فرنسا في مواجهة المجهول الاقتصادي والسياسي

ديون البلاد تجاوزت تريليون يورو... ونحو200 مليار يورو خرجت من السوق منذ إعلان حل البرلمان

Shutterstock
Shutterstock
الاقتصاد الفرنسي يشهد انخفاضا حادا

فرنسا في مواجهة المجهول الاقتصادي والسياسي

عشية الانتخابات البرلمانية الفرنسية الحاسمة بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، وجهت اللجنة الأوروبية رسائل تحذير إلى باريس و6 دول أوروبية أخرى، يتجاوز عجز الموازنة فيها سقف ثلاثة في المئة، وهو ما تعتبره خرقا للميثاق الأوروبي للاستقرار والنمو، وعدم التزام القواعد المالية العمومية لعام 2012. ويحض الاتحاد الأوروبي هذه الدول على معالجة الخلل في أوضاعها المالية في أفق 2027، تحت طائلة عقوبات مالية جزائية، بعدما اقترب الاقتصاد من مرحلة الخطر، وأصبحت المديونية تهدد بكارثة مالية وسيادية تشبه ما حصل في اليونان قبل عشر سنوات.

تأتي فرنسا في مقدم الدول الأوروبية المهددة بعقوبات كجزء من إجراءات العجز المفرط ( procédure pour déficit excessif)، بعدما بلغ العجز في الموازنة 5,5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي السنة الجارية، وتجاوزت المديونية العمومية 112 في المئة من الناتج. وقالت اللجنة الأوروبية إن المديونية الفرنسية مرشحة لأن تقترب من 140 في المئة بحلول عام 2034، وهي أخطار عالية في ثاني أكبر اقتصاد داخل الاتحاد الأوروبي، قد يكون لها تأثير سلبي واسع النطاق داخل منطقة اليورو، والبحر الأبيض المتوسط، وشمال أفريقيا، حيث تنتشر جالية كبيرة تتجاوز 12 في المئة من مجموع سكان فرنسا.

شعبوية وواقع سياسي متردٍّ

تقول بروكسيل إنه يجب على باريس وبقية الدول المعنية، تقديم خطاب نيات تفصيلي إلى اللجنة الأوروبية في بروكسيل قبل 20 سبتمبر/أيلول المقبل، يتضمن برامج الإصلاحات التي تعتزم الحكومات والبرلمانات إدخالها على مشاريع القوانين المالية للسنوات الثلاث المقبلة 2025-2027.

الاقتصاد الفرنسي تجاوز عدم التوازن ودخل مرحلة عدم اليقين لأسباب عدة، منها أخطار النزاعات الجيوسياسية الخارجية والقلاقل الاجتماعية والتشرذم السياسي الداخلي

صندوق النقد الدولي

ويبدو الأمر صعبا جدا وربما مستحيلا، في ظل أجواء الانتخابات الفرنسية الحالية الحادة، وما قد تفرزه من غالبية جديدة متطرفة، لا تتوافق برامجها وتوجهاتها مع  إجراءات الحكومة المنتهية ولايتها، والتي كانت تنوي خفض العجز إلى 4 في المئة  خلال أربع سنوات، وفق التزام مع صندوق النقد الدولي في مايو/أيار الماضي.

المفارقة، أن الوعود الانتخابية تحمل كثيرا من الشعبوية الاقتصادية والمالية التي ستزيد تأزيم الأوضاع، كون بعض مواقف أحزاب التجمع الوطني والجبهة الشعبية الجديدة، تتعارض تماما مع  بعض القوانين والأنظمة الاحترازية الأوروبية، وهي تدعو في كثير من الشوفينية إلى مزيد من السيادة القومية، والهوية الفرنسية المتميزة (خصوصا اليمين المتطرف)، مما قد يدخل البلاد في نفق مظلم سيزيد تفككها الاجتماعي، وانهيارها الاقتصادي، ويعمق خلافاتها مع جيرانها الأوروبيين والمغاربيين، وحتى مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، ومجموعة العشرين، وبقية العالم>

.أ.ب
رئيس حزب التجمع الوطني اليميني جوردان بارديلا مع زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبان، بعد مؤتمر صحافي في 24 يونيو 2024

  تحذيرات المؤسسات المالية الدولية

يحذر صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير عن الاقتصاد الفرنسي بعد المراجعة السنوية في شهر مايو/أيار2024 من إن "الاقتصاد الفرنسي تجاوز عدم التوازن ودخل مرحلة عدم اليقين لأسباب عدة، منها  أخطار النزاعات الجيوسياسية الخارجية والقلاقل الاجتماعية والتشرذم السياسي الداخلي، الذي من شأنه تأخير التوازنات المالية وتعطيل الإصلاحات، مما قد يؤثر على ثقة المتعاملين، والآفاق الاقتصادية". أهم ما تطالب به المؤسسات المالية الدولية فرنسا هو تقليص حجم المديونية وتحديث الاقتصاد، وهي ترى في النموذج الحالي نسخة غير صالحة لتطوير الاقتصاد الفرنسي.

