"صدمة الإبادة" تلاحق الإيزيديين

"المجلة" تزور سنجاربعد عشر سنوات من حكم "داعش"

 أ ف ب
أ ف ب
ايزيديات يحملن صور ضحايا المجزرة التي وقعت في اغسطس 2014 خارج سنجار في صورة تعود الى 2 اغسطس 2022

"صدمة الإبادة" تلاحق الإيزيديين

قبل الوصول إلى بلدة سنجار، "العاصمة الرمزية" لأبناء الديانة الإيزيدية في العراق، الواقعة في أقصى شمال غربي محافظة نينوى (الموصل)، والتي شهدت واحدة من أفظع جرائم "الإبادة الجماعية" بحق أبناء هذه الديانة، على يد تنظيم "داعش" الإرهابي في صيف عام 2014، حضرت "المجلة" المباراة النهائية لبطولة "رواد غرب نينوى" لكرة القدم، بين فريقي بلدة تلعفر (ذات الأغلبية التركمانية) وبلدة سنوني (ذات الأغلبية الكردية الإيزيدية)، وشاهدت صورة من الحياة المشتركة وأشكال الفرح والمنافسة الإيجابية بين السكان المحليين، المنحدرين من قوميات وأديان وطوائف متعددة، ومعها أشياء أخرى كثيرة مثلها، تشكل في مجموعها ملمحا لعودة الحياة العامة "الطبيعية" إلى تلك المنطقة، لكنها ليس الصورة الكلية في المنطقة بأي شكل.

في الطريق إلى سنجار، مرورا بعدد من القرى والبلدات والتجمعات السكنية "الإيزيدية"، يواجه الزائر عشرات الحواجز الأمنية، بعضها للجيش العراقي وأخرى لفصائل مختلفة من "الحشد الشعبي"، وعلى مسافة غير بعيدة منها حواجز لفصائل "وحدات تحرير شنكال" (YPŞ)، الكردية القريبة من "حزب العمال الكردستاني"، وأخيرة مشتركة بين مختلف تلك الوحدات العسكرية. على جنبات كل واحدة منها فيض من الأعلام الطائفية والسياسية، وصور لقادة وسياسيين ومقاتلين كانوا أعضاء في هذه الأجنحة العسكرية لهذه الجماعات المسلحة.

تتجول "المجلة" في بلدة سنجار، التي تبدو "مُحبَطة"، فاقدة للإحساس بإمكانية عودتها إلى ما كانت عليه، قبل أن تطال "المذبحة الكبرى" سكانها المحليين في صيف 2014. فأكثر من ثلاثة أرباع سُكانها السابقين لم يرجعوا إليها حتى الآن، غالبيتهم ما زالوا يعيشون في عشرات المخيمات في إقليم كردستان، وكثيرون منهم لجأوا إلى كثير من البلدان الغربية، وآلاف منهم ذهبوا ضحايا الجرائم التي طالتهم.

أ ف ب
أيزيديون خارج مخيم للنازحين قرب مدينة دهوك العراقية في 22 ابريل 2023

تشكل عائلة "مام جتو"، الذي التقته "المجلة" في بلدة سنجار، نموذجا لما يعيشه الإيزيديون هناك، وفي كامل المنطقة المحيطة بجبل سنجار. فواحدة من بناته قُتلت أثناء تلك الأحداث، وأخرى مع شقيق لها ما زالا مفقودي الأثر حتى الآن، وشقيقان آخران لهما مقيمان في مخيم بإقليم كردستان، فيما لجأت واحدة من بناته إلى أستراليا منذ صيف 2021، وهو يعيش راهنا مع زوجته وأصغر أبنائه في الحي الشمالي للبلدة.

