قبل الوصول إلى بلدة سنجار، "العاصمة الرمزية" لأبناء الديانة الإيزيدية في العراق، الواقعة في أقصى شمال غربي محافظة نينوى (الموصل)، والتي شهدت واحدة من أفظع جرائم "الإبادة الجماعية" بحق أبناء هذه الديانة، على يد تنظيم "داعش" الإرهابي في صيف عام 2014، حضرت "المجلة" المباراة النهائية لبطولة "رواد غرب نينوى" لكرة القدم، بين فريقي بلدة تلعفر (ذات الأغلبية التركمانية) وبلدة سنوني (ذات الأغلبية الكردية الإيزيدية)، وشاهدت صورة من الحياة المشتركة وأشكال الفرح والمنافسة الإيجابية بين السكان المحليين، المنحدرين من قوميات وأديان وطوائف متعددة، ومعها أشياء أخرى كثيرة مثلها، تشكل في مجموعها ملمحا لعودة الحياة العامة "الطبيعية" إلى تلك المنطقة، لكنها ليس الصورة الكلية في المنطقة بأي شكل.
في الطريق إلى سنجار، مرورا بعدد من القرى والبلدات والتجمعات السكنية "الإيزيدية"، يواجه الزائر عشرات الحواجز الأمنية، بعضها للجيش العراقي وأخرى لفصائل مختلفة من "الحشد الشعبي"، وعلى مسافة غير بعيدة منها حواجز لفصائل "وحدات تحرير شنكال" (YPŞ)، الكردية القريبة من "حزب العمال الكردستاني"، وأخيرة مشتركة بين مختلف تلك الوحدات العسكرية. على جنبات كل واحدة منها فيض من الأعلام الطائفية والسياسية، وصور لقادة وسياسيين ومقاتلين كانوا أعضاء في هذه الأجنحة العسكرية لهذه الجماعات المسلحة.
تتجول "المجلة" في بلدة سنجار، التي تبدو "مُحبَطة"، فاقدة للإحساس بإمكانية عودتها إلى ما كانت عليه، قبل أن تطال "المذبحة الكبرى" سكانها المحليين في صيف 2014. فأكثر من ثلاثة أرباع سُكانها السابقين لم يرجعوا إليها حتى الآن، غالبيتهم ما زالوا يعيشون في عشرات المخيمات في إقليم كردستان، وكثيرون منهم لجأوا إلى كثير من البلدان الغربية، وآلاف منهم ذهبوا ضحايا الجرائم التي طالتهم.
تشكل عائلة "مام جتو"، الذي التقته "المجلة" في بلدة سنجار، نموذجا لما يعيشه الإيزيديون هناك، وفي كامل المنطقة المحيطة بجبل سنجار. فواحدة من بناته قُتلت أثناء تلك الأحداث، وأخرى مع شقيق لها ما زالا مفقودي الأثر حتى الآن، وشقيقان آخران لهما مقيمان في مخيم بإقليم كردستان، فيما لجأت واحدة من بناته إلى أستراليا منذ صيف 2021، وهو يعيش راهنا مع زوجته وأصغر أبنائه في الحي الشمالي للبلدة.
يُخبرنا "مام جتو" كيف أنه تقريبا لم يغادر حدود هذه البلدات والقرى الإيزيدية طوال سنوات عمره، التي تقارب السبعين، ولم يسبق له، أو لأي من أبنائه أن انخرطوا في أية أحزاب أو تنظيمات أو أعمال قد تمس أي شخص أو ديانة أو جماعة أهلية أخرى، وكيف أن تلك الأحداث السريعة حطمت حياتهم فجأة في ساعات قليلة، ولم يتمكنوا حتى الآن من تضميد جراحهم، ولا يملكون أية آمال بعودة الأمور إلى سابق عهدها، طالما لم يحدث شيء خلال السنوات الست الماضية، منذ أن حُررت البلدة وباقي المناطق الإيزيدية من تنظيم "داعش" الإرهابي.
غالبية عظمى من أبناء المناطق الإيزيدية يشبهون "مام جتو"، إذ يعيش راهنا 160 ألف إيزيدي فقط، من أصل قرابة نصف مليون كانوا يقطنون هذه المنطقة خلال السنوات الأخيرة، كما تُشير لوائح الشطب الانتخابية. كما أن بلدة سنجار نفسها، لم يعد إليها إلا أقل من عشرة آلاف شخص من سكانها.
في المشهد العام، تبدو البلدة وكأنها تعيش حياة يومية عادية، لكن التفاصيل تقول عكس ذلك تماما. إذ إن ثمة ثلاث إدارات محلية، متصارعة فيما بينها، وتعتبر كل واحدة منها نفسها "مصدر الشرعية".
المؤسسات المرتبطة بالحكومة المركزية، وتاليا بمركز محافظة نينوى (الموصل)، تعمل بشكل روتيني، خصوصا في القطاعات الصحية والخدمية الاعتيادية، لكن مناصب مثل "القائمقام" و"مدير الناحية"، موجودون في بلدة سيميل بمحافظة دهوك، ضمن إقليم كردستان. فهذه المناصب، وغيرها من المؤسسات المنتخبة، مقربة من "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، وهذا الأخير يعتبر الأوضاع الراهنة في سنجار، ومختلف المناطق الإيزيدية "غير اعتيادية"، وتاليا لا يمكن لهذه المؤسسات الخدمية المنتخبة أن تعمل بحرية واستقلالية عن الميليشيات المسيطرة. وإلى جانب هاتين الإدارتين، ثمة مؤسسات مرتبطة بـ"الإدارة الذاتية لشنكال"، التي أسستها الفصائل المقربة من "حزب العمال الكردستاني".