"داعش" بعد 10 سنوات... إرهاب الذكاء الاصطناعي

التنظيم يخسر معاركه ويهدد باختراق الحدود

لينا جرادات
لينا جرادات

"داعش" بعد 10 سنوات... إرهاب الذكاء الاصطناعي

واشنطن - قبل عشر سنوات، كان المتشددون يجتاحون سوريا والعراق، وكان أبو بكر البغدادي، زعيم ما يسمى "تنظيم الدولة الإسلامية"، يسيطر على منطقة بحجم المملكة المتحدة. بل إنه ظهر في مناسبة نادرة، ليعلن من الموصل "إنشاء دولة الخلافة" المزعومة، مطالبا المسلمين في جميع أنحاء العالم بمبايعته والخضوع لسلطته.

ورغم أن كلا من الإعلان والدعوة إلى الدعم لم يكونا يحملان أي مظهر من مظاهر الشرعية، فإن تصرفات "داعش" كانت غير مسبوقة، وأثبتت أنها منهكة للأمن الدولي.

وبينما كان مقاتلوه يذبحون الآلاف في العراق وسوريا ويفرضون حكمه القادم من العصور الوسطى على الملايين، كان "داعش" يعمل جاهدا ليقضي على الأقلية الإيزيدية في شمال العراق، ويقطع رؤوس الرهائن الغربيين علنا في مقاطع فيديو عالية الدقة.

كان حجم المكاسب الإقليمية التي حققها تنظيم "داعش"، والوحشية الصادمة للعنف الذي يمارسه، وادعاؤه إنشاء كيان أشبه بالدولة، سببا في اندلاع أكبر حركة عالمية مسجلة. وفي نهاية المطاف، وصل أكثر من 50 ألف شخص من أكثر من 110 دول حول العالم للانضمام إلى "داعش" في سوريا والعراق. وكان يمكن لمس التأثيرات المتتابعة على نطاق واسع، حيث تدفقت الجماعات الإرهابية في جميع أنحاء أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا للانضمام إلى قضية "داعش"، لتشكل ولايات ضمن مشروع "الخلافة" الخاص بالجماعة.

لقد وصل تنظيم "داعش" قبل عشر سنوات من اليوم إلى مكانة متقدمة، وكان يتمتع بشعور عال من الزخم، سوى أن ذلك لم يدم طويلا. ففي غضون أسابيع، بدأت الولايات المتحدة التدخل عسكريا في العراق وسوريا، وقامت بتعبئة تحالف دولي غير مسبوق يضم عشرات الدول المكرسة لمكافحة تهديد "داعش" وإلحاق هزيمة محققة به.

وخصص هذا التحالف، الذي ضم في النهاية 87 دولة، الموارد اللازمة لمحاربة "داعش" على الأرض، مع مكافحة تمويل الجماعة ودعايتها وتجنيدها دوليا، فضلا عن دعم استقرار المناطق المحررة من حكمها الإرهابي. ومع بدء هذه الجهود والعمل على تقليص نفوذ "داعش" في العراق وسوريا، ألهمت المجموعة ونسقت حملة عالمية من الهجمات الإرهابية التي أسفرت عن مقتل الآلاف، وانتشر ضحاياها في جميع القارات ما خلا القارة القطبية الجنوبية.

شجع بروز منطقة الساحل كمجال مفضل للعمليات العالمية لتنظيم "داعش" على تدفق المقاتلين الأجانب القادمين من شمال وشرق أفريقيا، وكذلك أوروبا

وبحلول أوائل عام 2019، بعد أربع سنوات ونصف السنة من الجهود، استولت الحملات العسكرية التي شُنّت في كل من العراق وسوريا على كل شبر من أراضي "داعش"، ما أدى إلى هزيمة "دولة داعش" هناك فعليا، وقُتل أو أُسر عشرات الآلاف من مقاتلي "داعش"، وبكل المقاييس والأغراض، اختفت المجموعة فعليا من ساحة المعركة. ومنذ ذلك الحين، تلاشى الكثير من التركيز والاهتمام الدولي على التعامل مع هزيمة "مستدامة" أو "دائمة" لتنظيم "داعش"، حيث ظهرت قضايا أخرى إلى الواجهة، بما في ذلك الحروب في أوكرانيا والسودان وغزة، بالإضافة إلى قضايا أوسع نطاقا تتعلق بالمنافسة بين القوى العظمى، وخفض التصعيد الإقليمي، وإعادة العلاقات الدبلوماسية.