يُخبرنا "مام جتو" كيف أنه تقريبا لم يغادر حدود هذه البلدات والقرى الإيزيدية طوال سنوات عمره، التي تقارب السبعين، ولم يسبق له، أو لأي من أبنائه أن انخرطوا في أية أحزاب أو تنظيمات أو أعمال قد تمس أي شخص أو ديانة أو جماعة أهلية أخرى، وكيف أن تلك الأحداث السريعة حطمت حياتهم فجأة في ساعات قليلة، ولم يتمكنوا حتى الآن من تضميد جراحهم، ولا يملكون أية آمال بعودة الأمور إلى سابق عهدها، طالما لم يحدث شيء خلال السنوات الست الماضية، منذ أن حُررت البلدة وباقي المناطق الإيزيدية من تنظيم "داعش" الإرهابي.

غالبية عظمى من أبناء المناطق الإيزيدية يشبهون "مام جتو"، إذ يعيش راهنا 160 ألف إيزيدي فقط، من أصل قرابة نصف مليون كانوا يقطنون هذه المنطقة خلال السنوات الأخيرة، كما تُشير لوائح الشطب الانتخابية. كما أن بلدة سنجار نفسها، لم يعد إليها إلا أقل من عشرة آلاف شخص من سكانها.

في المشهد العام، تبدو البلدة وكأنها تعيش حياة يومية عادية، لكن التفاصيل تقول عكس ذلك تماما. إذ إن ثمة ثلاث إدارات محلية، متصارعة فيما بينها، وتعتبر كل واحدة منها نفسها "مصدر الشرعية".

المؤسسات المرتبطة بالحكومة المركزية، وتاليا بمركز محافظة نينوى (الموصل)، تعمل بشكل روتيني، خصوصا في القطاعات الصحية والخدمية الاعتيادية، لكن مناصب مثل "القائمقام" و"مدير الناحية"، موجودون في بلدة سيميل بمحافظة دهوك، ضمن إقليم كردستان. فهذه المناصب، وغيرها من المؤسسات المنتخبة، مقربة من "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، وهذا الأخير يعتبر الأوضاع الراهنة في سنجار، ومختلف المناطق الإيزيدية "غير اعتيادية"، وتاليا لا يمكن لهذه المؤسسات الخدمية المنتخبة أن تعمل بحرية واستقلالية عن الميليشيات المسيطرة. وإلى جانب هاتين الإدارتين، ثمة مؤسسات مرتبطة بـ"الإدارة الذاتية لشنكال"، التي أسستها الفصائل المقربة من "حزب العمال الكردستاني".

تبدو البلدة وكأنها تعيش حياة يومية عادية، لكن التفاصيل تقول عكس ذلك تماما. إذ إن ثمة ثلاث إدارات محلية، متصارعة فيما بينها، وتعتبر كل واحدة منها نفسها "مصدر الشرعية"

اقتصاديا، يعتمد السكان على بعض الزراعات الأولية، وإن كانت ملامح التغير المناخي تظهر في كافة أرجاء المنطقة، ومعها ملامح عدم إيلاء السلطات المركزية القطاع الاقتصادي في تلك المنطقة أية أهمية. 
الضغوط الأمنية شبيهة بالظروف الإدارية والاقتصادية، فالطيران العسكري التركي يقصف مناطق قضاء سنجار يوميا تقريبا، فيما تُعلن وزارة الدفاع التركية تنفيذ عمليات اغتيال بشكل متواتر. وإلى جانبها، فإن فصائل "الحشد الشعبي" توسع حضورها وتقويه في مختلف جنبات تلك المنطقة، خصوصا على الحدود العراقية السورية استعدادا لأية مواجهة قد تحدث بينها وبين الجيش الأميركي. 
لكن الحساسيات الأهلية الداخلية تفوق كل شيء آخر، فالإيزيديون يملكون في خبيئة أنفسهم ملامة كبرى تجاه جيرانهم الأقربين، الذين مارس عدد منهم أدوارا مختلفة في تلك الأحداث، ولا يزالون يتجاسرون على فعل أشياء من المفترض أن لا تحدث، كما يصرح الإيزيديون جهارا، على الرغم من تاريخ التجاور والوئام الاجتماعي فيما بينهم، وعلى رأس تلك الأشياء الاعتذار وإعادة الاعتبار والتبرؤ من الجناة، وعدم الاكتفاء بالرواية التي تصنف "داعش" كـ"مؤامرة أميركية وصهيونية عالمية"، فالإيزيديون يعتبرون هذا الخطاب هو فقط لـ"حفظ ماء الوجه وطمر الحقائق"، وشيئا دون الواجب المفترض أن يفعله الجيران، ولو بحده الأدنى.

