منذ أن فتح "حزب الله" اللبناني جبهة الجنوب، إسنادا لحركة "حماس" في غزة، ازدهرت أصوات "اليمين الماروني" الداعية إلى تقسيم لبنان على أساس النظام الفيدرالي. ومؤخرا، تجاوب معها "اليمين الشيعي"، عبر "أمينه العام" الذي ردّ بصريح العبارة: "نحنا أكثرية وأنتم أقلية وبدكن نعد، تعوا نعد" أي إحصاء السكان حيث ستظهر لمن الأغلبية.
يدعو "اليمين الماروني" إلى فيدرالية طائفية، ويتبنى خطابا تمييزيا عنصريا، يرتكز على الفروق التي يسميها "حضارية"، بين "النحن" و"الهم"، بينما يركن "اليمين الشيعي" إلى الثقل العددي، كونه مجتمعا حربيا، من أولوياته الزواج، فضلا عن اقتناء الصواريخ.
في الحالين، يبدو أن "اليمينين" لم يمرا من صوب مفهوم النظام الفيدرالي، فأغلب الظن أنهما يتجاهلان عن قصد أن فدرلة لبنان، سوف تُنتج مزيدا من الويلات والصراعات بين شعوبه، وفي الوقت نفسه، هما متفقان على مبدأ أن فيدراليتيهما لن تكونا إشراكا لجمهوريهما في السلطة، بل تقسيم للسلطة بينهما، لمزيد من التحكم في هذين الجمهورين. وسواء دعوَا إلى التقسيم على أساس حضاري، أو على أساس عددي، فلا يعنيهما ما إذا كانت الفيدرالية هي الحل المثالي لأزمات لبنان، أو إنها ترحيل لها. وينحصر اهتمامهما في أن الفيدرالية تحمي سلطتيهما، وتستبعد هيمنة أي منهما على القرارات المصيرية، مثل قرار السلم والحرب، وهوية لبنان الحضارية، وما يدعمهما في ما يذهبان إليه أن اللبنانيين تقسيميون طائفيون بطبعهم، ولم يقتنعوا بعد بأن القضاء على الغبن الطائفي، يتم من خلال القضاء على النظام الطائفي والحكم الطائفي والأحزاب الطائفية، وليس من خلال تقسيم بلدهم بين الطوائف.
يبدو أن "اليمينين" لم يمرا من صوب مفهوم النظام الفيدرالي، فأغلب الظن أنهما يتجاهلان عن قصد أن فدرلة لبنان، سوف تُنتج مزيدا من الويلات والصراعات بين شعوبه
وفي النظام الفيدرالي، لا يوجد جدل حول الحقوق التي يتمتع بها الناس على المستوى الوطني أو المحلي، بل إن المناقشات تدور حول الصلاحيات التي تتمتع بها الحكومات المحلية والحكومات المركزية. فحقوق سياسية مثل حرية الترشح والانتخاب وإنشاء الأحزاب والنقابات والصحافة والرأي والتعبير، ومدنية مثل حقوق المرأة والطفل والأقليات، والمساواة بين الرجل والمرأة، ليست مواضيع للفيدرالية، إنما تعتمد على ثقل الديمقراطية في المجتمع والدولة.
لذلك فإن ادعاءات مثل أن الفيدرالية تضمن الحرية والسيادة والاستقلال من جهة "اليمين الماروني"، ومن جهة "اليمين الشيعي" تحمي إنجازات المقاومة واستراتيجيتها الدفاعية وتحالفاتها، هي "عدة النصب" التي يستخدمها "اليمينان" حاليا، للحفاظ على مكاسبهما الخاصة وتحقيق مصالحهما.
دولة مثل سويسرا، يستشهد بها "اليمين الماروني"، ليُظهر أن النظام الفيدرالي يجلب الأمن والسلام والرفاهية والحريات، وهو في الواقع ذرّ للرماد في العيون، فسويسرا، لم تكن أساسا دولة موحدة، ثم جلس شعبها ذات غروب على شط بحر الهوى، وقرر التحول إلى النظام الفيدرالي، بل وصل إلى هذا القرار، بعدما فتكت به حروب دامية وانقسامات دينية وثقافية دامت عقودا.
أما إيران التي يراها "اليمين الشيعي" نموذجاً مثالياً في الحكم الديني المرن، المبني على تقاسم السلطة بين المؤسسة السياسية (الزمنية) والمؤسسة الدينية (الروحية) وانسجامهما، وفق رؤية عقدية شيعية (ولاية الفقيه) فقد أثبتت التجربة أن هذا النظام لا يختلف في ديكتاتوريته وظلاميته عن نماذج حكم مثل "داعش" و"طالبان"، أما على الصعيد المحلي، فإن حكومة الشاه (الصهيوـ أميركي) على مركزيتها، كانت أقل قمعية وفساداً وعداء للشعب من الحكومة الحالية.
هذان النموذجان (السويسري والإيراني) من المستحيل أن ينطبقا على لبنان، والحقيقة أن "اليمينين" يدركان صعوبة ذلك، لكنهما يسعيان من خلال دعواتهما إلى الفيدرالية سراً وعلانية، إلى تأمين استمراريتهما ليس أكثر، ففي حال تم تقسيم لبنان، سيُسرعان إلى خطف السلطة فوراً، وستسير أمور اللبنانيين؛ كالعادة، من سيّئ إلى أسوأ.