لينا جرادات

ولو تأملنا التهديدات والتحديات التي يفرضها تنظيم "داعش" وكيفية مواجهتها، لرأينا أن فقدان التركيز مؤخرا يمثل مشكلة كبيرة لعدة أسباب. أولا، أدى إعلان تنظيم "داعش" "الخلافة" في 29 يونيو/حزيران 2014 إلى تحويل الجماعة الإرهابية إلى كيان عالمي، مما جعل معقلها في العراق وسوريا مهماً، ولكنه لا يحدد بقاء الجماعة. ثانيا، لا تحدد الأراضي المادية تصور "داعش" لـ"دولته" أو "الخلافة". والحق أن أول دولة أعلنها "داعش" كانت سنة 2006 في العراق، وعلى الرغم من أنها لم تدم طويلا، فإن الجماعة تدعي أن تلك "الدولة" لا تزال قائمة ومستمرة في النمو على مدى السنوات الـ18 الماضية.
وبالتالي، فإن الانتصارات الإقليمية المعلنة في العراق وسوريا عامي 2018 و2019 لم تنجز مهمتها في الحقيقة كما يجب، حيث ينتشر تهديد "داعش" اليوم عالميا ويعود للوجود في معاقله في العراق وسوريا. واليوم، هناك المزيد من الجماعات المرتبطة بتنظيم "داعش"، والتي تنشط في المزيد من البلدان، وتخضع لسيطرتها المزيد من الأراضي أكثر من أي وقت مضى. وبدلا من إلحاق هزيمة قاصمة بـ"داعش"، نرى التنظيم الآن وهو يمثل جملة من التهديدات أكبر وأكثر تنوعا وتعقيدا من ذي قبل. ويحدث هذا في بيئة دولية يتراجع فيها الاهتمام والموارد والإرادة السياسية لمكافحة الإرهاب إلى أدنى مستوياته على الإطلاق.

