الحرب وتداعياتها... ما يحصل في إسرائيل بعيدا عن الأوهامhttps://www.majalla.com/node/319986/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%88%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D9%85%D8%A7-%D9%8A%D8%AD%D8%B5%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D8%A8%D8%B9%D9%8A%D8%AF%D8%A7-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%87%D8%A7%D9%85
حيفا- ترافق تطور الشأن الفلسطيني وفهمه تاريخيا مع كثير من محاولات الفهم للماضي وتفحص الوضع الراهن وتصور المستقبل. وكان دائما موضوعا للخلاف وللجدال. فتكاد لا تخلو أي مرحلة أو حدث مؤثر في التاريخ الفلسطيني إلا وهنالك خلاف حولها. ودائما ما تنسج التصورات بناء على انتماءات أيديولوجية أو سياسية أو رغائبية قد تكون بعيدة عن الواقع. وهذا صحيح في الماضي وحاليا، في سياق الحرب على غزة.
إذا تركنا الماضي جانبا وركزنا في الحدث الحالي، من حيث الحرب المندلعة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ونتائج الهجوم الإسرائيلي المدمر على غزة وأهلها، بما في ذلك دلالات جدية على ارتكابها جريمة الإبادة الجماعية كما وثقتها جنوب أفريقيا في دعواها المقدمة أواخر العام الماضي إلى محكمة العدل الدولية، والتي تعززت في أعقاب قرار المحكمة نهاية يناير/كانون الثاني الأخير (2024)، فإن أوهاما فلسطينية– وقد يكون هناك شركاء عرب ودوليون للفلسطينيين في ذلك- قد تفشت بحيث أصبحت تطلق وكأنها حقائق لا خلاف عليها.
ما لفت انتباهي في الأشهر الأخيرة هو تفشي الرؤية التي تقول إن إسرائيل في طريقها للزوال، وأعني في حيثيات الحرب الممتدة على غزة، وأن الطريق لتحرير فلسطين من "النهر إلى البحر" قاب قوسين أو أدنى، مدللين بذلك على وصف حالة "الصمود الفلسطيني" في غزة وعموم فلسطين من جهة، وتعمق حرب الاستنزاف بين "حزب الله" وإسرائيل من جهة ثانية، وربما تعمق حالة الاحتجاج الدولية على الحرب وازدياد ملحوظ في الدعوات لمقاطعة إسرائيل، وقرارات المحكمة الدولية والمدعي العام الدولي بشأن الحرب عموما والتفكير في تقديم قيادات إسرائيلية، وعلى رأسها بنيامين نتنياهو، للمحكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد البشرية في غزة، من الجهة الثالثة، بالإضافة إلى "دلائل" أخرى تشير إلى أننا أمام "نهاية إسرائيل" ومشروعها الاستعماري في المنطقة العربية.
منذ أربعين عاما ونيف، وأنا أسمع تقديرات سياسية وعلمية وموضوعية عن انهيار إسرائيل وعن "نهاية المشروع الصهيوني"، وبالطبع فإن ذلك لم يحدث. وعموما تكهنت هذه التقديرات بانهيار إسرائيل من الداخل، ووصول تناقضاتها الداخلية إلى حالة التفجر والاندثار، والذي يستند إلى ادعاء كونها مجتمعا كولونياليا ومهاجرا و"غير طبيعي" يحمل في داخله عوامل فشله واندثاره.
