فرنسا في عين "عاصفة الانتخابات"

هل تنتقل من أزمة سياسية إلى أزمة نظام؟

رويترز
رويترز
أشخاص يسيرون خلف ملصقات انتخابية، في منطقة هينان بومون بفرنسا في 29 يونيو

فرنسا في عين "عاصفة الانتخابات"

يتوجه الفرنسيون إلى صناديق الاقتراع اليوم الأحد لانتخاب نوابهم الـ577 في جولة أولى تليها جولة ثانية في 7 يوليو/تموز المقبل، وذلك في انتخابات مبكرة بعدما حل الرئيس إيمانويل ماكرون البرلمان في 9 يونيو/حزيران الجاري عقب صدور نتائج الانتخابات الأوروبية وحصول حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف على أعلى نسبة من الأصوات فيها. وتحصل هذه الانتخابات في ظل أجواء من الاحتقان السياسي والاجتماعي تكاد تكون غير مسبوقة في أي انتخابات فرنسية منذ بدء "الجمهورية الخامسة" في عام 1958.

وترجح استطلاعات الرأي فوز حزب "التجمع الوطني" المتحالف مع جناح إريك سيوتي من حزب "الجمهوريين" بنحو 36 في المئة من الأصوات، تليه كتلة "الجبهة الشعبية الجديدة" المكونة من أربعة أحزاب يسارية بنحو 29 في المئة من الأصوات، وفي المركز الثالث يأتي "معسكر الرئيس" بنحو 19.5 في المئة من الأصوات.

لكن السؤال الرئيس في هذه الانتخابات ليس عن نتائجها التي باتت شبه معروفة إن لم تحصل مفاجآت غير متوقعة، بل إن السؤال الأساسي والأكثر إلحاحا الآن عن مرحلة ما بعد الانتخابات، في ظل عدم تمكن أي كتلة من الكتل الثلاث المتنافسة من الحصول على غالبية حاكمة (289 مقعدا) تخولها تشكيل حكومة تحظى بثقة البرلمان. وهذا في وقت يصعب على كثير من المحللين تصور أي إمكانية لبناء تحالفات سياسية بعد الانتخابات بالنظر إلى حالة العداء و"الشيطنة" المتبادلة بين الكتل المتنافسة، وبالأخص بين "الجبهة الشعبية" و"التجمع الوطني"، علما أنه من المرجح أن يكون الرئيس إيمانويل ماكرون مستعدا للدخول في "مساكنة" مع "التجمع الوطني" برئاسة غوردن بارديلا (28 عاما) أكثر منه مع تحالف اليسار الذي يرجح البعض أن لا يصمد كثيرا بعد الانتخابات، وهو أمر يستفيد منه معسكر الرئيس باعتبار أن جزءا من نواب اليسار سيميل إليه.

فوارق أساسية

بالتالي فإن هذه الانتخابات لا تحصل وحسب في مناخ من التوتر والاستقطاب السياسي الحاد بل أيضا في ظل حالة من عدم اليقين في ما يخص المرحلة المقبلة في "فرنسا الخائفة"، كما أصبح بعض النخب الفرنسيين يصفون بلادهم، وهذا يعدّ أحد الفوارق الرئيسة التي تميز هذه الانتخابات عن سابقاتها في "الجمهورية الخامسة"، لكنه ليس الفارق الوحيد بطبيعة الحال. فأحد الفوارق المهمة عن انتخابات عام 1958، أن الجنرال شارل ديغول عندما حل البرلمان في ذلك العام كان دافعه أن الذهاب إلى الانتخابات سيكون مرادفا للتهدئة بعد "الحرب الأهلية" التي شهدتها فرنسا وقتذاك بسبب الانقسام حول "المسألة الجزائرية". أما الآن فما يحصل هو العكس تماما، بحسب المؤرخ ميشال وينوك، لأن الانتخابات قد تخلق الفوضى بدلا من "السلم الاجتماعي".

بارديلا "النجم الصاعد" في السياسة الفرنسية يدين بجزء من "نجوميته" للظهور "الاستعراضي" على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالأخص "تيك توك"