ثلاثة مطالب

يحدد الإيزيديون ثلاث استراتيجيات، من المفترض أن تُحققها الحكومة المركزية العراقية، حتى يعودوا لدورة حياتهم العادية، وتجاوز الماضي، بآثاره المادية والرمزية والنفسية، والبدء بتجاوز مرحلة الإبادة وجروحها. 
تأتي مسألة استعادة الأسرى والمختفين من النساء الإيزيديات على رأس تلك المطالب، ويُقدر عددهن بما يزيد على ثلاثة آلاف مُفتقدة. ومع الأمر محاسبة فعلية وجادة لكل المنخرطين في تلك الأحداث، أيا كانت مواقعهم الاجتماعية راهنا، ومهما كان دورهم وقتئذ، حتى لو كان ممارسة للتحريض أو تسترا على الجناة أو استغلالا لما حدث. 
يطالب الإيزيديون بعدم حصر الموضوع ببعض التعويضات المالية "البخسة"، أو تشكيل لجان بيروقراطية. بل إحداث محكمة خاصة وفعالة، تُدين الفاعلين من جهة، وتقر مجموعة من القرارات التي تحظر وتُجرم الخطابات والممارسات الشبيهة بما حدث خلال السنوات التي تلت عام 2003، وأدت في المحصلة إلى "استرخاص" دماء أبناء الديانة الإيزيدية. 

أ ف ب
طفلان أيزيديان يسيران وسط ركام منازل دمرت في 2014، في 6 مايو

على مستوى نظير، فإن الشخصيات الاعتبارية الإيزيدية، ومعها النخبة الثقافية والسياسية، يطالبون بإخراج مختلف أنواع الفصائل والميليشيات من المناطق الإيزيدية، وإدارة الملف الأمني والإداري عبر شراكة بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان، مع منح أبناء المناطق الإيزيدية دورا وفاعلية أمنية، وحتى عسكرية، في مناطقهم، بغية خلق مظلة من الأمان المستدام. فالإيزيديون يعتبرون أنفسهم خارج كل الصراعات الإقليمية والاستراتيجية والقومية والطائفية التي تحيط بهم، ولا يرغبون بأي شكل في دفع أي من أثمانها. 
أخيرا، فإن الإيزيديين لديهم رغبة شديدة في نوع من "الحُكم المحلي الموسع"، وإنْ بالشراكة مع جيرانهم المسلمين. للخروج من عباءة وهيمنة المؤسسات الاقتصادية والإدارات البيروقراطية المركزية، سواء في العاصمة بغداد، أو من مركز المحافظة في الموصل. فذلك الحكم، سيعيد الكثير من الأدوات والسلطات الرمزية لأبناء هذا المكون، ويدفعهم للشعور بالمساواة والجدارة مع باقي المكونات. 


مراحل الانكسار 

الناشط المدني الإيزيدي الشهير ميرزا دنايي، يشرح في حديث مع "المجلة" التحولات الجذرية التي طرأت على أبناء الديانة الإيزيدية في العراق طوال السنوات الماضية، والتي أفقدتهم الحس بـ"الأمان الدائم"، وصاروا بسببها يحيون نوعا من "العيش القلق" في بيئتهم التاريخية. 
دنايي كان قد حصل قبل عدة سنوات على جائزة "أورورا للنهضة الإنسانية" من الاتحاد الأوروبي، وتبرع بكامل قيمتها لمصلحة تشييد مؤسسة "بيت التعايش" في بلدة سنجار، يُصنف تلك التحولات حسب أربعة مستويات متراكمة. 

