ما العمل في قطاع غزة بعد الحرب؟

غابت الأطراف الفلسطينية العارفة والمؤثرة لأسباب مختلفة عن النقاش

ناش ويراسكيرا
ناش ويراسكيرا

ما العمل في قطاع غزة بعد الحرب؟

ما الحل المناسب للوضع في قطاع غزة بعد توقف الحرب؟ هذا هو السؤال المركزي. والإجابة عليه بشكل سليم سوف يترتب عليها دفع المنطقة ككل في الاتجاه الصحيح. أما الإجابة الخاطئة- لا سمح الله- فسوف تترتب عليها كوارث كبيرة ليس فقط بالنسبة لقطاع غزة، أو للقضية الفلسطينية، بل للمنطقة بشكل عام وربما ما هو أبعد.

اصطلحت بعض الأطراف الغربية على تسمية الوضع في قطاع غزة بعد الحرب "اليوم التالي"، وغابت الأطراف الفلسطينية العارفة والمؤثرة لأسباب مختلفة عن النقاش الذي احتدم بين هذه الجهات. واحدة من المشاكل تأتي من تنطح عدد كبير من مراكز البحث الغربية للإجابة على السؤال مع جرعة كبيرة من ادعاء الخبرة والمعرفة بالوضع الفلسطيني أو بأوضاع مشابهة لغزة، أو هكذا يقولون. حتى الآن محاولة الإجابة من هؤلاء لا تبشر بالخير وتكاد تدفع للاعتقاد بأن الخلط قد يكون مقصودا أو بأن الهدف هو تسويق المواقف الإسرائيلية الغبية وحتى المستحيلة، بغض النظر عن المصلحة الفلسطينية أو بغض النظر عن كون هذه الإجابات لا تخدم فكرة بناء وضع فلسطيني اقتصادي واجتماعي وسياسي متماسك، ويشكل إحدى دعائم دولة فلسطين المستقلة والسلام المستقر بين هذه الدولة وإسرائيل.

الغرض من هذه المقالة ليس تناول الأمور الواضحة، مثل الحاجة لإعادة بناء قطاع غزة ماديا أولا، واجتماعيا أيضا. بل فحص الاحتمالات المختلفة بما في ذلك الاحتمالات الفاشلة وإظهار سبب فشلها، وبالتالي تمهيد الطريق للاحتمال المعقول والصالح للتنفيذ ولو بدرجة من درجات التفاوت أو التغيير. ترد هنا احتمالات خمسة أساسية، ومن الطبيعي أن تكون هناك احتمالات فرعية مشتقة من أي منها.

احتلال قطاع غزة بشكل أو بآخر تفكير أحمق تماما، ليس فقط لمخالفته لروح العصر أو للحل السياسي المطلوب وإنما أيضا لأن إسرائيل غير قادرة على تنفيذه