فارق آخر وأساسي عن الانتخابات السابقة يتعلق بصعود اليمين المتطرف ووقوفه على عتبة السلطة للمرة الأولى في تاريخ "الجمهورية الخامسة". لكن الفارق هنا لا يكمن في هذا الصعود بحد ذاته- أخذا في الحسبان أن اليمين المتطرف شهد صعودا تدريجيا خلال العقدين الماضيين خصوصا في الانتخابات الرئاسية عام 2002 والمحلية عام 2014 ثم الرئاسية عامي 2017 و2022 في الانتخابات- بل بالتحول الذي يتمثل بالانتقال من الرفض والتحشيد السياسي والاجتماعي والإعلامي لصدّ اليمين المتطرف ومنعه من الوصول إلى السلطة، إلى القبول في السنوات الأخيرة بوصوله والتأقلم معه وكأنه "أمر عادي" من جهة، ومن جهة ثانية رواج مقولة "دعونا نجربه".
ومن الأسباب المهمة لهذا التحول في مقاربة المجتمع لليمين المتطرف هو التحول الجذري في التعاطي الإعلامي معه، إذ أصبح ناشطوه يحظون بظهور إعلامي "فوق العادة" وفي مقدمتهم بارديلا، وذلك من قبل وسائل إعلام رئيسة في البلاد مجندة لهم كراديو "أوروبا-1" وتلفزيون "سي نيوز" المملوكين لرجل الأعمال فانسان بولوري. ويترافق هذا الظهور الإعلامي المكثف لشخصيات اليمين المتطرف مع حملات إعلامية ممنهجة لـ"تنقية" صورة هذا اليمين و"التطبيع" مع طروحاته الراديكالية، وهو ما ينعكس في الشارع الفرنسي "تطبيعا" مع هذه الطروحات أيضا، الأمر الذي أدى تدريجيا إلى زعزعة قواعد الصد الاجتماعي في وجهه، فبعدما كان ناخبوه يخفون نوعا ما تصويتهم له أصبحوا الآن يجاهرون به.
والجدير ذكره أن بارديلا "النجم الصاعد" في السياسة الفرنسية يدين بجزء من "نجوميته" للظهور "الاستعراضي" على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالأخص "تيك توك" حيث يتابعه 1.7 مليون شخص، وهو ما مكّنه من اجتذاب شريحة واسعة من الشباب الفرنسي (بين 18 و34 سنة)، إذ تظهر استطلاعات الرأي أن 32 في المئة من هذه الفئة العمرية تؤيده، وهو ما يعد تحولاً سوسيولوجياً في القاعدة الانتخابية لليمين المتطرف.

شكّل إعلان "الجبهة الشعبية الجديدة" مفاجأة غير سارة لمعسكر الرئيس الذي لم يتردد بعض وجوهه في التعبير عن سخطهم من اليسار التقليدي المتحالف مع حزب "فرنسا غير الخاضعة"

وبالعودة إلى عام 2002، فإن وصول رئيس حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف جان ماري لوبان إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية، أطلق سريعا الكثير من المظاهرات ضد اليمين المتطرف، إذ شهدت البلاد تعبئة سياسية واجتماعية استثنائية رغم اليقين بأن لوبان لن يتمكن من الوصول إلى قصر الإليزيه، لكن هذا الحاجز الاجتماعي والسياسي والإعلامي أمام وصول اليمين المتطرف إلى السلطة سقط الآن كما ذكر سابقا. وهذا مع العلم أن بعض إجراءات الرئيس إيمانويل ماكرون السياسية والاجتماعية منذ انتخابه لولاية أولى عام 2017- أهمها القانون "ضد النزعة الانفصالية" الذي أقر في 4 أغسطس/آب 2021، وقانون الهجرة الذي أقر في 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي- ساهمت في خلق مناخ مواتٍ لصعود اليمين المتطرف. إذ يعتقد على نطاق واسع في فرنسا أن ماكرون تماهي إلى حد بعيد مع توجهات اليمين المتطرف في ما يخص هذين القانونين، فيما يتعهد "التجمع الوطني"، كما هو معلوم، باتخاذ إجراءات أكثر تشددا ضد المهاجرين، وبالأخص العرب المسلمين، مع العلم أن زعيم "التجمع الوطني" هو مهاجر من أصل إيطالي. حتى إنه بات يقال على نطاق واسع في فرنسا إن "سياسات ماكرون هي سياسات اليمين المتطرف ما عدا تلك المتعلقة بالعرب"، لكن البعض يشكك حتى في هذه المقولة باعتبار أن ماكرون "استخدم العلمانية ضد الإسلام". كما يعتقد محللون فرنسيون أن فهم الرئيس الفرنسي لـ"النظام العام" يميل إلى اليمين بل إلى اليمين المحافظ أكثر منه إلى اليسار.

