خالد الساعي لـ"المجلة": أردت أن ألبس القصيدة ثوب الجغرافيا

خالد الساعي

خالد الساعي لـ"المجلة": أردت أن ألبس القصيدة ثوب الجغرافيا

في صالة رشيد كرامي في طرابلس اللبنانية، عاصمة الثقافة العربية لعام 2024، أقيم معرض التشكيلي والحروفي السوري خالد الساعي، في شهر مايو/ أيار الماضي، الذي تضمن جدارية ضخمة لمدينة طرابلس، ستكون باكورة متحف للفن المعاصر في المدينة.

الساعي، المولود في حمص عام 1970، تخرج في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، ودرس في جامعة متشيغن بالولايات المتحدة الأميركية، وحصل على جائزة البركة الدولية للخطاطين المحترفين في الدورة الأولى في إسطنبول.

هذا المعرض الأخير هو الرابع والثلاثون للساعي، وله أكثر من عشرين جدارية، منها جدارية في البيت العربي في مدريد و"سوريا حديقة التاريخ" في "متحف بيرغامون" في برلين و"صمت اللغات" في أصيلة. "المجلة" حاورت خالد الساعي عن أعماله الأخيرة ورحلته الفنية والروحية في صحراء الإمارات، حيث يقيم.

  • المعرض في طرابلس، وأفكار الأعمال تمحورت حول الهجرة، المدينة المتخيلة وحديقة الحواس وكنوز المدينة، ما الأساس الذي اعتمدته لاختيار هذه الأفكار وهل لها علاقة بمدينة طرابلس كما تراها الآن أو عبر تاريخها؟

كانت تلك أسماء لبعض اللوحات، وقد استلهمت من مدينة طرابلس معظم العناوين للوحات التجريدية في المعرض، مثل "كنوز المدينة" والمقصود بها طرابلس، حيث كنوزها تأخذ عدة أشكال من الأوابد والآثار إلى التراث السمعي، وأهم من ذلك العلم، فلقبها مدينة العلم والعلماء وهذا بيت القصيد. عملت على استلهام عمارتها وهندسة بنيانها وشاطئها وألوانها في بعض الأعمال، ليأخذ الاستلهام عدة مستويات. ولا شك أنها شهدت هجرة بعض السوريين إليها وكذلك هجرات سابقة. تخيلت كيف كانت المدينة في الماضي، في أبهتها وفتراتها الذهبية واشتغلت على خطوط مستمدة منها، وهي لا تزال حاضرة في المدرسة القرطاوية (مدرسة وجامع وقت حكم المماليك) ومعظم التراث المملوكي والإسلامي والعربي.

الرسم أمام الناس مباشرة، مثل تجربة المسرح، تحصل فيه مفاجآت وانزياحات كثيرة

  •  تركزت اللوحات في معظمها على شعراء لبنان، جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وأنسي الحاج وغيرهم، ما الرسالة التي تريد إيصالها في هذا الوقت، في ظل الظروف التي يعيشها البلد؟

أردت لفن الخط وهو شكل اللغة، أن يتحاور مع المعاني الكبيرة لبعض قصائد شعراء لبنان الكبار عبر التاريخ. أردت أن ألبس القصيدة ثوب الجغرافيا، وأن تتواءم الكلمات مع الطبيعة، وحاولت استعارة ألوان طبيعة البلد من جبال وجروف وخضرة وبحر، أردت لكلمات القصائد أن تتحد مع عناصر الطبيعة فتصبح بدورها جزءا من الجغرافيا، لبنان التاريخ والحضارة والفن والطبيعة، أردت لها أن تنعكس في أعمالي، وعندما يراها المتلقي هناك سيشعر أن اللوحة هي مرآة بلده ونفسه. وفي الحقيقة لمست ذلك التفاعل مع فني من قبل الجمهور، إذ وكأنهم كانوا متلهفين لجرعة من الجمال واللون واللغة، يبدو أنهم وجدوها في أعمالي، الفن يمكنه أن يكون ترياقا وعلاجا وليس نزهة بصرية وحسب.

  • ما الجديد الذي قدمته في هذا المعرض؟

الجديد كان في انصهار الحرف في الطبيعة، وذوبان الطبيعة بين ثنايا الحروف. كما كان عمل الفيديو (كتبت لكن بماء) هو الإضافة الجديدة كليا. وهنا عليّ أن أثمن التعاون مع الفنان المبدع محمد بديع البوسوني، الذي حول عملي الفني إلى عمل فيديو في تقنيات متطورة ومتميزة، وقد عملنا على التصور البصري للفيديو معا، لكن هو من نفذه.