الاحتمال الأول هنا هو استمرار الوجود العسكري الإسرائيلي لفترة ممتدة بأشكال مختلفة، بما في ذلك إقامة إدارة مدنية أو إدارة محلية فلسطينية وهو سيناريو شبيه بما قامت به إسرائيل خلال السنوات التي تلت احتلال الضفة الغربية وقادت هناك إلى بناء المستعمرات وإحضار المستعمرين، كما قادت إلى عدم تنفيذ "اتفاق أوسلو" والانقلاب عليه لاحقا. يخدم هذا الحل أفكارا يمينية أخرى على غرار إقامة منطقة عازلة تحيط بالقطاع أو إقامة طرق عرضية تسهل السيطرة العسكرية، أو الفكرة البائسة الخاصة بالتهجير القسري للسكان، أو حتى إعادة بناء المستعمرات الإسرائيلية في القطاع.
جوهر هذا الاحتمال هو إعادة احتلال قطاع غزة بشكل أو بآخر وهو تفكير أحمق تماما ليس فقط لمخالفته لروح العصر أو للحل السياسي المطلوب وإنما أيضا لأن إسرائيل غير قادرة على تنفيذه، خاصة على ضوء حقيقة أنه سيقود إلى استمرار المعارك وتطوير المقاومة للاحتلال، وهو ما يستدعي وجودا عسكريا مكثفا وجهدا إداريا كبيرا، ناهيك عن المصيبة الكبيرة المتمثلة في معالجة الوضع المدمر كليا للقطاع، والذي ستعجز إسرائيل عن توفير احتياجات معالجته، وهي ليست راغبة في ذلك على كل حال. ثم إن أي فلسطيني يتعاون في تنفيذ هذه الرؤية سينظر له باعتباره عميلا وقد يتعرض للخطر.
أخيرا سيسبب هذا الاحتمال المزيد من المشاكل السياسية الداخلية الجديّة في إسرائيل، وسيسبب لها مشاكل إضافية مع المجتمع الدولي، حتى لو كانت إسرائيل تريد البقاء لفترة محدودة فقط. نشير هنا إلى أن أصدقاء إسرائيل، جميعهم تقريبا، ينصحونها بضرورة تجنب هذا الاحتمال.
الاحتمال الثاني هو نشر قوة متعددة الجنسيات تكون مسؤولة عن حفظ الأمن والنظام في قطاع غزة وخدمة الأهداف السياسية للمشاركين في القوة، خاصة منع "حماس" من إعادة بناء نفسها عسكريا. وقد تواكب هذه الفكرة وجود مجموعة سياسية لبعض الدول المساهمة في القوة وقد تستعين هذه ببعض الجهات أو الشخصيات الفلسطينية لبناء هيئة محلية تعمل لدى المجموعة أو القوة. قد تكون هناك محاولة للحصول على تفويض بالقوة من مجلس الأمن الدولي، وهو أمر يصعب حدوثه، وستكون هذه القوة- وإن حصلت على تفويض من المجلس- مختلفة عن قوة للأمم المتحدة لحفظ السلام، باعتبار الأخيرة غير مقاتلة. إمكانية بناء القوة إشكالية في أحسن الأحوال وأظنها مرتبطة باستعداد الولايات المتحدة للمشاركة المباشرة، وهو أمر تم استبعاده مرارا من القيادة السياسية الأميركية. كما أن الشعب الفلسطيني وقطاع كبير من الشعوب العربية سينظران إلى هذه القوة كشكل آخر للاحتلال الإسرائيلي وإن كان مخففا. وقد تظهر مقاومة مسلحة لهذه القوة.

ينبغي وجود آلية بناء وإدارة للقطاع لحين إجراء انتخابات عامة، وهي آلية يجب أن تكون مرتبطة بالسلطة، ولكن مختلفة عنها من حيث الكفاءة والخلو من الفساد