فكرة انهيار إسرائيل أصبحت رائجة وكأنها حاصلة قريبا تعتمد على تصور وهمي بأن إسرائيل تقترب من نهايتها، أو من "نهاية المشروع الصهيوني"
هذه التحليلات مبنية بالأساس على تقديرات رغائبية وليس على حقائق واقعية، بل إن إسرائيل ازدادت قوة وكفاءة ووحدة اجتماعية خلال هذه الفترة. وفي رأيي فإن هذه التقديرات تنبع من تطلع إلى اختفاء إسرائيل من الداخل وبفعل شلل داخلي، مما يعفي القائلين بذلك- على الأقل في غالبيتهم- من ضرورة التفكير والحث على عمل فلسطيني وعربي ودولي مثابر لأجل تغيير وتصحيح الأوضاع في فلسطين. فلسان حالهم يقول: إذا كانت إسرائيل قاب قوسين أو أدنى من الانهيار والاختفاء كمنظومة سياسية فلماذا نتعب أنفسنا في التفكير والعمل لأجل مجابهة سياساتها أصلا؟
وبينما تستمر إسرائيل في حربها على أهل غزة، وتستهدفهم يوميا وتقتلهم وتجرحهم وتشردهم وتجوعهم وتعتقلهم، وكل أصناف الملاحقات والعذابات الأخرى، يستمر العجز الفلسطيني عن فعل جماعي جدي يتجاوب أو يتلاءم مع تحدي وقف الاعتداء على الغزيين، والفشل الدولي في فرض وقف كلي لإطلاق النار، أو حتى الوصول إلى إجماع لفظي بتأييد ذلك على الأقل، فإن أوهاما منتشرة تطغى في دوائر عدة، فلسطينية وعربية وعالمية، في سياق مجابهة الحرب. فصحيح أن هنالك استفاقة عالمية في معارضة الإجراءات والسياسات الإسرائيلية، وصحيح أن هنالك موجة غير مسبوقة من الاحتجاج على السياسات الإسرائيلية والجرائم التي تنفذها في غزة، وأن هنالك ازديادا جديا في النقاش حول الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وحتى تقديم قيادات إسرائيلية إلى المساءلة أمام محكمة الجنايات الدولية وربما استصدار أمر باعتقال بعضهم، بالإضافة إلى قرارات أممية مهمة في دوائر عدة أهمها أمام محكمة العدل الدولية.
إن الذهاب بهذه التطورات إلى التحليل بأننا أمام تغيير جوهري وجدي في وضعية إسرائيل وفي تحقيق الحقوق الفلسطينية، فإن تلك مجرد سيناريوهات رغائبية ليس لها علاقة بالواقع، وإيضاح ذلك الوهم أو تفكيكه، هو خطوة مهمة جدا لأجل الذهاب بالتطورات أعلاه وغيرها إلى سياق استراتيجي يفكر بعقلية التغيير التراكمي طويل الأمد والذي يتطلب الكثير من التخطيط والعمل الفعلي، لإنجاز تغيير جدي في المستقبل، قد يأتي بعد عقدين أو نصف قرن، وقد لا يأتي. لكن مهمة وضع السياق التاريخي لإمكانيات التغيير هي مهمة لإحداث ذلك مستقبلا، والطريق إلى ذلك يبدأ في تغيير منهجي من التفكير بالأحداث الجارية من كونها ستقود حتما وفورا إلى تغييرات انقلابية، إلى تفكير يختصر الأوهام ويذهب بنا إلى رؤى واقعية بعيدة المدى لمستقبلنا جميعا في فلسطين والمنطقة، أعني في سياق الوضع في فلسطين وما يدور في فلكها.
إن فكرة انهيار إسرائيل التي أصبحت مقولة رائجة وكأنها حاصلة الشهر القريب أو السنوات القريبة جدا على أبعد تقدير، تعتمد على تصور وهمي بأن إسرائيل التي تعصف بها الأزمات محليا وعالميا، تقترب من نهايتها، أو من "نهاية المشروع الصهيوني"، وكأن الدولة، أو الدول الأخرى، والقوية تحديدا، لا تعصف بها تناقضات ولا تتهدد لحمتها الداخلية. هذا الوضع يتطلب قراءة متأنية في الوضع الإسرائيلي، قراءة موضوعية ترتكز على معرفة علمية غير محكومة بدوافع أيديولوجية ولا بسقف سياسي عيني. وهنالك كم هائل من المصادر لذلك، وبكل اللغات، وهنالك عدد لا بأس به من المختصين، الذين يساهمون في تعريفنا بما حصل ويحصل في إسرائيل، ومن المهم الاستناد إلى دراساتهم لفهم ما يحصل في إسرائيل، بما في ذلك في حالات وتحليلات لا تروق للكثيرين منا، أو لا تتفق مع توقعاتهم الرغائبية.
