الجغرافيا وصناعة الثقافة المعاصرة

الجغرافيا وصناعة الثقافة المعاصرة

أبرز الأسئلة التي كانت تثيرها ظاهرة الجمعيات الجغرافية في العالم، تتعلق بمصير الأرض ومشاريع التقسيم، بينما ظاهر هذه الجمعيات اليوم مشاريع علمية وثقافية تستند إلى وعي يرفض سردية الماضي المسيطرة، فتتيح الجمعيات للباحثين كل ما تملكه من صور وخرائط لبلدان العالم في القرون الخمسة الماضية. فمن خلال هذه المواد لعبت الجغرافيا سابقا دورا حاسما في تشكيل المجتمعات البشرية وتفاعلاتها مع بيئتها، وكانت الذريعة لممارسة هذا الدور توثيق المناظر الطبيعية لمنطقة ما، مثل المناخ والموارد الطبيعية والتضاريس.

خلال زيارة للجمعية الجغرافية الملكية في لندن، بهدف البحث عن الخرائط القديمة الطبيعية المرسومة في بدايات القرن العشرين لدول الشرق الأوسط وأفريقيا بعد تقسيمها، أثارت اهتمامي الخرائط الأفريقية قبل قرن، ومدى دقة الرسوم في تبيان منابع المياه وكميتها، مع سجل لأعداد الآبار وأحجام الأشجار وأنواعها وصولا إلى ثمارها، وهذا كله يفتح الأسئلة الواقعية حول حاضرنا، عن مدى دقة الاشتغال في زمن لم يكن للتقنيات والطائرات حضور كما هي اليوم، وكان ثمة سعي معرفي لتأسيس الوجود والانتساب الى حركة توسعية تتمدّد، بزعم رسم ملامح ثقافة مجتمعات اتضحت معالمها البيئية تماما، والاشتغال على ذاكرة جديدة لشعوب أصيلة أخذت تتفرّع بأفكار تتنازع في ما بينها، وهذا يفسّر كيف أصبحت معظم الدول الأفريقية خرائط أرضية أشبه بقضبان سجن مثبتة.

يتبيّن أن هذه الجمعيات كانت في الغالب تقود الجغرافيا السياسية، أي دراسة تقسيم البشر على سطح الأرض لأغراض الإدارة والسيطرة، مهما وضعنا في الاعتبار أدوارها الإيجابية في إظهار كيف تلعب الموارد الطبيعية مثل الغاز والنفط والغابات والمعادن والجبال والصحراء، دورا في تشكيل المجتمعات الثقافي، لكن دورها الخفي يتمثّل في قدرتها المرنة على استغلال الموارد البشرية والطبيعية، ومن ثم تطوير الأنظمة السياسية.

يتبيّن أن هذه الجمعيات كانت في الغالب تقود الجغرافيا السياسية، أي دراسة تقسيم البشر على سطح الأرض لأغراض الإدارة والسيطرة

في الإجمال، كانت الجمعيات الجغرافية في أوروبا أشبه بمدرسة هندسية، أو وزارة خارجية، أو قوة عسكرية سرية، أسست فرقا كاملة تضمّ خبراء في رسم الخرائط والتقاط الصور الفوتوغرافية، لتمنح مسمى الجمعية الجغرافية بُعدا ثقافيا من خلال دعمها المعرفي الجغرافي للمجتمعات، والحصيلة كما هي الجمعية الجغرافية الملكية في لندن وحدها، إنتاج مواد أرشيفية نادرة تحتوي على مجموعات ضخمة من الوثائق، تغطي 500 عام من الجغرافيا والسفر والاستكشاف، وتحتفظ الجمعية بواحدة من أكبر مجموعات الخرائط الخاصة في العالم، فعلى الرغم من صغر المبنى الخارجي للجمعية، يتم الاحتفاظ بكل شيء في مخازن بنيت خصيصا لحفظ المواد، لأستند كباحثة وزائرة على استخدام غرفة القراءة الصغيرة التي طورت، فكانت أمامي مكتبة إلكترونية جغرافية لا تشبه المكتبات الأخرى، تتضمن أرشيفا يشمل مليون ورقة من الخرائط والرسوم البيانية و3000 أطلس و40 كرة أرضية، وألف دليل جغرافي، وكل ما يمكن طلبه من عناوين يأتي إليك بعد تعبئة استمارة... وهذا يعني أنهم تمكنوا من الحفاظ على المجموعات لصالح الأجيال المقبلة، وتعزيزها، وخاصة في ما يتعلق بالبرامج التعليمية للمدارس والمتعلمين، وبمصطلح يستخدمه الموظفون في الجمعية كل حين.

كل المواد المحفوظة في الجمعية ساهمت في خدمة الأغراض الاستعمارية، وذلك عبر الاستثمار العميق حتى في إنشاء النوادي الجغرافية التي تمثل الجغرافيين، مع إضفاء الشرعية على العمل الجغرافي النسائي في أوروبا، وقبول النساء مهنيا كجغرافيات، مرورا بالأدب وكتابة أدب الرحلات، والسيرة الذاتية لمصورين ومهندسين ورسامين. في جذورها هي حملات استعمارية منظمة تتقنع بقناع ثقافي، لتدعم بما لديها من رسوم بيانية وخرائط وأطالس مطبوعة عن مجمل الكرة الأرضية، التواصل التجاري خلف البحار، بوصفها المالكة للخرائط والأطالس والصور والعادات.

كل المواد المحفوظة في الجمعية ساهمت في خدمة الأغراض الاستعمارية

وأخيرا، الثقافة الآنية أيضا بحاجة إلى بحث، لمعرفة كيف صنعت أفكار التنوير والتحديث في عالمنا المعاصر، وذلك لا يكون إلا بمعرفة الماضي، والتاريخ الجغرافي، فما زالت الجمعيات الجغرافية تقدم المحاضرات والمنشورات وتدعم الاستكشاف والبحث، ولا ندري بأية حجة ولأية أغراض.

font change
مقالات ذات صلة