  •  رسمت في "متحف بيرغامون" في برلين لمدة شهر أمام الجمهور، ما خصوصية الرسم أمام الجمهور بدلا من أن يأتي الناس ويشاهدوا اللوحات بعد إنجازها؟

إن الرسم أو إنجاز العمل الفني أمام الناس مباشرة، مثل تجربة المسرح، تحصل فيه مفاجآت وانزياحات كثيرة وحتى إن الفنان لا يمكنه توقع النتيجة النهائية. فهي تخضع للتحاور مع نبض الحضور وبالتالي هناك مساحة للارتجالات والتغييرات في العمل يحددها مستوى التفاعل، وهي بدورها تضيف الكثير للمتلقي الحاضر، وللفنان نفسه.

فخلال معرض طرابلس الآنف الذكر، أنجزت الجدارية في ثلاثة أيام، وقد لازمني الحضور كل تلك الفترة، وشهدوا على التطور اللحظي ونضوج الجدارية خطوة بخطوة، وهنا تكمن الإفادة، إذ حضر عدد من طلبة الفنون وبعض الفنانين في مقتبل تجربة الفن، كما حضر وراقب عدد من الفنانين المرموقين أصحاب التجارب الفذة.

الصوفية

  • نرى أثر الصوفية في شتى مناحي الفنون، ماذا تمثل هذه التجربة لك؟

بصورة ما، عالم الحرف هو عالم مجرّد، تنوب فيه اللغة عن الواقع والأفكار والأحاسيس، وبالتالي تتخلص من المادة، أقصد ترتفع عن المادي وتتحول إلى فضاء تجريدي، وهذا أحد تجليات التجربة الصوفية، كما أن ممارسة الخط هي طقس عرفاني بامتياز، يتطلب تحضيرا نفسيا وبدنيا، فهي رياضة روحية تفضي إلى رياض الحرف وعوالمه كمن يدخل إلى عالم من التجليات.

الحرف أحد أهم عناصر التصوف ليس لأنه صورة الكلام فحسب، بل لأن له طاقة وتأثيرا كشكل ومدلول. كم كان الحرف مادة إلهام بالنسبة للمتصوفة وكم أسبغوا عليه من هالات التقديس. يقول النفري "أصحاب الحال يعبرون الحرف" فالحرف يحمل معنى نهاية وبداية، والحرف حافة وانتقال لبرزخ آخر. كم تغنى المتصوفة بالحرف وأكثر منهم الشعراء حتى صار الحرف كائن حري بالتغزل والمقاربات،"إذا ما التقينا للوداع حسبتنا، لدى الضم والتعنيق حرفا مشددا"...

عالم الحرف هو عالم مجرّد، تنوب فيه اللغة عن الواقع والأفكار والأحاسيس

هناك تماه عجيب بين التصوف والحرف، والحرف يقوم مقام المرء أحيانا، كما للحروف مقامات، توازي مقامات البشر (حسب ابن عربي).

تحدثت المستشرقة آن ماري شيمل عن العلاقة الوشيجة بين الحرف والتصوف والشعر، وكان ذلك المبحث مدهشا، فأصبحت الحروف مثل شيفرات عن الموجودات، ثم أصبحت الحروف بحد ذاتها عالما زاخرا، تقع عليه كل ظروف الكائن (واو الوصال، دال الدلال، صاد الصفاء، طاء الطهارة) حسب الحلاج، أما التوحيدي فيقول: "كنا حروفا عاليات لم تقرأ".

إسطنبول

  •  لدراستك في إسطنبول خصوصية، لا سيما في علاقة المدينة القديمة مع الحرف العربي، فشوارعها وأوابدها مليئة بالرسومات ولوح الخط العربي، حدثنا عن تلك التجربة وأثرها على عملك؟

تمثل تركيا إرثا كبيرا ومتسلسلا لزمن طويل عبر ثراء الإمبراطورية العثمانية، وهو ذو تأصيل في تدريس فن الخط وفنونه، وقد استمر ذلك بشكل متوارث عبر الأجيال، ضمن أطر مدرسية عريقة. فلا ننسى الزخم الكبير من الآثار الخطية هناك، كلها تمثل مدارس غنية ومراجع ساهمت في تعميق الوعي الفني والتاريخي لديَّ في فن الخط، لكن ثمة ملهمات من مصادر أخرى لعملي الفني من تركيا، ومنها الأدب، شعرا أكان أم رواية، مثل أشعار جمال ثريا وروايات أورهان باموق. ولا أنسى الموسيقى أيضا، لكن كل ذلك يشكل جزءا من تكويني الفني، على أن مصادر الاستلهام لا تقف على تركيا.  فهناك مشارب كثيرة تثري عملي.

خالد الساعي

  • عندما تدمج الحرف بالصورة وتزامن بينهما، ما الإضافة أو الهدف الذي تريد خلقه من هذا التزامن؟

سآخذ مثالين من أعمالي للإجابة عن السؤال، وهذا سيوضح لماذا أحتاج إلى الكولاج، أو الصور أحيانا، ولا أفعل في مواضع أخرى.

في "سوريا حديقة التاريخ" كانت المناسبة التوثيق في زمن الحرب، وذلك اقتضى بالضرورة أن أوثق بالصور لأماكن لم تعد موجودة، وكذلك لشخصيات وتفاصيل معمارية أو منتوجات فنية، كان من الضروري وجودها لتبقى وثيقة ثابتة، فبعض الأوابد محيت وزالت أو تعرضت لتدمير كبير، إذا كانت هناك ضرورة لتلك الاستحضارات دون أي استعارات.

لكنني عملت في موازاة ذلك على تخفيف وطأة مباشرة الصور، بتجريدية ورمزية الحرف، مثلا حمص رمزت لها بحرف الصاد (الصاد عين ومقلة، وحمص عين سوريا) والقنيطرة بحرف قاف (جبل قاف في تورية صوفية) والحسكة بحرف الكاف (حيث أنه حرف تحويلي من حيث ميكانيك اللغة) والمعروف أن هناك ظهرت أولى تقنيات الري والزراعة وتحويل الماء. حتى مرجعيات الحروف التي رمزت إلى المدن لم تكن موحدة المرجع.

المثال الثاني "صمتت كل اللغات" وهي من قصيدة للشاعر نوري الجراح، حتى الصورة لغة، بل لغة مباشرة، وبالتالي لا يمكن لها أن تحضر (حسب طبيعة عملي كفنان حروفي). حتى النص، كان واضح القراءة في عمق اللوحة ثم تفتت، ولم يعد ينتمي الى الحرف إلا من بعيد، بمعنى تلاشي اللغة وعدم جدواها، وهنا أظن أن بناء اللوحة يتفق ويتماهى مع المعنى.

هنا تأتي رمزية الصحراء حيث تغيب الاتجاهات وكذلك تختفي الموجودات والعناصر أو تتقلص

  •  اخترت عبارة للشاعرة الإسبانية خوليا كاستيليو موضوعا للوحة، هنا ليس فقط دمج خط مع صورة وإنما نتحدث عن دمج البيئة الشرقية مع البيئة الغربية، ما الأبعاد التي تحضر في اختيارك للعبارة موضوع اللوحة؟

كل لوحة توحي لي بشيء حسب موضوعها. في لوحة الشاعرة خوليا كان علي أن أستحضر الشرق والغرب معا. وكما هو معروف، هذا المفهوم مثل المد والجزر، كلما سطعت حضارة في طرف، جذبت إليها الطرف الآخر، وبالتالي هناك الكثير من المشتركات والمتبادلات بين الطرفين، فالأندلس حضارة آتية من الشرق، شعت في الغرب.

  • لوحة "مشوار في الصحراء" هي مشهد ذو جانبين، كيف تصف أثر الصحراء على عملك؟

إنها بمثابة رحلة روحية قد تحصل لأي إنسان وهي رحلة اتجاه تنقية الذات، رحلة نحو الصفاء، وهنا تأتي رمزية الصحراء حيث تغيب الاتجاهات وكذلك تختفي الموجودات والعناصر أو تتقلص، رمل وسماء فقط. وهذا له دلالة عميقة على التقشف والتنزه عن الماديات، هي رحلة خروج من الذات، وكذلك رحلة في أعماق النفس، وهي في كل الأحوال رحلة خارج الزمن. رمل الصحراء عندما يتشكل بفعل الرياح، ويستمر هذا الفعل إلى ما لا نهاية، فهو مثل اللغة، وهي تشكل نفسها، وتتجدد وتتنوع، واللغة تجريد.

font change

مقالات ذات صلة