بالتأكيد أحد السيناريوهات هو التردي والإقبال على نهاية المشروع الإسرائيلي، إلا أن ذلك منوط بتعمق التداعيات أو التجليات الحالية، ووجود قوة منظمة تقوم ببناء البديل
القراءات المعمقة والمستندة إلى المعرفة العلمية تشير بالتأكيد إلى تعمق التناقضات الإسرائيلية الداخلية وتراجع الوضع الاقتصادي ومكانة المؤسسات الرسمية وفقدان الثقة الشعبية بمؤسسات الدولة وقدرتها على حماية المواطنين، خصوصا في ظل هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر 2023 والفشل في إعادة كل المخطوفين لدى "حماس"، برغم الحرب الشعواء، كما تردي المكانة العالمية لإسرائيل. إلا أن كل ذلك لا يفيد علميا بقرب إسرائيل من نهايتها، ولا انتهاء مشروعها، بل إنه قد يفيد بتطورها نحو التوحش كجزء من عملية تغيير، معادية أكثر للفلسطينيين، بين الإسرائيليين عموما ومتخذي القرار بشكل خاص.
بالتأكيد أحد السيناريوهات هو التردي والإقبال على نهاية المشروع، إلا أن ذلك منوط بتعمق التداعيات أو التجليات الحالية، ووجود قوة منظمة تقوم ببناء البديل. فلسطينيا هذا يعني وجود تصور فلسطيني جمعي للمستقبل، وهذا أصلا غير متوفر حاليا، ويحتاج إلى الكثير من المجهود الفلسطيني، وعلى الأغلب بمشاركة قوى إسرائيلية ترغب في تغيير الأمور، وبالتأكيد مع ضرورة استحضار عوامل وفواعل دولية تدفع باتجاه تحقيق تصور فلسطيني بديل للوضع القائم. ما أعنيه هو أن المستقبل سيكون قريبا مما سوف يتم السعي إليه، والتناقضات الإسرائيلية مهمة في ذلك، لكنها لا تضمن أي شيء من تلقاء نفسها.
خلال أربعة عقود (ونيف) قام أستاذ الشؤون الدولية ودراسة الصراعات، من جامعة تافتس المرموقة في بوسطن، الأستاذ الفلسطيني نديم روحانا بمساهمات جدية في محاولة دراسة وفهم تطور المشروع الاستعماري-الكولونيالي في فلسطين، وهو بالتأكيد من أهم المصادر العلمية لفهم إسرائيل، وخصوصا أنه يتقن العبرية ومطلع على مجمل التطورات الإسرائيلية من خلال معرفة مباشرة.
بالأساس اهتم روحانا بتجليات تطور الصهيونية وإسرائيل في تعاملهما مع الفلسطينيين، أهل البلد الأصليين، منذ بدايات المشروع الصهيوني وحتى يومنا هذا. ومؤخرا قدم محاضرة مهمة حول التغيرات في إسرائيل والصهيونية على ضوء حرب الإبادة في غزة (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 21\5\2024).
وأشار روحانا إلى أن هنالك تحولات جارية في الصهيونية وإسرائيل، وعلى رأسها ثلاثة تجليات: الأولى، تعمق الخوف الفردي في إسرائيل على المستقبل وازدياد الشعور بعدم الثقة في الدولة على حماية اليهود من محاولات استهداف فلسطينية. ثانيا، انهيار مبررات الشرعية لدولة إسرائيل كما يراها غالبية الإسرائيليين ويشاطرهم في ذلك الكثيرون من العالم، بما في ذلك تقلص إمكانيات الاستمرار في استعمال الهولوكوست النازي ضد اليهود لتبرير ممارسات إسرائيل وخوفها من المستقبل. والثالث، يتعلق بتعمق فكرة الإبادة للفلسطينيين وحلولها بقوة، ولو جزئيا، مكان فكرة المحو المرتكزة على الإبعاد وليس الإبادة، أي تعمق ما يسميه "الصهيونية الإبادية" وموضعتها في قلب الإجماع أو تأييد غالبية الإسرائيليين، بما في ذلك من اليسار.
باختصار، يؤكد روحانا أننا أمام تطور تاريخي، ومرشح للتفاقم، خصوصا في استهداف جسدي للفلسطينيين عموما، وفي غزة خصوصا. وهو كذلك يشير إلى تطورات تاريخية تزيد من تفاقم الوضع الإسرائيلي، قد تنبئ بتحوّل عميق في المشروع الاستيطاني الاستعماري.
