موريتانيا من التهميش الاقتصادي إلى مائدة "السبع الكبار"

اكتشافات كبيرة للنفط والغاز تضع البلاد على خريطة الطاقة العالمية وتدخلها دائرة الاهتمام الغربي

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
طفل يتسلق جدارًا مغطى بملصقات صورالرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني بالقرب من مقر الحملة الانتخابية في وسط نواكشوط، 25 يونيو 2024

موريتانيا من التهميش الاقتصادي إلى مائدة "السبع الكبار"

لم تكن موريتانيا أكثر استقرارا وثراء قبل اليوم، فالبلد الصحراوي الواقع بين منطقة المغرب العربي شمالا، ودول الساحل الحبيسة شرقا، وأفريقيا الأطلسية غربا، والمصنفة ضمن الدول الضعيفة الدخل، أصبحت تتلقى أخبارا سارة عن اكتشافات مهمة من النفط والغاز، تؤكدها كبريات شركات الطاقة العالمية، التي أعلنت بداية الضخ التجريبي، والاستعداد للتصدير قبل نهاية السنة الجارية، في بلد اشتهر بالصيد البحري والمعادن وتجارة الجمال والحلى.

ظروف الانتخابات الرئاسية تبدو جيدة، تعزز حظوظ الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني للفوز بولاية ثانية، نهاية الشهر الجاري، بعد نجاحه في تثبيت الوضع الأمني، وتحسين أداء الاقتصاد ومعيشة السكان البالغ عددهم نحو 4,7 ملايين نسمة. وهي شروط لم تتوفر منذ الاستقلال قبل 64 سنة. وكان من نتائج غيابها تتالي محاولات الانقلابات العسكرية على مدى عقود، جعلت موريتانيا بلدا فقيرا ضعيفا اقتصاديا وسياسيا، غير مستقر أمنيا، وحلقة هامشية في معادلات إقليمية كبرى.

خريطة استثمار جديدة

دُعي الرئيس الغزواني الى حضور جانب من اجتماعات مجموعة السبع الكبار (G7) في بالي الإيطالية للمرة الأولى، مما وضع نواكشوط على قائمة الاهتمام الغربي بفضل موقعها الاستراتيجي، وتوفر مصادر مهمة من الغاز والطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر لديها، وهي موارد تحتاجها أوروبا والعالم الحر. تزامن ذلك مع إعلان بداية ضخ تجريبي للغاز الطبيعي من حقل "غراند تورتو" (سلحفاة أحميم أوفشور) الذي تديره شركتا "بريتيش بتروليوم"، و"كوسموس إنيرجي"، داخل الحدود الجنوبية الغربية البحرية المشتركة مع السنغال.

يتوقع أن يُحقق اقتصاد موريتانيا متوسط نمو بـ4,9% بين أعوام 2024-2026، وأن يبلغ 14,3% بعد 2025، مع بداية استغلال حقول النفط والغاز

صندوق النقد الدولي

ومن المتوقع تحصيل عائدات مهمة، ترفع الدخل القومي والفردي في هذين البلدين، وهو مفتاح خير لتسريع التنمية، وتوفير فرص عمل للشباب حيث تتراوح نسب البطالة بين 25 و30 في المئة. وتعزز الديمقراطية الناشئة ثقة المتعاملين الخارجيين، مما يفتح آفاقا واعدة للاستثمار الأجنبي، في وقت بلغت التدفقات الاستثمارية 2,58 مليار دولار في السنغال و1,14 مليار دولار في موريتانيا عام 2022، بحسب تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أنكتاد) 2023.

.إ.ب.أ

وترى دول مثل فرنسا وألمانيا وإسبانيا والمملكة المتحدة في موريتانيا والسنغال ودول أخرى في المنطقة، مصدرا محتملا للطاقات المتجددة، قد يعوضها جزئيا عن فقدان الغاز الروسي، ويساعدها في الانتقال الطاقي نحو الحياد الكربوني في أفق 2050، لما تزخر به سواحل المحيط الأطلسي الجنوبية من إمكانات، تسمح بإنشاء مزارع لطاقة الرياح، وأخرى شمسية، في منطقة شديدة الحرارة تصل إلى 50 درجة.