أفريقيا


نما تنظيم "داعش" في أفريقيا في السنوات الأخيرة، نموا أكبر من مناطق أخرى في العالم، حيث ينشط الجهاديون حاليا في 28 دولة على الأقل عبر القارة الأفريقية. وفي العام الماضي، اختصت أفريقيا بنحو نصف الهجمات الإرهابية التي وقعت في العالم. وفي غرب القارة– الذي شهد وحده 25 في المئة من كل الهجمات الإرهابية- فتحت سلسلة من الانقلابات في مالي والنيجر وبوركينا فاسو الطريق أمام تصاعد نشاط "داعش" في منطقة الساحل. وضاعف فرع تنظيم "داعش" في منطقة الساحل الكبرى حجم الأراضي الخاضعة لسيطرته منذ أوائل عام 2023، بما في ذلك في مالي، حيث بدأ في نشر أشكال حكمه الوحشية المعروفة، بما في ذلك "شرطة الحسبة" التي تفرض القواعد الأخلاقية الصارمة بالعنف، كما كان أمرا سيئ السمعة في سوريا والعراق.
وفي وقت سابق من هذا العام، خفت حدة الحرب الطويلة التي يشنها تنظيم "داعش" في الصحراء الكبرى مع جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" التابعة لتنظيم "القاعدة" في منطقة الساحل، وتم تخفيف القيود. مما سمح بتكريس الموارد بشكل كامل للقتال ضد الطغمات العسكرية المحلية التي تضاءلت قدراتها الأمنية في خضم الفوضى السياسية. وفي حين استؤنف هذا العداء بين الفصائل منذ ذلك الحين فقد أدت الانقلابات والصراعات السياسية إلى طرد القوات الأميركية والفرنسية عبر منطقة الساحل واستبدالها في كثير من الحالات بأفراد ومرتزقة من روسيا. وفي حين كان سجل نجاح القوات الأميركية والفرنسية في مكافحة الإرهاب متفاوتا، يبدو أن وجود نظيرتها الروسية كان السبب في تفاقم الفساد، بينما تغطي على أعمال الوحشية والتمييز والإجرام التي غذت الروايات المحلية لـ"داعش" و"القاعدة"، بل وتشارك فيها.
ومن جانب آخر، شجع بروز منطقة الساحل كمجال مفضل للعمليات العالمية لتنظيم "داعش" على تدفق المقاتلين الأجانب القادمين من شمال وشرق أفريقيا، وكذلك أوروبا. ووفقا لتقارير الأمم المتحدة، فإن غالبية هؤلاء الأجانب الذين يقاتلون في منطقة الساحل إنما ينحدرون من أماكن أخرى في أفريقيا، بينهم عرب وآخرون نشأوا في أوروبا. وتشير سلسلة من الاعتقالات المترابطة في أسبانيا والمغرب والمرتبطة بتنظيم "داعش" في الأشهر الأخيرة إلى وجود شبكة لوجستية وتجنيدية واضحة تمتد عبر أفريقيا وجنوب أوروبا. كما تشير حالات مكافحة الإرهاب الأخرى في أوروبا إلى أن تنظيم "داعش" في الصحراء الكبرى سعى لتجنيد المقاتلين من أقصى الشمال مثل المملكة المتحدة، التي منها تلقى أيضا إرشادات حول تصميم الطائرات دون طيار لتوصيل الأسلحة الكيماوية المصنعة محليا.
وغير بعيد عن ذلك، يحتفظ "داعش" أيضا بمستوى عالٍ من العمليات في نيجيريا ومنطقة بحيرة تشاد المجاورة، حيث تحافظ ولاية غرب أفريقيا التابعة للجماعة على أعلى مستوى من العمليات باستمرار بين كل فروع "داعش" في جميع أنحاء العالم. ومع صعود تنظيم "داعش" في الصحراء الكبرى في مالي والنيجر، لا يمكن لتنظيم "داعش" في غرب أفريقيا أن يستفيد إلا من نيجيريا المجاورة. وفي الوقت نفسه، يواصل "داعش" أيضا بسط نفوذه في جمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا المجاورة، حيث يتمكن على الدوام من تفادي الحملة العسكرية المشتركة الجارية بين جمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا والمعروفة باسم "عملية الشجاع"، بل ويتصدى لها أحيانا. وتحت قيادة سيكا بالوكو، وجه "داعش" أيضا بنادقه نحو السياح الغربيين في أوغندا، كما فعل حينما أعدم سياحا من جنوب أفريقيا وبريطانيا في حديقة الملكة إليزابيث الوطنية. وإلى الشمال، في السودان، يدير "داعش" أيضا جبهة نشطة ولكن سرية يقودها أحد كبار قادة "داعش"، أبو بكر العراقي، المعروف بأنه كان مقربا من أبي بكر البغدادي. ومن السودان، يُعتقد أن هذه الخلية تعمل بمثابة ترس مركزي في عملية "داعش" بأكملها في أفريقيا، حيث تقوم بتنسيق حركة القوى البشرية والأسلحة والأموال وغيرها.

