كانت مناظرة حامية وتنافسية، لكن منضبطة عموما بين المتنافسين الرئاسيين، جو بايدن ودونالد ترمب، إذ غابت عنها الفوضى التي طبعت المناظرات الرئاسية التي جمعت الرجلين في 2020 بسبب كثرة المقاطعة أثناء الكلام، خصوصا من ترمب، وهيمنة الهجمات الشخصية ضد الطرف الآخر، على نقاش القضايا.
لم تخلُ مناظرة البارحة من مثل هذه الهجمات لكنها لم تكن بالحدة السابقة، فضلا عن غياب المقاطعات في الكلام، مع خوض المتنافسين نقاشا في القضايا التي تهم الأميركيين. وعلى مدى 90 دقيقة، دون جمهور أمامهما، مع غلق ميكروفون الطرف الآخر أثناء حديث الخصم منعا للمقاطعة، خاض المتنافسان في أهم هذه القضايا بشيء من تركيز: الاقتصاد، الضرائب، الإجهاض والهجرة، مع تناول أقل تركيزا على قضايا أخرى أهميتها ثانوية في هذا الموسم الانتخابي كالتغير المناخي ورعاية المحاربين القدامى والسياسة الخارجية.
لم يكن ثمة جديد في تناول الأفكار وعرض القضايا، إذ كانت غالبا، على الجانبين، تعبيرا أمينا عن الخط الأيديولوجي الحزبي الذي ينتمي له كل مرشح: ترمب إلى يمين الحزب الجمهوري، وبايدن وسط الحزب الديمقراطي. فمثلا كان أحد أشد الخلافات وضوحا بين الاثنين هو كيفية إدارة الاقتصاد وعلاقة هذا بالضرائب. تقوم الفكرة الجمهورية، وهي جوهر الرأسمالية الكلاسيكية، على أن الأشد غنى، من أصحاب الشركات، هم المحرك الأساسي للاقتصاد لأنهم الذين يصنعون فرص العمل للآخرين عبر اتساع أعمال شركاتهم وتحقيقهم الأرباح، وبالتالي يستفيد الجميع، خصوصا الطبقة الوسطى، الفئة التصويتية الأوسع في الولايات المتحدة التي تشكل نحو 54 في المئة من مجموع الأميركيين. لذلك يحاجج ترمب، كما فعل في المناظرة الأخيرة، بأن إعطاء تخفيضات ضريبية لهم، يُنشط الاقتصاد.
على الجانب الآخر، ينظر الديمقراطيون لهذا الأمر على أساس العدالة الاجتماعية أكثر من الفائدة الاقتصادية. فرغم إقرارهم بصحة الحجة الرأسمالية بخصوص دور أصحاب الشركات في صناعة الرفاهية العامة، فإنهم يصرون على أن على هؤلاء أن يدفعوا نسبا ضريبة أعلى شبيهة بالتي يدفعها المنتمون للطبقة الوسطى الذين يحققون دخولا أقل بكثير من الأغنياء ويعتبرون من متوسطي الدخل.
لذلك قال بايدن إن على هؤلاء الأغنياء- نحو ألف ملياردير في أميركا- أن يدفعوا 24 في المئة أو 25 في المئة من مداخيلهم كضرائب، بدلا من الـ8.2 في المئة التي يدفعونها حاليا، الأمر الذي يوفر موارد كبيرة للدولة لتسديد الدين القومي الذي يصل إلى 35 تريليون دولار.
في المواسم الانتخابية، ينسجم انتقاد الأكثر غنى في أميركا مع مزاج أميركيين كثيرين، وهي "ثيمة" تتكرر في خطاب الديمقراطيين كما فعل بايدن في المناظرة.
وفي القضايا الاجتماعية كان الإجهاض هو الموضوع الأهم، إذ هاجم بايدن نجاحَ ترمب في إلغاء الحماية الفيدرالية للإجهاض من خلال ترشيح قضاة محافظين في المحكمة العليا صوتوا لتحويل الإجهاض إلى شأن يتعلق بحكومات الولايات، الأمر الذي يعني تقييده اتساقا مع النظرة الجمهورية المناهضة عموما للإجهاض.
وبسبب أن غالبية الأميركيين (نحو 63 في المئة)، خصوصا النساء، يدعمون حق المرأة في الإجهاض، تحاشى ترمب- في تراجع عن خطابه السابق قبل سنوات- استخدام الحجة الأخلاقية التقليدية المناهضة للإجهاض التي يستند عليها الجمهوريون، خصوصا المسيحيين الإنجيليين الداعمين بقوة لترمب، بوصفه قتلا لحياة إنسانية. لذلك، لم يُظهر ترمب المعارضة للإجهاض كفعل، بل اكتفى بالحجة القانونية بأن الولايات هي المسؤولة عن تنظيم هذا الأمر وليس الحكومة الاتحادية. لقد خَسر ترمب تصويت النساء في 2020، وثمة مخاوف جمهورية من خسارة المزيد من هذه الأصوات في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني القادم بسبب الموقف من الإجهاض.
وكانت الهجرة هي القضية الوحيدة في المناظرة، التي اتفق عليها الطرفان بوصفها مشكلة بحاجة إلى حل، لكنهما اختلفا في من تسبب فيها كمشكلة ويديمها من دون حل. يريد الاثنان إيقاف تدفق المهاجرين غير القانونيين عبر الحدود الجنوبية مع المكسيك (أحيانا يصل عدد هؤلاء المهاجرين إلى نحو ربع مليون شخص شهريا). اتهام بايدن الصحيح لترمب بأن الأخير، ضغط على المشرعين الجمهوريين لرفض تمرير قانون جيد تم التفاوض بشأنه يلبي معظم المتطلبات الجمهورية بهذا الصدد ويحل المشكلة، حتى لا يستفيد منه بايدن، لم يُقابل برد من ترمب الذي اختار ترديد مقولاته العامة، وغير المثبتة لحد الآن، بأن المرضى النفسيين والمجرمين الخارجين من السجون هم الذين يأتون من دول أميركا اللاتينية ليعبروا الحدود الجنوبية وأن بايدن يسمح لهم بذلك!
في السياسة الخارجية، عند التناول السريع لقضية غزة، غاب النقد لإسرائيل الذي اعتاده بايدن، في ظل هجوم ترمب عليه، ناعتا إياه بأنه "أصبح فلسطينيا" يمنع إسرائيل من "إنهاء العمل"، وهي التهمة التي رد عليها بايدن بأن "حماس" هي التي تمنع إنهاء القتال في غزة من خلال رفضها الخطة التي قدمها وتأطرت رسميا بقرار من مجلس الأمن الدولي.