إذا فاز حزب متطرف وأضيفت تكلفة نفقات اجتماعية، وإعفاءات ضريبية جديدة، وتوقفت الإصلاحات الاقتصادية، فإن حدوث انفجار في المالية العامة سيكون امرا لا مفر منه

وعلى الرغم من الخلافات والقطيعة والتصادم، يتفق أقصى اليمين وأقصى اليسار على أن فرنسا هي الدولة الفقيرة بين الأغنياء والضعيفة بين الأقوياء. وهما معا يتهمان الرئيس إيمانويل ماكرون بإغراق البلاد بالديون، حيث تجاوزت القروض الجديدة تريليون يورو في سبع سنوات من ولايته في الحكم، في وقت زاد عدد الفقراء والمهمشين بالملايين.

القادم أصعب

يعتقد صندوق النقد الدولي أن في إمكان باريس تقليص عجز الموازنة إلى 4,5 في المئة في عام 2027، إذا تواصلت برامج الإصلاحات، وخفض النفقات غير الضرورية، ضمن سيناريو عدم تغيير في التوجهات السياسية والاختيارات الاقتصادية. في هذه الحالة سترتفع المديونية بنقطة ونصف نقطة مؤية سنويا من الناتج المحلي الإجمالي، مما يعرض الموازنة الفرنسية إلى  أخطار تنامي عبء المديونية، وارتفاع النفقات العمومية، وتكلفة الأزمات الدولية، والتغيرات المناخية، والانتقال الطاقي إلى الاقتصاد غير الكربوني. هذا السيناريو يبدو أقل تشاؤما من القادم، لأنه إذا صعد أي حزب متطرف وتمت إضافة تكلفة نفقات اجتماعية، وإعفاءات ضريبية جديدة، وتوقف مسلسل الإصلاحات الاقتصادية، فإن حدوث انفجار في المالية العامة سيكون امراً لا مفر منه. وهو السيناريو الذي يستعد له صندوق النقد الدولي، لوضع برنامج تقويم هيكلي على مقاس فرنسا، على غرار ما حصل مع اليونان والبرتغال ودول أخرى في أفريقيا وأميركا اللاتينية. 

ثلاثة سيناريوهات مريرة

هل تخرج فرنسا من دائرة الكبار وتصبح أمة ضعيفة مهزومة ومعزولة؟ هذا السؤال طرحته  صحيفة "لوبوان" ( Le point)  المقربة من الرئيس إيمانويل ماكرون، عشية الانتخابات البرلمانية المرجح أن يفوز فيها التجمع الوطني المتطرف (30 يونيو/حزيران إلى 7 يوليو/تموز) الذي حصل على ثقة 32 في المئة من مجموع المقترعين في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، وبلغت النسبة 42 في المئة في مناطق وبلدات انتشار الجاليات المغاربية والمسلمة، في الجنوب والشمال والوسط.

غياب الغالبية المطلوبة في البرلمان لتشكيل الحكومة يدخل فرنسا في أزمة سياسية ودستورية عميقة، تحد من صلاحيات الرئيس، وتعطل الإصلاحات وتعمق الخلافات

كل السيناريوهات تشير إلى دخول باريس ثلاثة سيناريوهات مطروحة:

 الأول، حصول حزب ماري لوبين على الغالبية المطلقة، وترشيح جوردان بارديلا ليكون أصغر رئيس حكومة يمينية متطرفة في فرنسا.

الثاني، فوز الجبهة الشعبية الجديدة بقيادة فرنسا الأبية بغالبية المقاعد، واختيار جان لوك ميلنشون لقصر ماتينيون، وهما أمران أحلاهما مر، لان التعايش بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة سيكون صعبا للغاية. 

الثالث، غياب الغالبية المطلوبة في البرلمان لتشكيل الحكومة (289 نائبا) ودخول فرنسا في أزمة سياسية ودستورية عميقة، تحد من صلاحيات الرئيس، وتعطل الإصلاحات، وتعمق الخلافات، وتهدد بقاء الجمهورية الفرنسية الخامسة، التي تأسست مع الجنرال ديغول عام 1958.