منذ يناير/كانون الثاني 2024، صعّد تنظيم "داعش" هجماته في جميع أنحاء سوريا بطريقة لم نشهدها منذ عام 2017

ولا يقتصر صعود "داعش" من جديد على منطقة الساحل، بل يتعداها إلى موزمبيق، حيث يؤدي الانسحاب الحالي لمهمة عسكرية إقليمية إلى خلق فراغ يعيد تنظيم "داعش" ملؤه بقوة. ومنذ أوائل هذا العام، شن فرع "داعش" في موزمبيق– المعروف أيضا باسم "أهل السنة والجماعة"– سلسلة من الهجمات القاتلة على بلدات مثل ماكوميا، ومويدومبي، وموكوجو، وتشيوري، وكيسانجا. وتثبت القوات المسلحة الموزمبيقية أنها غير قادرة بمفردها على تحدي هجوم "داعش"، الذي يستهدف الأغلبية المسيحية في المنطقة، ويمكن، إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، أن يعيد التنظيم توجيه أهدافه نحو حقول الغاز الكبيرة في البلاد التي تديرها شركة "توتال" الفرنسية.
وفي مكان آخر من أفريقيا، يحتفظ تنظيم "داعش" بوجود صغير ولكنه حيوي من الناحية الاستراتيجية في شمال الصومال، حيث إن زعيمه الذي قتل مؤخرا، عبد القادر مؤمن، وهو الذي كان يدير فرعه (مكتب الكرار). الذي يعمل كمركز مربح لجمع وتوزيع أموال "داعش" في جميع أنحاء أفريقيا، عبر الشرق الأوسط، وجنوب ووسط آسيا. ووفقا للاستخبارات الأميركية والمراقبة الدولية فإن مكتب الكرار هو الكيان الأكثر تأثيرا ماليا الذي تديره المديرية العامة للأقاليم التابعة للتنظيم في جميع أنحاء العالم، بينما لا يتمتع مكتب الفرقان في نيجيريا، الذي يديره أبو بكر بن محمد بن علي المينوكي، بالمستوى نفسه من الانتشار الدولي أو التأثير الاستراتيجي على عمليات "داعش" العالمية.
وبينما أفادت تقارير بأن مؤمن قُتل في غارة جوية أميركية أواخر مايو/أيار، فمن الراجح أنه حافظ على خط واضح لـ"الخلافة"، بسبب صغر وتماسك عمليات "داعش" في الصومال. وفي الوقت نفسه، لا يبدو أن التقارير التي نُقلت عن مسؤولين أميركيين لم تذكر أسماءهم بأن مؤمن كان في الواقع الزعيم العالمي لتنظيم "داعش"، تتمتع بالمصداقية، رغم أنه من الممكن أن يكون قد تولى قيادة ولايات التنظيم.

