إلى أطفال غزة وإلى جميع الأطفال في جحيم الحروب
أستعرض أخبار الحروب وما تؤدي إليه، فيركض قلبي وخيالي إلى الأطفال في عالم تتركز قيمه وبحوثه ومفاخره وموازينه وميزانياته وسياساته على الحروب القائمة أو المحتملة، قبل البحوث في أساليب أخرى لتحقيق الأهداف وتجنب الحروب بالمفاوضات، دون تنازلات ولا إلغاء، أي بالعقل. العقل، تلك الموهبة الخارقة الفريدة التي يمتاز بها الإنسان بين مخلوقات الأرض، وبها قهر المستحيلات، لكن كثيرا ما يهملها أو يسيء استخدامها. العقل خازن المنجزات والمعجزات، أعني الحلول التي كانت تبدو مستحيلة.
لا أتوقف عن التساؤل: لماذا يصر بعض القادة أو الزعماء على الحرب، على الرغم من وجود هذا السلاح الإنساني العظيم: "العقل"، ورديفه الخيال المبدع الذي يحقق ما يبدو معجزا. العقل القادر على استشراف النتائج وابتكار العوائق أو الحلول، والتفاوض لبلوغ الممكن من الأهداف بلا قتل أو قتال.
لكن المشكلة هنا، في حالات الصراع، هي أن العقل لا يفعل ولا يشتغل من جهة واحدة؛ ولا بد من تعاون أو اشتغال الجهتين معا. ويبدو أن هذا الحلم لا يزال بعيدا أو صعب التحقق. لأن تراث الحروب وأخلاقياتها ومعاييرها يقدم "البطولة والفتك" (أي القوة المادية، والمواجهة والشجاعة الميدانية، بمعنى الجرأة) على شجاعة الحكمة وعقلانية التحليل، وعلى النظر البعيد؛ كما يقدم ضجيج المعارك على سكون المفاوضات العاقلة المنطقية بل المبدعة، على الرغم من كونها في مصلحة الطرفين، وعلى الرغم من توترها وصعوباتها، هي أيضا ، بالتأكيد.
نعرف جميعا أن الحروب أو معظمها انتهت بمفاوضات
الحرب راسب بدائي، يهمش المبادئ الخلقية الحضارية ويتجاهل إبداعية الإمكانات العقلانية. وهو راسب يغيب تاريخ الحروب وعبرها ونتائجها الفظائعية، ويغيب احتمالات الحوار وآفاق الحلول العقلية. يرسم للعالم، إضافة إلى هذا كله مسارا يقوده التعصب والطمع والاستكبار وإنكار الآخر وتغييبه، وهو المسار الذي يستبعد العقل وشروط الواقع وإمكان الحل والتفاهم.
انطلاقا من هذا كله، وتبعا له، لا يعلن أو لا يبرز من صور الحرب وتواريخها غير صورة المنتصر والمنهزم. تغيب صور الويلات، وتغيب كذلك التحولات التاريخية من الواجهات الإعلامية. فمن قال، مثلا، إن فرنسا وألمانيا، بعد حربين عالميتين ضاريتين أوقعتا ملايين الضحايا، ستصبحان أخوين حليفين في الاتحاد الأوروبي؟ وليس هذا المثل وحيدا في التاريخ.
نعم، الحرب راسب بدائي، لا سيما حين يكون في أساس الصراع خلاف أو إختلاف ديني أو اختلاف عرقي أو عقائدي سياسي، يعرف كل عاقل أنه لا يحسم في المستوى التاريخي الميداني. ذلك أن مرجع ما هو ديني يتجاوز الإنسان والمستوى التاريخي. وحتى إذا أصبح مرجعه إنسانيا دنيويا، فإنه يقع في فخ الصراع، لأنه يكون قد تسيس وخرج من أفقه الحكيم المتعالي.
نعرف جميعا أن الحروب أو معظمها انتهت بمفاوضات. لنقرأ التاريخ: التاريخ معلم عظيم لمن يملك موهبة التعلم والاعتبار. مع ذلك يصر الإنسان على استئناف التجربة التي تكررت، وعلى تكرار نتائجها البائسة المدمرة.
ولماذا لا تتعايش الدول أو تتفاوض بدلا من تبادل القتل وابتكار هذه المغامرة التي تفني آمال الإنسان، وبخاصة جيل الشبان؟
لماذا لم تكن المفاوضات ممكنة قبل اختبار القوى، حربيا، أي بسباق القتل والتدمير؟ ومن قال إن موازين القوى ستبقى على حالها؟ وإن الظروف ومحاور الصراع والمصالح الدولية لن تتغير؟ وإن الخاسر سيتنازل عن حقه وسوف ينسى هزيمته وخسارته؟
ولماذا لا تتعايش الدول أو تتفاوض بدلا من تبادل القتل وابتكار هذه المغامرة التي تفني آمال الإنسان، وبخاصة جيل الشبان؟
والآن، مع التقدم الإعلامي والعلمي وتطور الأسلحة ولا سيما أسلحة الإبادة الجماعية، هل سيتطور العقل الإنساني ويدرك عبثية الحروب وفضائل التعاون؟ هل سيعيد هذا العقل العظيم التأمل في حتميات الحوار والمفاوضات وفي أفضلية نتائجها؟ وهل تتطور مفهومات الحضارة والرقي وتتوقف هذه الظاهرة التي تلغي المبادئ الإنسانية العليا وتهمش دور العقل، الخصيصة التي تميز الإنسان عن سائر الكائنات؟