النفط والغاز الموريتاني

يتوقع صندوق النقد الدولي أن يحقق اقتصاد موريتانيا متوسط نمو بـ4,9 في المئة بين أعوام 2024-2026، وأن يبلغ 14,3 في المئة بعد 2025، أي بعد بداية استغلال حقول النفط والغاز، حيث ستمثل صادرات الغاز الطبيعي وحده 11,6 في المئة من الصادرات الإجمالية بنحو 2,5 مليون طن سنويا في المرحلة الأولى. ويتضاعف الإنتاج بعد ذلك إلى 5 ملايين طن سنويا في عام 2027، ويصل إلى 10 ملايين طن عام 2030.

إقرأ ايضا: الاستقطاب الجزائري- المغربي في العمق الأفريقي... المظاهر والأسباب

كما أنه من المرجح، بحسب تقارير متخصصة عدة، أن تعزز موريتانيا مكانتها كقوة صاعدة لانتاج الغاز  في السنوات المقبلة، باستغلال حقل "بير الله"، الذي يحوي مخزونا يقدر بـ80 ألف مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي، ويقع على مسافة 60 كيلومترا من حقول الغاز "السلحفاة أحميم" الذي تقدر احتياطاته بنحو 25 تريليون قدم مكعب من الغاز، يطلق عليه اسم "GTA" وهو على عمق 2850 مترا تحت سطح البحر، ويبعد نحو 115 كيلومترا عن السواحل. وأعلنت شركة "بريتيش بيتروليوم" التي تملك حصة 56 في المئة من المشروع، وصول منصة عائمة صنعت في الصين، وتم ربطها بأنابيب لنقل الغاز من الآبار البحرية إلى محطات التخزين، قبل شحنها على متن بواخر متخصصة في نقل الغاز.

تستعد موريتانيا للدخول إلى نادي الدول المنتجة لليورانيوم، مما يجعلها الثانية بعد النيجر في مجموع أفريقيا الغربية، من خلال استغلال منجم "تيريس" الذي زادت احتياطاته 55%

شركة "أورا إنرجي" الأوسترالية

وفقا لصندوق النقد الدولي، يتوقع أن ينمو الاقتصاد السنغالي 7 في المئة السنة الجارية، وأن يصل إلى 10 في المئة العام المقبل مستفيدا من عائدات 100 ألف برميل من النفط يوميا، و90 مليون قدم مكعب من الغاز مستخرجة يوميا من حقل "سانغومار".

وفي موريتانيا، سترتفع الإيرادات بفضل صادرات الغاز والنفط، ودخول حقول أخرى مرحلة الإنتاج، ومنها حقل "باندا" غير البعيد عن العاصمة نواكشوط، بمخزون أولي يقدر بـ1,2 تريليون قدم، بالتعاون مع شركة "غوغاز هولدينغ" الإماراتية. 

تفيد شركة "أورا إنرجي" (Aura Energy) الأوسترالية أن موريتانيا تستعد للدخول إلى نادي الدول المنتجة لليورانيوم، مما يجعلها الثانية بعد النيجر في مجموع أفريقيا الغربية، من خلال استغلال منجم "تيريس" (Tiris) الذي زادت احتياطاته 55 في المئة إلى 91 مليون رطل، قيمته السوقية 2,25 مليار دولار حاليا، قابل للتطوير على مدى 17 سنة. وهي ثروة كبيرة في بلد قليل السكان وبإمكانه إحداث تحول  كبير في واقع الاقتصاد المحلي.

مصادر هائلة من اليورانيوم والفوسفات والذهب        

وتصنف موريتانيا ضمن الدول التي تملك احتياطات مهمة من المعادن الدقيقة المطلوبة في الأسواق العالمية، مثل الحديد التي تحتل فيه المرتبة الثالثة قاريا وراء ليبيريا وجنوب أفريقيا، بحسب وكالة التصنيف الأميركية "فيتش سولوشنز" (Fitch Solutions). وصدرت موريتانيا 14 مليون طن من الحديد الخام عام 2023 وفقا للشركة الوطنية للصناعة والمناجم (سنيم)، التي تساهم بـ22 في المئة من الموازنة العامة للدولة، ونحو نقطة من الناتج المحلي الإجمالي سنويا. 

