندما يحصل أن تكون أصيلة ومجدّدة، فعلينا كذلك أن نأخذها في الاعتبار".

الرؤية التي لدينا عن التقاليد الصينية، خضعت منذ عهد بعيد للشروط التي أملتها الكيفية التي استُقبلتْ بها بداية في السياق الأوروبي

لم يكن على الأستاذة الصينية أن توجه نداءها في هذا الصدد، إلا بالكيفية التي يفرضها عليها الموقع التي تتكلم انطلاقا منه، وأعني مؤسسة الكوليج دو فرانس. لذا هي لم تطعن لا في ارتباط الفكر الصيني بنظيره الأوروبي، ولا في المنهج المقارن الذي اعتمد في دراستهما حتى الآن، ولا في التثاقف الذي عرفته الحضارتان، الأوروبية والصينية، وإنما اكتفت بالدعوة إلى إقامة نوع من التاريخ الجنيالوجي لقيام تصور كل ثقافة عن الأخرى، ومتابعة الكيفية التي ترسخت بها صورة كل منهما عن الآخر. فـ"بدل مقارنة أوروبا بالصين (كي نقابل بينهما على نحو جيّد)، يبدو لي أنه من الأهمية بمكان أن ندرس الكيفية التي تنقّلت بها الأفكار بينهما في العصر الحديث. فالرؤية التي لدينا عن التقاليد الصينية، قد خضعت منذ عهد بعيد للشروط التي أملتها الكيفية التي استُقبلتْ بها بداية في السياق الأوروبي. يصدق هذا على تصوراتنا التي أصبحت مترسخة، عمّا اعتدنا تسميته 'الكونفوشيوسية'، وهي تصورات ابتدأت في التكوّن إبان تلقّي نوع من أيديولوجية النخَب الصينية في أوروبا القرن الثامن عشر، وما زلنا نعيش عليها حتى اليوم... وهذا يصدق على جميع المقولات التي بنتها العلوم التاريخية والفيلولوجية والفلسفية والدينية على امتداد القرن التاسع عشر الأوروبي".

Shutterstock

علينا إذن أن نأخذ في الاعتبار أمرين اثنين:

إن الصورة التي رسمها الأوروبي عن الصين هي صورة متجذرة لها تاريخ طويل، وهي لا تزال تحيا بيننا حتى اليوم، فلا تكفي، والحالة هذه، عقود من الانفتاح على الفكر المعاصر كي نعدّل منها بكل سهولة.

التنبه إلى خطر الإبقاء على نظرية في الآخر تُجمّد التعارضات وترمي بها خارج الزمان والمكان، فتحُول دون رصد التعدّد والتنوع الذي يطبع الاختلافات حيث توجد بالفعل. الأمر الذي قد تتمخض عنه نتيجة سلبية، وهي خطر الوقوع ضحية شكل من أشكال الماهوية، والانتهاء بمساندة الأفكار الجاهزة التي ترسخت واستغرقت ما يكفي من الزمن كي تتصلب وتتخشب.

font change

مقالات ذات صلة