غزّة: بالإضافة إلى الخسائر الهائلة في الأرواح، فإن الحرب الإسرائيلية الأطول والأشرس على غزة، أتت على الأخضر واليباس، فلم تترك مؤسسة تربوية أو صحية أو اجتماعية أو فنية أو ثقافية، ولا إرثا معماريا، إلا ودمرته تماما أو ألحقت به أضرارا دائمة، ليطاول الخراب كافة فئات المجتمع الفلسطيني، بمن في ذلك الكتاب والفنانون الذين اضطروا كجميع سكان غزة إلى النزوح، تاركين وراءهم مخطوطاتهم وكتبهم ولوحاتهم ومنحوتاتهم التي تعدّ محاولة إنقاذها وسط هذا الخراب الهائل من قبيل الترف، فالأولوية هي للنجاة من الموت، إن وجدوا إلى ذلك سبيلا.
الكثير من أعمال الفنانين في غزة، دمّر أو أُحرق أو نُهب، في خضم أعمال القصف العشوائي وفوضى الحرب، والكثير منها تحوّل إلى مواد خام لإشعال النار من أجل الطهي، وسط مجاعة حقيقية يعيشها القطاع.
يخبرنا الفنان محمد أبو سل: "قُصف منزلي في مخيم المغازي، وهُدم مرسمي بالكامل، ففقدت كل شيء دفعة واحدة... كان مرسمي يحتوي على مئات الأعمال الفنية التي هي حصيلة رحلتي مع الفن، وقد أصبح اليوم مجرد حطام وسط الركام الهائل".
كانت الخطة مدروسة ومفصلة للنيل من كل شيء، فالإنسان والأرض والمباني تشكّل أهدافا للاحتلال، وكذلك الذاكرة والموروث الثقافي
محمد أبو سل
مجسّمات
بين الخسائر التي لا يستطيع محمد أبو سل إحصاءها، مجسّمات لمشروع فني بعنوان "سلع بشعة لا تفي بحقوقكم"، وهي تستعرض أفكارا مختلفة وتعالج الواقع الفلسطيني اليومي، مثل جدار الفصل العنصري، والسلك الشائك والجرافات العسكرية، وكل الوسائل التي كان الاحتلال يستخدمها لتقييد الجسد الفلسطيني، وسلبه حريته.
يقول أبو سل: "فقدت خلال هذه الحرب مشاريع تركيبية ثلاثية الأبعاد، وهي من أهم أعمالي الفنية التي تحاكي حالة الحصار ومعاناة المجتمع الفلسطيني مع المنع من التنقل، وخسارتها بهذا الشكل تبعث الحسرة في نفسي".
هنالك أعمال ناجية للفنانين الفلسطينيين بفعل المصادفة، أو بسبب مشاركتها في معارض دولية خلال الحرب. يقول أبو سل: "نجا بالمصادفة من هذه المحرقة عدد قليل من أعمالي، حيث هناك أعمال لي في رام الله وألمانيا ودول أخرى، لكن هذا لا يشكل إلا عشرة في المئة مما أنتجت فنيا" وهو ما لم يتحقّق للجميع، إذ فقد بعض الفنانين كلّ شيء.
يتجه الفنان الفلسطيني بعد انسحاب الدبابات الإسرائيلية، إلى تفقد مرسمه، كأنما يبحث عن إنسان حيّ تحت الركام، يقول أبو سل لـ"المجلة": "كنت آمل بأن أجد أعمالا ناجية بعد انسحاب الآليات العسكرية من المخيم، لكنني للأسف وجدتها جميعا تالفة، والكثير منها سرقه مواطنون لا يعرفون قيمتها الفنية، فاستخدموا خشبها لإشعال النار في ظل أزمة منع غاز الطهي طيلة الحرب. لقد هلكت مجسماتي الفنية، على الرغم من اجتهادي المستمر في تخزينها على نحو صحيح".
يتابع أبو سل: "كانت الخطة مدروسة ومفصلة، للنيل من كل شيء، فالإنسان والأرض والمباني تشكّل أهدافا للاحتلال، وكذلك الذاكرة والموروث الثقافي والكفاءات، كل فكرة كانت مستهدفة خلال هذه الإبادة الجماعية التي طالت كل شيء".
هل تمكن إعادة إنتاج العمل الفني المدمّر بعد انتهاء هذه الحرب؟ يجيب أبو سل: "لا أفكر في إعادة إنتاج ما أهلكته الحرب من أعمالي الفنية، فلكل عمل خصوصية المكان والزمان واللحظة، ولسنا آلات أو طابعات لنكرر المشاعر نفسها والمنتج الفني ذاته".
إعادة إنتاج
لكن الفنانة الغزية لميس الشريف ترى نقيض ذلك، مؤكدة عزمها على استعادة إرثها الفني المتجسّد بعشرات اللوحات، من خلال إعادة إنتاج ما أتلف، تقول: "بمجرد انتهاء الحرب، وتمكني من الاستقرار، سأبدأ بالعمل على رسم أفكار اللوحات من جديد".