الآفاق الاقتصادية والاجتماعية لموريتانيا متفائلة على المدى المتوسط، ويتوقع ارتفاع النمو إلى 5% وتراجع التضخم إلى 2,5% في السنة الجارية، وتحسن ميزان المدفوعات بواقع 6,7% بين 2025 و2026، بفضل عائدات الغاز

البنك الدولي

كما تتوافر في موريتانيا مصادر هائلة من اليورانيوم والفوسفات والمنغنيز والزنك والنحاس والذهب والفضة، ومعادن أخرى تثير شهية مصنعي بطاريات السيارات الكهربائية، في مقدمهم الصين، التي حازت حصة الأسد في عدد من هذه المعادن في دول عدة، مكنتها من خفض تكلفة الإنتاج قياسا بالصناعات الأوروبية، بحسب تصريحات رئيس مجموعة "ستيلانتس"، كارلوس تافاريس. وقد يفسر اهتمام مجموعة السبع بدول أفريقية فقيرة، بالحاجة إلى تأمين إمدادات المواد الأولية بأسعار تفضيلية، في مواجهة التفوق الصيني في عالم صناعة عربات المستقبل. 

أ.ف.ب.

يرى البنك الدولي أن الآفاق الاقتصادية والاجتماعية لموريتانيا متفائلة على المدى المتوسط، ويتوقع ارتفاع النمو إلى 5 في المئة وتراجع التضخم إلى 2,5 في المئة السنة الجارية، وتحسن ميزان المدفوعات بواقع 6,7 في المئة بين 2025 و2026، بفضل عائدات الغاز، مما سيقلص عجز الموازنة إلى 0,2 في المئة، ويخفض المديونية إلى أقل من 47 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

دور إقليمي جديد 

وستنعكس هذه المؤشرات المالية ايجابيا على الوضع الاجتماعي لمعالجة الفقر والبطالة وتحسين خدمات الصحة والرعاية الاجتماعية، ورفع جودة التعليم التي لا تتجاوز حاليا 4,2 سنوات دراسية لكل طفل، وهي ضمن الأضعف في المنطقة. لكن هذا الواقع مرشح للتغيير إذا زادت الإيرادات وجرى تسخيرها للتنمية بشكل جيد. 

إقليميا، ظهرت موريتانيا أخيرا كمعادلة مهمة في صراع النفوذ داخل شمال أفريقيا بين الإخوة الكبار، الجزائر والمغرب، حيث تملك معهما حدودا مشتركة طويلة وأحيانا غير آمنة

وظهرت موريتانيا أخيرا كمعادلة مهمة في صراع النفوذ داخل شمال أفريقيا بين الإخوة الكبار، الجزائر والمغرب، حيث تملك معهما حدودا مشتركة طويلة وأحيانا غير آمنة. وامتد الدور الإقليمي إلى موضوع الهجرة السرية المتسربة من أفريقيا جنوب الصحراء، حيث تراهن أوروبا على موريتانيا للحد من نشاط جماعات الهجرة عبر المحيط الأطلسي في اتجاه جزر الكناري الإسبانية. وقام رئيس الحكومة بيدرو سانشيز بزيارة ثانية إلى موريتانيا في مطلع فبراير/شباط المنصرم، مباشرة بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة.

كما تدعم واشنطن حكومة موريتانيا وزودتها معدات متطورة ومسيرات ذكية، للتصدي للجماعات المتطرفة والإرهابية، المتسللة من دول الساحل الحبيسة القريبة، والتي تنشط فيها مجموعة "فاغنر" الروسية بعد خروج القوات العسكرية الأميركية من النيجر ومالي. وتنتمي موريتانيا إلى فضاء جغرافي فسيح يمتد من المغرب العربي شمالا، ودول الساحل شرقا، وأفريقيا الأطلسية غربا. ولها حدود مشتركة مع كل هذه التجمعات غير المتجانسة في كثير من الملفات والقضايا. 

.أ.ف.ب

اكتشاف واستغلال الغاز وصفته الرباط بالخبر المفرح في دول شقيقة قريبة يهمها تطورها وازدهارها، ومفيد للمضي قدما في بناء أنبوب الغاز بين نيجيريا والمغرب، مرورا بـ 13 دولة ساحلية بطول 5660 كيلومترا.

في المقابل تعتقد الجزائر أن اكتشاف الغاز في السنغال وموريتانيا لا يخدم مصالحها في الانفراد بإنتاج وتصدير الغاز إقليميا، ويحد من فرص بناء أنبوب آخر عبر الصحراء الكبرى يعبر ثلاث دول فقط على مسافة 4500 كيلومتر. فيما نيجيريا، البلد الغني بالغاز، متحمسة لمواصلة بناء الأنبوب البحري مع المغرب، لإقامة شراكة اقتصادية، وسوق كهربائية في غرب أفريقيا، ضمن مشروع أفريقيا الأطلسية، لتشكيل نواة مجموعة اقتصادية تمتد نحو أميركا اللاتينية، كنوع من الجنوب الثالث.

font change

مقالات ذات صلة