أ ف ب
مواطنون فرنسيون يصوتون في مركز "مونت رويال" خلال الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية، في مونتريال، كندا، 29 يونيو

كذلك فإن السياسات الاقتصادية للرئيس الفرنسي والتي صنفت على أنها صديقة لرأس المال في ما يخص خفض الضرائب التجارية، والضرائب على الثروة، و"إصلاح" نظام التقاعد، دفعت اليمين المتطرف إلى مخاطبة الفئات المتضررة من خلال تقديم الوعود لها بتحسين القدرة الشرائية، وإعادة فرض ضرائب جديدة على الثروة، وخفض ضريبة القيمة المضافة على فواتير الطاقة والوقود. 
لكن بعض المحللين يتهم "التجمع الوطني" بأنه يدأب على تقديم وعود وهمية للناخبين، باعتبار أنه لا يطرح بدائل لتمويل الإنفاق الإضافي الذي يعد به الفرنسيين، فيما تعاني فرنسا من عجز سنوي في الميزانية بنسبة 5 في المئة كما يعادل حجم دينها العام نحو 110 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. لكن في المقابل، ثمة قراءة متفائلة لإجراءات ماكرون الاقتصادية، إذ نشرت مجلة "الإيكونوميست" مقالا يوم 27 يونيو/حزيران الجاري جاء فيه أن "الرئيس الفرنسي بذل جهوداً متواصلة لإعادة تشكيل فرنسا باعتبارها اقتصادا حديثا صديقا للأعمال التجارية. كما قام بإصلاح التوظيف لتشجيع أرباب العمل على التعامل مع العمال. ومنذ انتقاله إلى الإليزيه في عام 2017، تم خلق مليوني وظيفة وإنشاء أكثر من 6 ملايين شركة".

السؤال اللغز

منذ 9 يونيو الجاري، لا ينفك يطرح سؤال أساسي في فرنسا حول سبب حل الرئيس ماكرون للبرلمان في لحظة هي الأسوأ بالنسبة لمعسكره والأفضل بالنسبة لليمين المتطرف. فهناك قراءة تقول إن ماكرون أراد من خلال قراره بحل البرلمان والذي وصف بـ"الزلزال" وصول اليمين المتطرف إلى الحكم، مراهنا على فشله خلال السنوات الثلاث الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية عام 2027، وهو ما سيتيح لمرشح "الماكرونية" طرح نفسه كبديل ضروري ووحيد لليمين المتطرف على أساس إعادة سيناريو الانتخابات الرئاسية عامي 2017 و2022، خصوصا أن ماكرون كان يراهن على عدم قدرة اليسار على التوحد في جبهة واحدة خلال الأسابيع الثلاثة الفاصلة عن موعد الانتخابات. 
ولذلك شكّل إعلان "الجبهة الشعبية الجديدة" مفاجأة غير سارة لمعسكر الرئيس الذي لم يتردد بعض وجوهه في التعبير عبر الإعلام عن سخطهم من اليسار التقليدي المتحالف مع حزب "فرنسا غير الخاضعة" الذي يصنفه هذا المعسكر بأنه يسار متطرف، علما أن وزارة الداخلية الفرنسية لا تصنفه كأحد أحزاب اليسار. 
كما يشن الماكرونيون ومعهم كل الطيف اليميني الفرنسي حملة شعواء ضد "فرنسا غير الخاضعة"- وتحديدا رئيسه جان لوك ميلينشون الذي تحوّل إلى "شيطان الجمهورية"- إذ يتهمونه بمعاداة السامية لكونه يقدم خطابا داعما للفلسطينيين وبالأخص لأنه اعتبر أن إسرائيل هي المسؤولة الرئيسة عن هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. علما أن مجموعة من المؤرخين والمفكرين الفرنسيين وبينهم يهود رفضوا الحجج المقدمة لاتهام "فرنسا غير الخاضعة" بـ"معاداة السامية" لمجرد انتقاده إسرائيل.

ثمة من يرى أن الرئيس الذي يوصف بـ"مهندس الفوضى" والذي يطرح شعار "أنا أو الفوضى، أنا أو التطرف"، اتخذ قرار حلّ البرلمان بدفع من حسابات سلطوية

هذا مع العلم أن اليمين المتطرف معروف تاريخيا بـ"معاداة السامية"، وللمفارقة أصبح الآن يقدم نفسه بوصفه المدافع الأول عن اليهود. ومع العلم أيضا أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة هي عنوان استقطاب رئيس الآن في السياسة والشارع الفرنسيين، حتى أكثر من الحرب الروسية على أوكرانيا.
بين هاتين القراءتين هناك من يرى، مثل الصحافي مارك أنديولد الذي كتب كتبا عدة حول ماكرون وصعوده السياسي، أن الرئيس الذي يصفه بـ"مهندس الفوضى" والذي يطرح شعار "أنا أو الفوضى، أنا أو التطرف"، اتخذ قراره بدفع من حسابات سلطوية، إذ إن الدخول إلى عقل ماكرون يحتم، بحسب أنديولد، الربط بين قراره هذا و"شهيته الشرسة للسلطة"، إذ إن هدفه الأول لطالما كان تحصين حكمه وإدامته، كما أنه لا يمكن إغفال رغبته في الترشح لولاية رئاسية ثالثة عام 2032، باعتبار أن الدستور لا يتيح له أكثر من ولايتين رئاسيتين متتاليتين.