تكمل: "أعرف أنها مهمة شاقة، بل قد تكون مستحيلة، إذ من الصعب على الفنان أن يكرر إحساسه باللون والضربات اللونية والضوء والبيئة، لكنني سأحاول من جديد استعادة بعض أعمالي من خلال محاولة رسمها". يرفض الفنان التفريط في لوحات محدّدة، تشكل له قيمة ذاتية أو تنطوي على ذكريات حميمة، تقول الشريف: "هناك لوحات لم أتقبل فكرة بيعها، لأنها امتلكت خصوصية مع أفكاري، ولربما شكلت لبّ الحياة لديّ، كنت أود الاحتفاظ بها، وذهبت أدراج الريح بفعل الحرب".
بمجرد انتهاء الحرب، وتمكني من الاستقرار، سأبدأ بالعمل على رسم أفكار اللوحات من جديد
لميس الشريف
وتتدارك: "لم أفكر ولو للحظة بأن تتحول كل لوحاتي إلى قطع تالفة، هذا خيال أسود لم يصل إليه أشدّ الفنانين سوداوية في التاريخ، لكن هذا الفن الذي عبر عن حقبة من تاريخ هذا المكان، يؤثر العدو مسحه، وإحالته إلى رماد من خلال حربه المفتوحة ضد كل شيء على هذه الأرض... أشعر بالحزن الشديد على فقدان الذاكرة، فلوحاتي هي مخيلتي التي كنت أتعرف من خلالها الى العالم، وأتعرّف من خلالها الى ذاتي".
ترى الشريف أن "اللوحة سيرة جمعية وليست فردية، فالأحاسيس التي يعبّر عنها الفنان، هي نتاج عصره، وإحساسه بالأشياء بثباتها وتغيرها من حوله، ولا بد أن تكون سيرة الأحداث حاضرة في إرث الفنان".
وعن الموضوعات التي تتمحور حولها أعمال الشريف، تحدثنا: "لقد آثرت أن ألتحم مع معاناة المرأة في المجتمع الغزي، حيث على الدوام حملت الإناث خصوصية في المعاناة الفلسطينية الممتدة، فتكبدت خسائر جمة وسط الضغوط الهائلة التي تخضع لها العائلة الفلسطينية، والتي طاولت جميع مناحي حياة المرأة".
وتكمل: "في لوحاتي المتلفة الكثير من الشوك، ورموز الصبر والظهر المحني من التعب، وتحمل كذلك انطباعات حول المدينة المتعبة من كثرة الأحزان، تلك المدينة تكتظ بمبان شاحبة، مهددة على الدوام بالانهيار. وفي لوحاتي أيضا بريق أمل يتمحور حول المرأة وعالمها وحول أشياء وألعاب من ذكريات الطفولة، ربما عليّ أن أستعيد ذلك كله، من أجلي ومن أجل كل النساء".
جزء من كينونة
يرى الفنان ماجد مقداد أن "اللوحة ليست مجرد إرث مادي من خشب وأقمشة وألوان بل هي جزء من كينونة الفنان، ولا يمكن تخطي فكرة دمارها وفقدانها إلى الأبد".
"اللوحة ليست مجرد إرث مادي من خشب وأقمشة وألوان بل هي جزء من كينونة الفنان
ماجد مقداد
غادر مقداد غزة قبل سنوات، متجها إلى تركيا، فيما بقيت جميع أعماله في منزله بغزة، وقد تعرضت للتلف جراء القصف.
في حرب عام 2014 على غزة، أنتج مقداد العديد من اللوحات المشتبكة مع الأحداث، يقول عنها: "ما أنتجته من لوحات خلال حرب 2014، دُمّر في الحرب الحالية، هنالك مسح منهجي متعمد لأثرنا الفني وذاكرتنا الفلسطينية".
يستمر الفن في العمل كأداة في مواجهة العنف البشري، لكن مقداد يرى "أن اللوحة مهما بلغت قيمتها وقدرتها، تبقى شيئا سخيفا أمام أهوال الإبادة التي يتعرض لها الإنسان في غزة".
ويضيف: "أشعر بالغضب الشديد وبفقدان التوازن، جراء العبث الذي طال غزة ومقدراتها الإنسانية والمعمارية والثقافية".
أما عن أعماله، فيؤكد: "لم ينجُ من لوحاتي إلا ما هو خارج غزة، كنت أحتفظ بلوحات كثيرة، في مرسمي بغزة، لكنّ مصيرها جميعا كان الدمار، يا له من شعور بشع".
ويؤكد مقداد قدرة الفنان على إعادة إنتاج عمله الفني، فقد كررها سليمان منصور في لوحة "جمل المحامل" التي فقدت مرتين ورسمها مرة ثالثة: "يصبو الفنان إلى الحفاظ على أثره الفني، بقدر ما يسعى إلى الحفاظ على الحياة، على الرغم من أن هذه الحرب صنعت في داخلنا خوفا هائلا بفقدان الحياة والأثر في آن واحد".