طرد المهاجرين

توقعت صحيفة الـ"واشنطن بوست" فترة عدم استقرار طويلة، ترافقها صعوبات اقتصادية واجتماعية، وحتى تصادمات في الشارع، تهدد المجتمع الفرنسي برمته، بعدما هدد جان فيليب تانغي بطرد المهاجرين المخالفين للقوانين الفرنسية، وإيقاف التحويلات المالية نحو الدول التي ترفض استعادة مهاجريها المتسللين، وإسقاط حق الأرض (الميلاد - Droit de Sol)، وتقليص المساعدات الاجتماعية ومراجعة قوانين الهجرة واللجوء، ومحاربة معاداة السامية، وإغلاق المساجد المتطرفة، بحسب قوله.

إقرأ أيضا: فرنسا تخسر دورها في فلسطين... وتتمسك بلبنان

يقدر العجز في موازنة 2024 بنحو 144 مليار يورو، بينما تحتاج الموازنة العامة إلى موارد لا تقل عن 300 مليار يورو في السنة الجارية، مما يجعلها في حاجة إلى الاقتراض

ولأجل استمالة جمهور الشباب الفرنسي وحثه على كراهية الأجانب، وعد  التجمع الوطني بإدخال تعديلات على قانون المالية الحالي، وتقليص الضريبة على المحروقات والغاز، وإعفاء من هم دون الـ30 سنة من دفع الضرائب، ومعاودة النظر في قانون التقاعد لمن عمل قبل عشرين سنة من عمره، وخفض القيمة المضافة على الكهرباء والغاز والبنزين. وتشمل الوعود الانتخابية، تعليق العمل ببعض القوانين والأنظمة الأوروبية، والتدقيق في المالية والصفقات العمومية، ومنح تحفيزات للشركات الفرنسية دون غيرها، تحت شعار "فرنسا أولا". وتقدر التكلفة الإضافية على الأعباء المالية الحالية نحو 100 مليار يورو لكل من الغريمين أقصى اليمين وأقصى اليسار. 

اقتصاد نحو المجهول

يقول أوليفييه بلانشارد، أستاذ في جامعة ماساتشوستس للتكنولوجيا، الحائز  جائزة نوبل، وخبير سابق لدى صندوق النقد الدولي، إنه "إذا تم تطبيق وعود البرامج السياسية التي قُدمت أمام الناخبين، فإن عجز الموازنة الفرنسية سيصل الى معدلات مخيفة، بعد تسجيل عجز بلغ 5,5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مما قد يفجر المديونية، ويجعلها  تستنزف الموارد الضريبة، ويزيد تكلفة التسديد والاقتراض، ويعطل النمو".

.أ.ف.ب

ويقدر العجز في موازنة 2024 بنحو 144 مليار يورو، بينما تحتاج الموازنة العامة إلى موارد لا تقل عن 300 مليار يورو السنة الجارية، مما يجعلها في حاجة إلى الاقتراض من مصادر مالية مختلفة، داخل الفضاء الأوروبي وفي الأسواق المالية الدولية الأخرى. وتصدر الخزانة الفرنسية تباعا سندات يوروبوندز (استحقاق متوسط وطويل الأجل) بقيمة 285 مليار يورو في الأسواق المالية.

نحو 200 مليار يورو خرجت من السوق الفرنسية منذ إعلان حل البرلمان، واحتمال وصول اليمين المتطرف إلى الحكم

صحيفة "les Echos" الاقتصادية

تشهد بورصة باريس عمليات بيع كثيفة للأسهم بحسب يان أزويلوس، كبير المتعاملين في البورصة الفرنسية. وقالت المصادر إن مستثمرين من دول مختلفة، تحولوا إلى أسواق مالية أخرى خصوصا في لندن وفرنكفورت.

خفض التصنيف الائتماني للدين الفرنسي

وذكرت صحيفة "les Echos" الاقتصادية "أن نحو 200 مليار يورو خرجت من السوق الفرنسية منذ إعلان حل البرلمان، واحتمال وصول اليمين المتطرف إلى الحكم". وساهم خفض التصنيف الائتماني للدين الفرنسي من قبل وكالة "ستندارد أند بورز"، في بعث رسالة تحذير إلى عالم المال والأعمال، بكون البلد يسير في الطريق الخطأ. ففي سبع سنوات زادت المديونية الفرنسية أكثر من تريليون يورو وهو رقم خيالي يمثل أكثر من ثلث الناتج المحلي الإجمالي الذي تراجع منذ أزمة "كوفيد-19"، وساهم في تدني القدرة الشرائية، حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية 20 في المئة وزادت تكلفة التدفئة والغاز والكهرباء 42 في المئة وبات عشرة ملايين فرنسي تحت عتبة الفقر.

font change

مقالات ذات صلة