أفغانستان وآسيا الوسطى


في حين أن حجم واتساع أنشطة "داعش" في أفريقيا ما زالا بعيدين عن الاهتمام الدولي الجاد، فقد حظي فرع "داعش" في أفغانستان باعتراف كبير. تأسس تنظيم "داعش" في مقاطعة خراسان (ISKP) في الأصل عام 2014 على يد مجموعة من المنشقين عن تنظيم "القاعدة" وحركة طالبان وحركة طالبان باكستان (TTP)، وتحول إلى حركة إرهابية قوية عابرة للحدود الوطنية في السنوات الأخيرة، مدفوعا جزئيا بالضغوط التي مارستها حركة طالبان، ولكنه مدفوع أيضا بقيادة زعيمها الطموح سناء الله غفاري، وقد استثمر تنظيم "داعش" في ولاية خراسان (ISKP) بشكل كبير في تجنيد الأفغان من العرق الطاجيكي والأوزبكي وفي اختراق الهياكل الأمنية المحلية لطالبان.
وتمكن غفاري، باعتباره أفغانيا طاجيكيا وعضوا سابقا في الجيش الوطني الأفغاني– بدعم من زميله الطاجيكي خوكوماتوف دوديودويفيتش، المسؤول عن الدعاية في تنظيم "داعش" في ولاية خراسان– من توسيع نفوذ تنظيم ولاية خراسان ونطاقه عبر آسيا الوسطى (خاصة طاجيكستان وأوزبكستان وقيرغيزيا وكازاخستان) وفي إيران وروسيا وتركيا وأجزاء من أوروبا.
إن هذا التوسع السريع في نطاق عمليات تنظيم "داعش" في ولاية خراسان تصدّر عناوين الأخبار الدولية مؤخرا منذ تفجير 3 يناير/كانون الثاني في كرمان بإيران الذي أسفر عن مقتل 95 شخصا على الأقل وهجوم 22 مارس/آذار على قاعة كروكوس للحفلات الموسيقية في موسكو بروسيا والذي نجم عنه مقتل 144 شخصا.
لكن امتداد "داعش" في ولاية خراسان أعمق وأكثر توسعا حتى الآن. وأحد أقوى ممولي تنظيم "داعش" في جميع أنحاء العالم هو أحد عناصر تنظيم "داعش" في ولاية خراسان، الأفغاني المقيم في تركيا عصمت الله خالوزاي، الذي ساهمت شبكته المالية في تمكين تنظيم "داعش" في أفغانستان لسنوات، بما في ذلك فترة منصبه السابق في الخليج. ويُعتقد أيضا أن عمل خالوزاي في تركيا قد دعم القيادة المركزية لـ"داعش" في أماكن أخرى.
ومن المرجح أيضا أن يكون نمو تنظيم "داعش خراسان" وتسلله عبر الحدود الإقليمية قد أثر- أو على الأقل شجع- على الزيادة الأخيرة في النشاط الجهادي شمال القوقاز الروسي- والذي تم ربطه بقضية "داعش". 
وفي الآونة الأخيرة، شن مسلحون جهاديون سلسلة من الهجمات المنسقة في داغستان خلال عطلة عيد الثالوث الأرثوذكسي، مما أسفر عن مقتل 20 شخصا على الأقل. وقبل ذلك بأيام، شن مسلحون مرتبطون بتنظيم "داعش" تمردا داخل سجن في مدينة روستوف الروسية، واحتجزوا اثنين من الحراس كرهائن.
من وجهة نظر سلطات مكافحة الإرهاب الغربية، فإن تنظيم ولاية خراسان هو الجماعة الإرهابية التي تمثل حاليا التهديد الأمني الأكثر خطورة. ووفقا لواحد من كبار مسؤولي المخابرات الأوروبية، فإن التهديد الإرهابي الذي يشكله تنظيم "داعش" في ولاية خراسان على شمال أوروبا كان "حيا" و"نشطا" منذ أوائل عام 2023، وبالفعل فقد تعرض عدد من مؤامرات تنظيم "داعش" في ولاية خراسان للإحباط بهدوء في كل من ألمانيا وهولندا والدول الاسكندنافية. ويبدو أن الاستخبارات الأميركية قد حققت اختراقا فعالا بشكل خاص لعمليات أو اتصالات تنظيم "داعش" في ولاية خراسان، بالنظر لخصوصية التحذيرات الصادرة لروسيا قبل هجوم موسكو في مارس. كما يرجع الفضل في إيقاف الهجمات في الدول الاسكندنافية قبل وقوعها– والمرتبطة بحرق القرآن الكريم– إلى المخابرات الأميركية.

