وفي ما يخص استثمار السرد والحكاية في بعض الأحيان، فهذا يبدو لي إيجابيا، إذا تم بذكاء ورهافة. وإذا عدنا إلى الشعر العربي القديم، فسنجد قصصا تتخلل الكثير من قصائد الجاهليين وشعراء العصرين الأموي والعباسي... علينا ألا ننسى، من جهة ثانية، أن كتابا غربيين عديدين دعوا إلى كتابة لا تقيم وزنا للفروق بين الأجناس الأدبية. في ما يخصني، أترك لنفسي في بعض الأحيان حرية "استثمار" السرد والحكاية في الكتابة الشعرية، لكن إن تعلق الأمر بقصة فسأكتبها كقصة لا كقصيدة، هذا بديهي.
في ما يخص رؤيتي الشخصية لشعري، سأكتفي بجواب عام: أعتقد بأن شعري وثيق العلاقة بشخصي وبتجربتي الفردية والاجتماعية في الحياة، كما أن لثقافتي الشعرية الشخصية أثرها القوي في تشكيل ملامحه، ومسعاي يتمثل في كتابة شعر متجدد، مستكشف لأساليب مختلفة في الكتابة.
فردية
- في أول قصيدة من مجموعة "فراشة من هيدروجين" نقرأ: "كنت على وشك الغرق في البحر البسيط/ حين أنقذني بحارة عروضيون/ ..../ لقد حكم علي بالتسكع/ فبيتي الشعري/ قد جرفته الأمواج/ وعلي بمساعدة نموري/ أن أبنيه/ ثانية". هل هذه الصورة هي خلاصة ما لعملك داخل ورشتك الشعرية؟
هذه قصيدة مرحة، أولا وقبل كل شيء. وهي تنطلق من تجربة معيشة، تعود إلى سنتي العاشرة، إذ كدت أغرق فعلا في البحر، لكني أفلحت في النجاة. وقد تخيلت أن ذلك البحر الذي كدت أودع فيه الدنيا اسمه "البحر البسيط"، وبالتالي، فالسباحون المنقذون فيه لا بد أن يكونوا عروضيين إضافة إلى كونهم بحارة. وما دام ذلك البحر قد فشل في القضاء عليّ، فقد جرف بيتي، ولذا، فعلي أن أعيد بناء مسكني، الذي يجب أن يكون بيتا شعريا، تناغما مع باقي عناصر القصيدة. ولأن الأنا مؤسطرة كما ترى، فإن لها نمورا تساعدها في إعادة البناء. يمكن القول إن النمور ههنا تمثل قوى الخيال، وإن القصيدة التي تكتمل تستحث على البحث عن غيرها. ما يكتب يكون قد اكتمل وانتهى، وبالتالي يصبح كأنه استقل عن الذات، فيجب إنشاء مسكن جديد، أي قصيدة جديدة، وهكذا دواليك.
- في مجموعة "فراشة من هيدروجين"، وكذلك في "رجل يبتسم للعصافير"، بدا أنك تبدأ أو توسع مساحة ما للذات، وتبتعد في الوقت نفسه بمسافة ما عن المجموعات الثلاث الأولى. كيف ترى ذلك، وهل يمكن العثور على الشاعر أو أجزاء من سيرته في شعره، كما هو الحال لدى الروائيين مثلا أم أن الشعر يحجبها داخل لعبة المجازات؟
في مجموعتي "فراشة من هيدروجين" و"رجل يبتسم للعصافير"، وحتى في آخر مجموعاتي حتى الآن، "عيون طالما سافرت"، هنالك بالفعل حضور أكبر للذات. هذا الحضور كان موجودا إلى حد ما في المجموعات الثلاث الأولى، لكن بشكل أخفت.
أحيانا، يمكن العثور على أجزاء من سيرة الشاعر في بعض قصائده، لكن صياغتها لا تكون مباشرة، فكأنما ينظر إلى المشاهد السيرية عبر موشورات تسبغ عليها أشكالا عجائبية غير متوقعة، فإذا أضفنا إلى هذا كون أحلام المرء تدخل أيضا في سيرته، فلا شك أن تلك السيرة تصبح منبعا مهما للكتابة الشعرية، لكن العناصر لا تعرض في حالتها الخام. لم يكن قصدي طبعا أن أكتب سيرة ذاتية توثيقية من خلال شعري، ومع ذلك فكتاباتي مرتبطة بي وبتجاربي، صغيرها وكبيرها.
مسألة السيرة الذاتية في الكتابة الشعرية تطرح نفسها بشكل أقوى في ما يخص مجموعتي المعنونة: "رجل يبتسم للعصافير". هذه المجموعة تشكل بالنسبة إليّ سيرة ذاتية واقعية ومتوهمة (في نطاق شعري وبصورة واعية)، وهي سيرة يتآلف فيها المتخيل والملموس والغرائبي والحلمي والكتابة الشعرية هي التي تمنحها قوامها وتماسكها.
تحولات
- ضمن التقسيم الافتراضي ذاته، بين أول ثلاث مجموعات، والمجموعات الثلاث اللاحقة، ما التحولات التي طرأت على شعرك؟ عن ماذا تخليت وما الذي احتفظت به وطورته؟
لم أتخلّ عن شيء يذكر، في ما عدا بعض النفحات الغنائية التي قد تجدها في واحدة من قصائد مجموعتي الأولى. ما أصبحت أكثر تشددا في خصوصه هو أن تكون كل قصيدة مغامرة استكشافية جديدة قد لا أعرف في المنطلق ما الذي ستفضي إليه، وما ترسخ أيضا هو ارتباط أكثر لقصائدي مع معيشي أو تجاربي الواقعية والجوانية وحتى الواقعية-الحلمية. في هذا الصدد، وقفت من قبل بشكل خاص عند مجموعة "رجل يبتسم للعصافير".