بقيت باريس خلال القرن العشرين ملجأ لمئات الكتّاب والفنانين من مختلف أنحاء العالم، بعضهم جاء إليها هربا من مآسي بلده، والبعض الآخر جاء مهاجرا ليستقر فيها بعدما فتنته سمعتها ووجد فيها ما يغنيه عن أمكنة أخرى. مع هؤلاء جاء عدد من الشعراء العرب في عقود مختلفة، فمنهم من كتب باللغة الفرنسية مثل جورج شحادة وجورج حنين وإدمون جابيس وفينوس خوري غاتا وصلاح ستيتية وأندريه شديد وجويس منصور وناديا تويني وإيتل عدنان ومحمد ديب، ومنهم من بقي يكتب بالعربية ولا يزال يعيش فيها. لكن وجود الشعراء العرب الآن في باريس لم يعد مشابها لما كان عليه في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، حين سكنها محمود درويش وأنسي الحاج وأحمد عبد المعطي حجازي وبسام حجار وغيرهم. وهناك شعراء لا يزالون يعيشون في باريس أو استقروا فيها مثل أدونيس وعبد اللطيف اللعبي وكاظم جهاد وعبد القادر الجنابي وعيسى مخلوف وآخرين.
ظلت المكتبة الفرنسية تستقبل ترجمات للشعر العربي باللغة الفرنسية في مختلف المراحل، وأكثر هذه الأعمال ينشر في كتب مزدوجة اللغة فتحوي النصوص العربية إلى جانب النصوص الفرنسية المترجمة. آخر هذه الأعمال مجموعة شعرية لأدونيس بعنوان "اللوفر- فضاء الأبجدية المستقبل"، وأخرى لصالح دياب بعنوان "تخطيطات أولية من أجل جزيرة" ومجموعة لهالا محمد بعنوان "السنونو هاجرت قَبلنا".
في المجموعات الشعرية الثلاث الأخيرة نقرأ شعرا يتراوح بين المنفى والتأقلم مع المهجر الجديد، تصاحبه الحسرات عن حضارة كانت.
نصوص هالا محمد جاءت محملة بالأسى عن بلاد غادرتها
فنصوص هالا محمد (ترجمها إلى الفرنسية أنطوان جوكي، عن منشورات "برونو دوسي") جاءت محملة بالأسى عن بلاد غادرتها أو طردتها وظلت تطاردها، فنقرأ ما يشبه المرثيات لأمكنة هاجرت السنونو منها "مجزرة مجزرة". نقرأ تعريفات شعرية للوطن والمنفى والبيت والذكريات:
"ابتعدنا عن بلادٍ كانت لنا، واقتربنا من بلادٍ تبتعد عنا/ ظِلالُنا في الفضاء الطير/ ظِلالُها نحن على الأرض". والهجرة تشمل أشياء البيت التي تبقى حتى "يزهر القش وتزهر على الأرض الذاكرة".
ومهما قال النص "في البدء كانت الهجرة"، فإن العودة تبقى أملا "جلُّ ما أرجوهُ حين أعود إليها/ أن أجد الطريق أن أجد الرصيف أن أجد البيت العتيق/ وأن تتذكّرني... الشجرة". فهناك تُركت "صباح الخير في غُرف النوم" وأبطال الحكايات في رفوف المكتبات "تحمي حكاياتنا".
في مجموعة صالح دياب (ترجمت النص إلى الفرنسية الشاعرة آني سالاجر إلى جانب الشاعر نفسه، وصدر عن دار "ترابست") لا نجد كثيرا هذا الأسى الغنائي عن البلاد التي تركها، وهي نفسها سوريا التي تركتها أو طُردت منها هالا محمد، فهذا الأخير قد جاء إلى فرنسا في وقت مبكر، قبل أحداث 2011، إلا أن المجموعة الصادرة حديثا تحتوي على نصوص تعود إلى حياته الأولى في فرنسا، ولهذا سنقرأ مفارقات الحياة بين مكانين: "لنا بلادٌ/ تركنا فيها أصدقاءنا/ يلبدون حول الحسرات/ أو يفكّرون بالثلج/ لتبيضَّ مرتفعاتُ وحدتِهم"، ولا يلغي الحديث عن "هذه البلاد" نسيان تلك التي تُركت هناك.
تتوزّع نصوص دياب بين الحنين إلى أشياء كثيرة، بعضها غير واضح، والوحشة من أشياء أخرى. وهي شعرية تتشكلّ من مشهدية عامة للبيت والثلوج والأشجار والماء وغيرها، مع هواجس لا تخرج كثيرا عن الأنا مثل علاقات الحب، أو تذكّر الوجوه. لكن الحنين لا يطغى على تفاصيل الحياة كما في نصوص آخرين "لا أحتاج بلادا/ كي أرافق الندم/ حتى قمة الجبل/ ولا أزهارا/ كي أحج إلى المساء".
أما في مجموعة أدونيس (التي أنجز ترجمتها الفرنسية الشاعر نفسه بالتعاون مع دوناتيان غراو ونشرت عن دار "سيغرز")، ستبدو العلاقة مع المكان الذي أتى منه الشاعر مختلفة، فهنا ومن خلال تأمل الشاعر لمحتوى القسم الشرقي في متحف اللوفر يقدّم قراءة شعرية للتاريخ، وهي قراءة تتبع حكمة القول الشعري الذي عُرف به هذا الشاعر منذ صدور ديوانه الأول عام 1961 "أنظر إلى البلاد لكنني لا أراها" و"الضوء الذي لا يمتلئ بالحب ليس إلا ظلاما".
نجده يسأل جلجامش وإنكيدو عن "أساطير المخيّلة وأقاليم المعنى؛ وماذا نقول لحضارة ولدت في أحضان الفرات ودجلة، وها هي تُنحَر على ضفافها؟".
تتعدد النصوص والأصوات لشعراء عرب في باريس إلا أن وجهتهم لا تزال تستعيد "تلك البلاد"
ويرى الخراب بجيوشه وأساطيله في مقابل لا جدوى الأساطير وكواكبها ومجرّاتها. ويهجس النص بأسماء وأمكنة وحضارات: جلجامش وإنكيدو وإنهيدوانّا والإسكندر الأكبر وهوميروس وعوليس وفينوس وهولدرلن ونفرتيتي وأمرؤ القيس والمعري وابن عربي... في تداخل يربط فيه الشاعر الأبجدية الأولى بالمستقبل. ومعهما تتوالد الأسئلة "كيف تنهش أسنانُ التاريخ كبِد الحرّية؟ ولماذا لم يعد الممثل يقومُ بالأدوار التي ليست له؟".
والبلاد هنا لا تخرج عن هذا التساؤل القلق: "أنظر إلى البلاد لكنني لا أراها./ أنظر إلى البحر، فيبدو كأنّه حفرة لبستاني جائع ويكاد أن يموت/ أين أنتِ أيتها المعادن- خصوصا أنتَ، أيها الذهب!/ لماذا يفلت القدرُ دائما من يد الإنسان؟".
وجهة النص الطويل هذا لا يخرج عن هذا المنحى التأملي وإن تعدّدت أصواته، وقراءته كحال وجه جلجامش: "وجهكَ واهنٌ، وجنتاك مرهقتان/ مظهركَ منهكٌ كمثل مسافرٍ أعياه السفر الطويل".
هكذا، تتعدد النصوص والأصوات لشعراء عرب في باريس، إلا أن وجهتهم المكانية لا تزال تستعيد "تلك البلاد" التي غادروها فتظهر بين السطور وجعا وحنينا وأسئلة.