سوريا والعراق


وبالانتقال إلى معاقل "داعش" الأصلية، يبدو واضحا في الوقت الحالي على الأقل، أن الجماعة الإرهابية هي ظل لما كانت عليه سابقا في العراق. في الواقع، في العام الماضي، كانت "داعش" مسؤولة عن 88 هجوما فقط في جميع أنحاء العراق، في حين كانت قد نفذت 350 هجوما في العام الذي سبقه. ويعد هذا الانخفاض الحاد في الهجمات تطورا ملحوظا، نظرا لتاريخ "داعش" الممتد لأكثر من عقدين من الزمن في العراق، لكن التحسن المطرد في قدرات قوات الأمن العراقية والإرهاق الشعبي الحاد والكراهية تجاه تنظيم "داعش" نفسه قد أضعف جذور الجماعة بشكل كبير.
ومع ذلك، فإن الوضع لا يمكن أن يكون أكثر اختلافا في سوريا المجاورة. منذ يناير/كانون الثاني 2024، صعّد تنظيم "داعش" هجماته في جميع أنحاء سوريا بطريقة لم نشهدها منذ عام 2017. ففي الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام وحده، زادت هجمات "داعش" بنسبة 250 في المئة مقارنة بعام 2023 مع ما لا يقل عن 473 هجوما، خلفت 567 قتيلا. كان هذا التكثيف الدراماتيكي لنشاط "داعش" واضحا في شمال شرقي سوريا، الذي تسيطر عليه "قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة من الولايات المتحدة، وأيضا في البادية الوسطى والشرقية التي تخضع لسيطرة نظام الأسد، وقد شهدت كلتا المنطقتين ارتفاعا بنسبة 213 في المئة و320 في المئة في هجمات "داعش" على التوالي. ومع ذلك، كانت خطورة هجمات "داعش" أعلى بكثير في مناطق النظام، ذلك أن 88  في المئة من الوفيات وقعت هناك.

ويسعى "داعش" أيضا إلى الاستفادة من التقنيات الجديدة والناشئة، بما في ذلك اعتماده الكبير على استخدام العملات المشفرة، وانتشار تكنولوجيا الطائرات دون طيار

وما هو أبعد من الرقم بحد ذاته، أن تنظيم "داعش" قد عزز أيضا بشكل ملحوظ تعقيد وطبيعة هجماته في جميع أنحاء سوريا. في السنوات السابقة، كان نشاط التنظيم يقتصر تقريبا بشكل كامل على العبوات الناسفة المعزولة وعمليات إطلاق النار من السيارات المارة، ولكن في الأشهر الأخيرة، تحول التنظيم بشكل متزايد إلى هجمات مجمعة معقدة، وكمائن منسقة، وغارات مسلحة، حتى إنه استخدام  نقاط تفتيش وهمية للاستيلاء على المواقع والاستجواب وتصفية الأعداء. ويعتبر قيام "داعش" الآن بنشر مجموعات أكبر من المقاتلين في عمليات أكثر جرأة وخطورة مؤشرا واضحا على أنه يمكن أن يوظف قوته البشرية، بطريقة كانت مستحيلة حتى وقت قريب. وهذا يشير إلى أن عمليات التجنيد قد ارتفعت، وهي علامة تحذير من أعلى المستويات.
كذلك ابتعد تنظيم "داعش" في سوريا عن العمل فقط في المناطق الريفية ذات الكثافة السكانية المنخفضة، وصار ينشط بشكل متزايد في المراكز الحضرية، حيث ينفذ عمليات اختطاف واغتيالات وغارات هناك. وتتزايد التقارير عن نفوذ "داعش" في الظل، والذي يُفرض من خلال شبكة ابتزاز وترهيب منتعشة بالكامل وموجودة بهدف تقويض السلطات الرسمية وإضعاف ثقة الجمهور في مصداقية تلك السلطات. ومن المعروف الآن أن مقاتلي "داعش" يقومون بدوريات ليلية في بعض المناطق المحيطة بدير الزور ويمارسون نفوذا كبيرا على الأعمال التجارية المحلية في جميع أنحاء شرق سوريا وعلى امتداد مساحات واسعة منها. وكان التنظيم عدوانيا بشكل خاص خارج مدينة السخنة الغنية بالغاز في وسط سوريا، وهي البوابة إلى تدمر، أما في محافظة درعا الجنوبية، فما زال التنظيم يشكل تحديا مستمرا، سواء للنظام أو لفصائل المعارضة السابقة.
لقد كانت الدلائل التي تشير إلى أن "داعش" قد اختار الاستثمار في سوريا ومضاعفة جهوده على حساب العراق واضحة منذ سنوات، ولكنها اليوم تتجلى بشكل أكبر. إن حقيقة أن مكتب "داعش" في بلاد الرافدين (العراق) قد انطوى مؤخرا ولأول مرة تحت سلطة "مكتب الأرض المباركة" المسؤول عن سوريا، يحكي الكثير عن المكان الذي يكمن فيه ميزان القوى. إن أمير العمليات الحالي في سوريا، عبد الله مكي الرفاعي، قد وضع الجماعة على طريق الانبعاث الواضح، وفي الوقت الحالي على الأقل، لا توجد أية مواجهة واضحة أو استراتيجية.