التطورات التاريخية في عموم فلسطين، وفي العالم بحاجة إلى الاستثمار والتقنين، وذلك غير قابل للإخراج في الوضع الوطني الفلسطيني الحالي
التحول في المشروع الصهيوني-الإسرائيلي لا يجري بخط تصاعدي واحد، بل يتعلق بالكثير من العوامل الإسرائيلية والفلسطينية والدولية، وعلى رأسها وجود مشروع فلسطيني بديل، وهو كما ذكرنا غير متوفر حاليا ويحتاج لجهد فلسطيني كبير وجدي ولمراجعة جدية لما حصل حتى الآن، وهذا كذلك غير موجود، رغم وجود جهود جدية في هذا الاتجاه.
التحليلات العلمية لروحانا وغيره من المختصين مهمة، لأنها تصور الواقع وربما تضعنا بذلك أمام تحديات جدية في آفاق العمل الممكنة فلسطينيا وعربيا وعالميا. فإسرائيل لا تقترب بالضرورة من الانهيار، بل لا زالت مستمرة في حربها الشعواء والمفتوحة ضد الفلسطينيين، والعالم يراقبها ويحثها على وقف القتال واستهداف المدنيين الفلسطينيين، وهي رسميا ما زالت ترفض ذلك. ومجتمعها "المنهار" ما زال متكاتفا في دعم استهداف الفلسطينيين وإبادة الغزيين، والعالم الغربي رسميا يغير مواقفه تدريجيا باتجاه دعم إيقاف إطلاق النار لكنه لم يتنازل أبدا عن دعم إسرائيل، خلال الحرب وبعدها، وإدارة جو بايدن ما زالت مستعدة لضخ مليارات الدولارات لدعم إسرائيل وإعادة تأهيل جيشها ومجتمعها، ونحن بالتأكيد بعيدون جدا عن إمكانية تغيير ذلك.
والأهم أن الفلسطينيين ورغم المعاناة والألم، لم يقوموا بنخبهم وفصائلهم وقياداتهم، في البدء أصلا بالتحضير لاستثمار ارتدادات حرب غزة لأجل بلورة تصور جدي متفق عليه بشكل واسع، للمستقبل في فلسطين، أو- بحسب روحانا- لشكل النصر الذي يرغبون في تحقيقه، وبذلك فإن الأداء الفلسطيني الوطني والجماعي لا يبشر أصلا بأي خير في المساهمة بإحداث تغييرات أو في انهيار المشروع الاستيطاني الاستعماري وبناء مشروع مدني ديمقراطي بديل له في فلسطين.
الحقيقة، إننا في لحظات تاريخية مهمة جدا وقد تكون من أهم مراحل التطور الفلسطيني، بما في ذلك ما يتعلق بإسرائيل، إلا أننا أمام سيناريوهات يمكن أن تتطور في عدة اتجاهات. وأهم التطورات الممكنة هو تعمق القمع والتنكيل الإسرائيلي، وتعميق السيطرة اليهودية الفوقية في عموم فلسطين، حتى لو تعاظمت الأصوات المقاطعة لإسرائيل أو التي تطالب بمعاقبتها. وفي المقابل، فإن الأداء الوطني الفلسطيني الحالي قد يساهم أكثر في هزيمة الفلسطينيين وتشتت جهودهم ووجودهم.
التطورات التاريخية في عموم فلسطين، وفي العالم بحاجة إلى الاستثمار والتقنين، وذلك غير قابل للإخراج في الوضع الوطني الفلسطيني الحالي، لا "فتح" ولا "حماس" ولا قيادة الداخل ولا "منظمة التحرير" وفصائلها قادرة على حمل مشروع التغيير المستقبلي والمرغوب لفلسطين. وهنا نعود لتأكيد، ما تحاول نخب فلسطينية القيام به، ألا وهو بذل جهود جدية في سبيل إعادة ترتيب البيت الفلسطيني والتجاوب مع آلام وتضحيات الغزيين وغيرهم للانطلاق لترميم القيادة وربما بناء قيادة جدية تستحق أن تقود النضال الوطني نحو أفق الخروج من المأزق، والذي يتضمن بالضرورة رؤية وطنية تقدمية وإنسانية لمستقبل الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء.