بجوار الغابة أو داخلها

بجوار الغابة أو داخلها

من فضيلة الغابات أن حياة من يعيش بجوارها أو داخلها تتفرد عن غيرها من الحيوات بأكثر من هبة طبيعية نادرة، لعلّ أعظمها على الإطلاق ثراء كثافات أشجار الأرز الشاهقة، المكتنزة أنهارا وبحيرات تترقرق عند أقدام جبالٍ سامقة، نصفها شبه معلوم ونصفها الآخر مجهول، وأبلغ أثرها أن يعقبها ثراء إنسانيّ وجمالي في مجمل الأحوال.

أولا العيش بجوار الغابة

تترامى القرى والمدن الجبلية المتاخمة للغابات الزاحفة، غابات باسقة مِلْءُ ثرائها أشجارُ بلوط وصنوبر وتنّوب وأرز. كذا وحيشٌ وطيرٌ مِلْءُ أجناسهِ قردة وذئاب وثعالب وخنازير وضباع وبنات آوى ونموس وشياهم وأوشاق وأرانب وقنافذ وسلاحف وقس على ذلك من سلالة ذوات الناب وطرائدها، ثمّ نسور وصقور وعقبان وحجل ويمام وسمان وخلنج وبوم وقس على ذلك من سلالة مملكة الريش. فضلا عما تترف به أغوار أنهار وبحيرات من أسماك مستغرقة في عزلة قيعان منسية، زناجير وبيرش وغاردون وشابل وأزرق وبوقة وبوري وشبوط وأنقليس وسلمون وقس على ذلك من أصناف مملكة ذوات الحراشف المنذورة لألغاز الماء.

في جوار غابة أرز سامقة، يبدو المشهد سينمائيّا، إذ البصيرة منذورة للخضرة المعسكرة في التخوم، وفي المسافة بينها وبين البلدة تتضح الرؤية أكثر، فبمقدار تباين المسافة تفصح الأشياء عن نفسها.

تغدو الغابة صديقة جبّارة، لاحدود للتعلّم من مفازة متاخمتها باستمرار، إذ هي مصدر رعب وطمأنينة في آن، مصدر غرابة لانهائية لا يستهلكها مألوف الاعتياد، مصدر افتتان يستدرج اليقظة والوعي والحلم في آن إلى لانهائية الأعماق، هناك في الدنو من قلب المتاهة حيث يسكن ما هو جوهري غامض.

في جوار غابة أرز داغلة، لا نجابه تحولات الجمال مشحوذة في قلق الطبيعة العاتي وحسب، بل نعيشها أيضا، وفق متغيرات سيرة النباتات، والوحيش، في مهبّ مدار الفصول.

في هذا الجوار الرهيب، الصمت هو فيلسوف الموسيقى، إليه يرتهن الشعر واحتكاما إليه يشحذ الفكر برقه كيما يخترق طبقات غسق الوجود موغلا بجسارة في منحى اكتشاف معادن الأشياء الخفية، كيما يضيء الوجه الآخر للمعنى.

في هذا الجوار الرهيب، الصمت هو فيلسوف الموسيقى، إليه يرتهن الشعر واحتكاما إليه يشحذ الفكر برقه


في هذا الجوار المهيب، الغابة ليست محض عالم مبهم موازٍ، بإمكان الانسان ترويضه وتقويضه واستنزافه، ليست محض كثافات نباتية زاخمة تنتصب كخلفية خضراء يجمّل بها البشريّ قبح يومه، أو يلطّف من رتابة زمنه، بل هي متاهة تتخطّى بغموضها حدود وعينا الشقي، تنطوي على أسرارها الفاتنة، تستقلّ بألغازها المحيّرة، تمتنع على اختزالها في مزهرية.

في هذا الجوار المريب، الغابة هي أم النصوص الممتنعة على التكثيف والمحاكاة، هي أم الأشكال المحلوم باستعارة هندستها فنّيا في رواية أو قصيدة أو فيلم سينمائي أو معمار مدينة. هي أمُّ سحريةِ الاشتباكات الملهمة لخوارزميات العلوم وجذمورية العوالم الرقمية سريعة التشعّب باستفحال خارق.

ثانيا العيش داخل الغابة

لا يجازف بالعيش داخل الغابة من الكتاب إلا أصدقاء كأس العزلة المتشربين له حدّ ثمالة الوحدة. وفي ضراوة العزلة هذه، أو جسارة الوحدة بالأحرى، يتحرّر كائن الغابة هذا من الحُجب المتفاقمة بينه وبين ذاته، منتصرا لحكمة الطبيعة الوحشية التي تبعده عن زيف ما تراكم على وجهه من أقنعة، فيما تقربه من حقيقته العارية.

في الصمت يصيخ السمع لهسيس بركانه الداخلي، يصغي لموسيقى دمه، لا شيء يحول بينه وبين أسئلته الخلاقة اللاهبة، كلّ ما في هامشه المظفر هذا يحرضه على أن يتماهى مع جذرية فكره، وأن يتناغم جسده الخائض في حياة الغابة كفلاح أرصٍ فاتنة تدهشه باستمرار، مع مخيلته الخائضة في شؤون العالم الصاخب.

هنا الغابة ليست ملاذا لاعتزال العالم، ولا منفى لاعتزال الفن والكتابة، ولا مهربا لاعتزال الناس والغوغاء، بل هي ملاذ للتفكير في العالم على نحو أخطر وأبدع، ومنفى لإعادة النظر كليا فيما يكونه الفن والكتابة، أو ما ينبغي أن يكوناه على نحو أعمق وأجمل، ومهرب لإحداث المسافة مع الآخرين، مع الأشياء، كيما تتسع الرؤية على نحو أصدق وأنقى، أقل خداعا، وأكثر وضوحا.

ثالثا الغابة التي تعيش بجوارنا أو في داخلنا

قد لا نحتاج إلى العيش بجوار غابة كيما يتحقق ما سلف أن عدّدناه من فضائل. كما لا نحتاج العيش في داخل غابة كيما يتحقق ما سلف أن عدّدناه من مفازات. إذ يمكن للغابة أن تكون محض مجاز، سواء كنا نعيش في قلب مدينة طاعنة في نشاز الصخب، أو كنا نعيش في صحراء. بإمكان الغابة أن تكون متخيلة، غير مرئيّة. لكلّ غابته الخاصّة به، تعيش في داخله، تنتقل معه أينما ارتحل وحلّ، إذ هي استعارة يشكلّها الواحد منّا وفق أسلوب وجوده، طريقة تفكيره، نوعية ذائقته، خصوصية إبداعه، غابة سواء توهم أنه من صنعها أو هي صنعته، يمكن تلمّس خرائطيتها في نمط لغته، نزوع كتابته، نسق أفكاره، أطياف لباسه وفن مطبخه...

هذه الغابة المتخيلة، سيّان في الجوار تنتصب أو  في الداخل، لا بدّ من اكتشافها كيما نكتشف حقيقة صاحبها إذ هي ما يحيل عليه، أو هي الدليل السري إلى فرضية ما يكونه.

بهذا المعنى المترنّح، هل الغابة ما يخفي أم ما يكشف؟ هل الغابة ما يحجب أم ما يعرّي؟

الأرجح أن رجع الصدى المنفطر عن السؤال المفارق أعلاه، يفصح وفق ما أزعم:

تخفي الغابة بقدر ما تكشف، تحجب الغابة بقدر ما تعرّي.

font change