الآفاق


إلى جانب فروعه القوية في جميع أنحاء أفريقيا، وفي أفغانستان، وفي سوريا والعراق، فإن التنظيم يحتفظ أيضا بقدرات كبيرة في شمال القوقاز الروسي، وفي الفلبين، وشمال أفريقيا ومصر. وتجدر الإشارة إلى أن الارتفاع الأخير في النشاط جنوبي الفلبين قد ولّد مخاوف استخباراتية محلية، ولكن أيضا على المستوى الإقليمي في كل من إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة، حيث استمرت الأقاويل حول الهجمات الأجنبية في الأشهر الأخيرة. وبعبارة أخرى، يشكل "داعش" تحديا عالميا حقيقيا اليوم، كما يشكل تهديدا كبيرا.
عندما ظهر تنظيم "داعش" في الساحة الدولية قبل عشر سنوات، كان منظمة إرهابية مركزية بشكل كبير تدار بإحكام، يقع مقرها الرئيس في سوريا والعراق وتتوسع خارجيا، مع سيطرة مركزية قوية على الفروع المكتسبة حديثا. ولكن وسط الضغوط المتزايدة والمستمرة على القيادة المركزية في سوريا والعراق– بما في ذلك فقدان أربعة من القادة منذ عام 2019– واستمرار تطوير وتوحيد فروعه في الخارج، أصبح تنظيم "داعش" لامركزيا من حيث القيادة والسيطرة. وتحظى فروع التنظيم المستقلة بمستوى أكبر من الاستقلالية العملياتية اليوم، في حين تحتفظ المديرية العامة للمحافظات بخطوط الاتصال والخدمات اللوجستية بين الفروع، حيثما كان ذلك ممكنا ومثمرا.
وفي الواقع، كانت هناك تكهنات مستمرة في عام 2024 بأن القيادة المركزية لتنظيم "داعش" ربما غادرت قاعدتها التقليدية في العراق وسوريا وانتقلت إلى مكان آخر- ربما إلى تركيا، أو حتى إلى مكان ما في أفريقيا. وسوف تكشف لنا الأيام ما إذا كان أي من ذلك صحيحا، ولكن مما لا شك فيه أن النقاط المحورية الأكثر فعالية لـ"داعش" في التخطيط لهجمات خارجية، والسيطرة على الأراضي والتعبئة، وجمع الأموال والتحويل المالي، وحتى التجنيد لا تتمركز في سوريا أو العراق، ولكن في أفريقيا وأفغانستان وآسيا الوسطى وتركيا. وقد أصبح كثير منها مترابطا بشكل متزايد، ويتجمعون حول مناطق الزخم العملياتي لـ"داعش" أو التجمعات الحادة لكبار الناشطين التي تكون بعيدة عن اهتمام مكافحة الإرهاب.