الاحتمال الثالث هو استمرار شكل من أشكال سيطرة "حماس" على الحكم في قطاع غزة، ربما بالاستعانة بغطاء جزئي، وهو أمر يصعب تصور أن إسرائيل أو حتى الولايات المتحدة أو الدول الغربية عموما ستسمح به. وحتى دول المنطقة قد لا تتعايش مع الفكرة. بالتالي لا يبدو أن هذا الاحتمال وارد بشكل فعلي.
الاحتمال الرابع هو عودة السلطة الفلسطينية الرسمية لتولي مسؤوليات الحكم في القطاع بدعم من جهات خارجية، وقد كان هناك بالفعل بعض الإشارات لاستعداد بعض الجهات الأمنية لهذا الاحتمال. الحكومة الإسرائيلية الحالية ترفض هذا الاحتمال على الرغم من محافظتها على عباس في الضفة الغربية، رغم ما نراه مؤخرا من تغيرات نتيجة موقف بعض وزراء اليمين المتطرف بغرض إسقاط السلطة وضم الضفة الغربية. السبب في هذا الرفض هو اعتبار الحكومة أن هذا سيشكل خطوة كبيرة باتجاه الكيانية الفلسطينية وفكرة الاستقلال الوطني.
هذا الحل، وربما نتيجة دعم بعض الجهات الأخرى له يبدو منطقيا في الظاهر، ولكن مشكلته مزدوجة، تتمثل أولا في عجز أجهزة السلطة الحالية عن القيام بالعمل المطلوب في قطاع غزة بشكل فعال ومقبول. وثانيا وهو الأهم يتمثل في صعوبة تصور قبول "حماس" وحلفائها في القطاع للفكرة بسبب معرفتها أن هؤلاء سيتعاملون معها بكل قسوة وسيكون هدفهم هو القضاء المبرم عليها حتى بالشكل السياسي. أضيف إلى ذلك الرفض الشعبي الواسع بين سكان القطاع لسلطة رام الله وحتى كراهيتهم لرموز هذه السلطة.
إذن، إن كان هناك فشل شبه مؤكد للاحتمالات الأربعة الأساسية فيجب التفكير في حل خامس يستجيب للواقع ولجوهر مواقف الأطراف الأساسية ويسهّل المضي إلى مراحل تالية بعد إنجاز المهام الصعبة الحالية في القطاع. هذا بالطبع ليس حلا سحريا، ولكنّ هناك متطلبات أساسية للوصول إليه، أولها انسحاب إسرائيل التام من القطاع وهو ما سيسمح بإعادة بناء القطاع بإسهام دولي جدي، ومن المفهوم أن هذا الانسحاب يتطلب إنجاز صفقة تبادل معقولة تتيح عودة المحتجزين.
ثاني هذه المتطلبات وجود آلية بناء وإدارة للقطاع لحين إجراء الانتخابات العامة، وهي آلية يجب أن تكون مرتبطة بالسلطة، ولكن مختلفة عنها من حيث الكفاءة والخلو من الفساد، وهي آلية لا تشارك فيها "حماس" أو الفصائل الأخرى بشكل مباشر، ولكن لا تعتبرها "حماس" معادية، وهي آلية يجب أن تبدأ خطوات إنشاء هيكل أمني فلسطيني جديد.

من الواضح أن بنيامين نتنياهو وحكومته لن يسمحا بالحل لأن نتنياهو يريد استمرار الحرب لإنقاذ نفسه، ولأنه هو وحكومته ضد الحل السياسي الوحيد الممكن

متطلب ثالث هو وجود أمني مؤقت يفضل كثيرا أن يكون وجودا عربيا وهو في كل الأحوال مؤقت. ولن يدير أو يحكم القطاع وهو ينسق ويساعد الآلية الفلسطينية وهيكلها الأمني، ويرتبط الوجود العربي بالمتطلب الأول وهو انسحاب إسرائيل من القطاع، كما يرتبط بالمتطلب الرابع وهو وجود إطار سياسي متفق عليه بين الأطراف ويتضمن دولة فلسطين المستقلة على حدود 1967 والاعتراف المتبادل بينها وبين إسرائيل ضمن موعد محدد.
بمعنى أن هذا الحل في قطاع غزة سيكون مرتبطا بحل أوسع هو الحل السياسي القائم على وجود دولتي فلسطين وإسرائيل. نضيف هنا ضرورة تنظيم مؤتمر دولي للمانحين حول إعادة بناء غزة بما يضمن المشاركة الواسعة والتنفيذ الحقيقي، كما نضيف أنه يمكن للمجتمع الدولي إيجاد الآليات اللازمة التي تسمح له بالمتابعة والفحص دون إلغاء الطابع الوطني لكل العملية.
طبعا كل ما سبق والمتعلق بالاحتمال الخامس يحتاج إلى قدرة لربط كل المتطلبات ببعضها وهو بالتالي يحتاج لقوة كبيرة ولتفاهم واسع بين الأطراف المعنية وتحقيق درجة من الارتياح لدى الأطراف. ورغم ذلك من الواضح أن السيد بنيامين نتنياهو وحكومته لن يسمحا بتنفيذ هذا الحل لأن نتنياهو يريد استمرار الحرب لإنقاذ نفسه ولأنه هو وحكومته ضد الحل السياسي الوحيد الممكن. وسنرى ما الذي سوف يحدث هنا، خصوصا بعدما رمى الرئيس بايدن بثقله شخصيا في محاولة لإنهاء الحرب وإنجاز صفقة التبادل.

font change

مقالات ذات صلة