رويترز
قوائم انتخابية على طاولة داخل قاعة في المنطقة الثامنة عشرة بباريس، 28 يونيو

ويشير أندويلد إلى أن قرار حل البرلمان موجود على طاولة ماكرون منذ يونيو 2022، أي بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة والتي لم يحصل فيها المعسكر الرئاسي على غالبية حاكمة، ولكنه لم يلجأ إليه إلا بعد الانتخابات الأوروبية. كذلك فإن الإعلام الفرنسي قد تداول على نطاق واسع كيف اتخذ ماكرون قرار حل البرلمان لوحده ولم يُعلم به إلا عددا قليلا من معاونيه، ليس من بينهم رئيس الحكومة غبريال عطال (أتال) الذي يقود الآن حملة المعسكر الرئاسي في الانتخابات الحالية.
والحال فإن السؤال عن أسباب حل ماكرون للبرلمان سيبقى مفتوحا ومحيرا ومن دون إجابات حاسمة، مع أن أنديولد يعتبر أن حل البرلمان هو في الوقت عينه حل للماكرونية نفسها، وهو ما ذهب إليه الرئيس الفرنسي السابق والمرشح عن "الجبهة الشعبية" في الانتخابات الحالية فرنسوا هولاند بقوله مؤخرا إن "الماكرونية قد انتهت".

مقارنات "مخيفة"

ما يجدر التوقف عنده أيضا أن التغطية الإعلامية للسباق الانتخابي تعج بالمقارنات "المخيفة" التي يجريها عدد من المؤرخين والخبراء الدستوريين بين حقبة صعود الفاشية واليمين المتطرف في كل من إيطاليا وألمانيا في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وصعودهما الآن خصوصا في فرنسا. ففي إيطاليا اختار الليبراليون الفاشيين بدلا من الاشتراكيين والشيوعيين المنظور إليهم على أنهم تهديد، ما أوصل موسوليني رئيس "الحزب الفاشي" إلى الحكم عام 1922. وكذلك اختار الليبراليون الألمان اليمين المتطرف لمنع الشيوعيين من الفوز بالسلطة وهو ما أدى إلى استلام النازيين الحكم عام 1932. وهذا أمر يعتقد كثير من المحللين والخبراء الفرنسيين أنه سيتكرر في فرنسا الآن باعتبار أن "ائتلاف الوسط" الذي يتزعمه حزب الرئيس ماكرون "النهضة" يفتح الطرق أمام وصول اليمين المتطرف إلى الحكم لأول مرة في تاريخ "الجمهورية الخامسة"، كما ذكر أعلاه.
مع العلم أن ماكرون كان يصنف في بداية صعوده السياسي على أنه من اليسار الليبرالي أو الليبرالية الأنغلو-أميركية لكنه أصبح يصنف لاحقا من قبل طيف واسع من الوسط السياسي والفكري والإعلامي الفرنسي بأنه يجنح نحو النيوليبرالية اقتصاديا، أخذا في الاعتبار سعيه لتقليص أدوار "الدولة الاجتماعية" وتقديم مصالح رأس المال، ونحو "السلطوية" سياسيا من خلال محاولته تطبيق "قراءة خاصة" للنظام السياسي الفرنسي المصنف نصف رئاسي، على قاعدة أن انتخابه مباشرة من الشعب يضع بين يديه "كل السلطة"... وهو ما يفتح النقاش والسجال في فرنسا على أسئلة ومحاذير كثيرة حول مستقبل "الجمهورية الخامسة"، وصولا حتى إلى بداية السؤال عما إذا كانت تلك الجمهورية قد استنفدت قدرتها على الاستمرار، خصوصا في ظل الأزمة السياسية التي تلوح في الأفق بعد الانتخابات والتي قد تتحول إلى أزمة نظام، في ظل عدم حصول أي كتلة على الغالبية وصعوبة التحالفات و"المساكنة" بما يرجّح الوصول إلى "برلمان معلق وحكومة مشلولة"، وهو ما يدفع بعض النخب الفرنسيين للسؤال مجددا وبإلحاح أكثر من السابق عما إذا كانت فرنسا في طريقها حتما إلى "الجمهورية السادسة"، وما إذا كان الأمر قد أصبح مسألة وقت وحسب.

font change

مقالات ذات صلة