لينا جرادات

ويعود هذا الواقع جزئيا إلى الإجراءات الغربية الناجحة- ولكن غير الكافية- لمكافحة الإرهاب في سوريا والعراق، كما أنه ناتج أيضا عن الإرهاق الدولي في مكافحة الإرهاب وعدم الاهتمام به عندما يتطور في مناطق جديدة أو أكثر بعدا. ويبدو جليا أن هذا أمر يدركه تنظيم "داعش"، وكذلك تنظيم "القاعدة"، ويسعى جاهدا لاستغلاله.
وما يزيد الأمور سوءا، أن هناك أزمات متجذرة بعمق مرتبطة بالتدهور الإنساني، وإرهاق الجهات المانحة للمساعدات والميزانيات المحدودة، وتفاقم ضغوط تغير المناخ، والنزوح والهجرة الجديدة والمتزايدة، وتكثيف التغير الجيوسياسي وعدم الاستقرار، وهي كلها عوامل تخلق أنواعا من الفجوات الاجتماعية والسياسية، والمساحات غير المحكومة، والفراغات التي تستطيع تنظيمات مثل "داعش" أن تتقدم وتزدهر فيها بسهولة.
ويسعى "داعش" أيضا إلى الاستفادة من التقنيات الجديدة والناشئة، بما في ذلك اعتماده الكبير على استخدام العملات المشفرة، وانتشار تكنولوجيا الطائرات دون طيار، والأسلحة التي تنتجها الطابعات ثلاثية الأبعاد، وأخيرا الذكاء الاصطناعي. وفي حين أن الكثير من هذه الأمور كانت موجودة منذ عدة سنوات، فإن تجربة "داعش" للذكاء الاصطناعي غدت الأحدث بينها.
وفي أعقاب الاختبارات المبكرة لـ"مدفع الخلافة"، وهو سلاح سيبراني يعتمد على الذكاء الاصطناعي لهجمات الحرمان الآلي من الخدمة، بدأ مؤيدو "داعش" البارزون على الإنترنت في استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء ونشر تقارير إخبارية متطورة تحاكي تقارير وسائل الإعلام الرئيسة. وتقوم منصات الدعاية المرتبطة بـ"داعش" أيضا بتجنيد الأفراد ذوي الخبرة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بشكل علني لتطوير أدوات لإنتاج ومشاركة الملصقات والمقالات ومقاطع الفيديو التي تعرض أنشطة "داعش" بسرعة.

لعدة سنوات، كان معظم توسع "داعش" حول العالم يتم من مجموعات تبدو أنشطتها وأجنداتها موجهة محليا

وبمرور الوقت، ستعمل أدوات مثل الذكاء الاصطناعي على مضاعفة قوة التنظيم بأسعار معقولة، ما يمكن أن يؤدي إلى توسيع نطاق "داعش" وزيادة التهديد الذي يشكله بشكل منقطع النظير، كما سيعزز ظهوره بشكل كبير.
الحقيقة أن "داعش" الذي يسير بشكل متزامن بخطى ثابتة للظهور مجددا في سوريا، يقدم صورة مزعجة لتهديداته المحتملة في المدى المنظور. كما أن سيطرة التنظيم الإقليمية في تزايد، وكذلك وصوله العملياتي إلى مناطق جديدة والعودة إلى أوروبا وربما حتى الولايات المتحدة. وما زال تهديد الهجمات الإرهابية المستوحاة من "داعش" والموجهة خارجيا قائما، بما في ذلك في أوروبا والولايات المتحدة وكذلك أيضا في أماكن مثل آسيا الوسطى وروسيا وتركيا وإيران وجنوب شرقي آسيا. ومع الألعاب الأولمبية المقرر انعقادها في فرنسا هذا الصيف، هناك مخاوف شديدة من أن "داعش" سوف يصمم على التحرك في مثل هذا السياق البارز.
أخيرا، إن المجتمع الدولي مذنب لأنه انتصر في كثير من المعارك ضد "داعش"، لكنه خسر الحرب ضده، ثم حول انتباهه بعيدا عن الصورة بأكملها. ولعدة سنوات، كان معظم توسع "داعش" حول العالم يتم من مجموعات تبدو أنشطتها وأجنداتها موجهة محليا. لكن اتضح أن هذه النزعة المحلية كانت غطاء استراتيجيا لتصميم التنظيم الأوسع على إنشاء وتوحيد وتمكين حركة متماسكة وعابرة للحدود لفرض مجموعة من التهديدات. إن مكافحة وهزيمة خصم مثل هذا تحتاج إلى استراتيجية طويلة الأمد ومتسقة، لكن لم يظهر شيء من هذا القبيل حتى الآن. وما لم يتغير ذلك، فإن "داعش" باق ويتمدد.

font change

مقالات ذات صلة