يحدد الإيزيديون ثلاث استراتيجيات، من المفترض أن تُحققها الحكومة المركزية العراقية، حتى يعودوا لدورة حياتهم العادية، وتجاوز الماضي، بآثاره المادية والرمزية والنفسية، والبدء بتجاوز مرحلة الإبادة وجروحها

بدأ القلق الإيزيدي منذ العهد الملكي، حين شن الزعيم العراقي ياسين الهاشمي أولى الحملات العسكرية عليهم، وأتبعها النظام العراقي السابق بقرارته الشهيرة عام 1975، التي فككت 322 قرية زراعية إيزيدية، وأعادت إسكان الإيزيديين في عشر مجمعات سكنية فحسب، لكنه سحب منها كل شروط التنمية الإنسانية المستدامة، فلم يصنفها كمُدن، وعمليا ما عادت قُرى. وبذا فقدت المناطق الإيزيدية كل حقوقها في الرعاية الصحية والتعليمية والتنمية الاقتصادية. وصار الإيزيديون حسب ذلك المنظار أكثر الجماعات الأهلية العراقية نكوصا وتراجعا في كافة مناحي الحياة. 
المسألة الثانية كانت تتعلق بعدم الاعتراف بالديانة الإيزيدية، لا بنصوصها المُقدسة ولا الحق الشرعي للمؤمنين بها في ممارسة شعائرهم، أو منح مؤسساتها وطبقات رجال دينها أية شخصية اعتبارية أو قانونية يستطيعون عبرها الدفاع عن حقوقهم وممتلكاتهم الوقفية. وتاليا تركهم عُرضة لمجموعة كبرى من الدعايات والخطابات والمخيلات الجمعية المناهضة لهم. 
صحيح اعترف الدستور العراقي الحديث بالإيزيدية كديانة، لكن المؤسسات والوثائق الحكومية المركزية لم تمنحهم المقام والحقوق والهيكل الإداري نفسه الممنوح لأبناء الديانتين الإسلامية والمسيحية، بكل طوائفهما. 
هذان الحدثان، وإلى جانبهما تحولات تاريخية تتعلق بالموقع الحساس للمناطق الإيزيدية بين إقليم كردستان وباقي مناطق العراق، أفقدت الإيزيديين البنيان الروحي والهيكلة الاجتماعية والاقتصادية والدينية التقليدية المتماسكة، على مستوى الأشخاص والقيادات، وحتى العائلات الروحية، ولم تسمح في المقابل بأن تتمكن النُخب والمؤسسات الحديثة من أن تجترح لنفسها مكانة ودورا في المجتمع الإيزيدي، تحديدا على مستوى قدرة أية هيئة عمومية على الدفاع عن حقوق أبناء هذه الجماعة، وهو ما يصيبهم بنوع من الشعور بـ"الاهتراء".
راهنا، يسيطر على الإيزيديين شعور دائم بإمكانية "تكرار المذبحة"، لأسباب كثيرة، على رأسها بقاء الأمور على ما كانت عليه قبل 2014، والتي أدت إلى ما حدث. فالعلاقات مع الجوار لا يتم إصلاحها والعمل عليها بمسؤولية ورؤية استراتيجية، وثمة صخب أمني يومي محيط بكل مناحي الحياة، والوقائع اليومية المتواترة في عموم العراق والمنطقة تزيد من وتيرة تلك المخاوف.
يقوم المركز الذي أسسه دنايي بنشاطات مدنية وثقافية وحقوقية، وحتى اقتصادية يومية، يستقبل خلالها الكثير من الدبلوماسيين والمثقفين والشخصيات المحلية الاجتماعية والوطنية وحتى الدولية، ويدير شبكة من الخدمات لأجل الإيزيديين وعلاقتهم المستقبلية مع جيرانهم الأقربين. لكن، مع كل ذلك، ترفض السلطات المحلية تقديم حد أدنى من المساهمة والمساعدة لصالح مؤسسته الخدمية المجانية، بما في ذلك تعبيد الطريق الترابي القصير الذي يفصلها عن الشارع العام. ومثل مؤسسته تتقادم كل الأحوال اليومية للإيزيديين. 

font change

مقالات ذات صلة