الانتخابات الأميركية: انقسامات حادة... وأمل

هل تشهد البلاد أعمال عنف في ضوء الشراسة والعصبية السياسية؟

المجلة
المجلة

الانتخابات الأميركية: انقسامات حادة... وأمل

حذر الرئيس السابق دونالد ترمب في مقابلة مع شبكة "فوكس نيوز" يوم 2 يونيو/حزيران، من احتمال اندلاع أعمال عنف إذا حُكم عليه بالسجن بتهمة الاحتيال في أعماله التجارية، قائلا: "عند نقطة معينة، يحدث الانهيار". وانتقد ترمب العملية القضائية، وانضم إليه حلفاؤه الجمهوريون في اتهام إدارة بايدن بأنها تستخدم المحاكم كسلاح ضد معارضيها.

لا ريب في تعصب كثير من أنصار ترمب له، فقد تضاعفت التبرعات المالية لحملته الانتخابية الرئاسية في اليوم التالي لإدانته في محكمة نيويورك. وردت لورا لومر، المحافظة المتشددة التي يتابع تعليقاتها مليون متابع تقريبا على منصة "X"، على إدانة ترمب بالمطالبة بإعدام قادة الحزب الديمقراطي بمجرد فوز ترمب في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني. أما عضو الكونغرس مارجوري تايلر غرين من جورجيا فشبهت ترمب بيسوع المسيح قائلة إن السلطات السياسية أدانت كليهما بتهم باطلة. كما قال أكثر من 40 في المئة من الأميركيين في استطلاعات الرأي إن ترمب سيكون– حتى بعد إدانته– مؤهلا لمنصب الرئيس. وقد يحكم عليه القاضي في محكمة نيويورك في جلستها المقررة يوم 11 يوليو/تموز، بالسجن مدة تصل إلى أربع سنوات بتهمة الاحتيال التجاري.

هل سترافق أعمال عنف جديدة هذه الانتخابات؟

بالإضافة إلى تهديد ترمب بالعنف إذا ذهب إلى السجن، فإنه يرفض أيضا احترام نتيجة الانتخابات بغض النظر عمن سيفوز. وقد قال لمجلة "التايم" في أبريل/نيسان الماضي إنه لا يمكن أن يخسر، إلا إذا كانت العملية الانتخابية نفسها مزورة. وحذر في تجمع سياسي في ميتشيغان شهر مارس/آذار من أن الشوارع ستشهد "حمام دم" إذا خسر. وغالبا ما يصف ترمب نفسه من سجنوا بسبب مشاركتهم في الهجوم على مبنى الكابيتول في 6 يناير/كانون الثاني بـ"الرهائن".

ولم يسبق لأي مرشح رئاسي أميركي أن هدد ضمنيا بالعنف إذا ذهب إلى السجن أو خسر الانتخابات، لكن الكثير من الخبراء يحذرون من أن خطر وقوع المزيد من العنف السياسي خطر حقيقي. وأشار استطلاع للرأي أجرته شبكة "بي بي إس" (PBS) الإخبارية ومنظمة "ماريس"، في مارس إلى أن 20 في المئة ممن شملهم الاستطلاع قالوا إن استخدام العنف قد يكون ضروريا لإعادة أميركا إلى المسار الصحيح. ووافق 28 في المئة من الجمهوريين الذين شاركوا في الاستطلاع على استخدام العنف. وقالت جولييت كايم، المساعدة السابقة لوزير الأمن الداخلي في إدارة الرئيس أوباما، لشبكة "CNN" في أبريل، إن ترمب وفريق حملته كانوا متناغمين في التهديد بالعنف، لكن الحكومة الأميركية ليست مستعدة لتمرد آخر كالذي حدث في 6 يناير 2021.

أظهرت استطلاعات للرأي في السنوات الأخيرة أن ما بين 10 إلى 30 في المئة من الأميركيين يقولون إنهم سيقبلون استخدام العنف لإصلاح أزمة سياسية داخلية في أميركا

وفي يناير، حذر موقع النزاع المسلح ومشروع بيانات الأحداث (ACLED)، الذي يراقب العنف السياسي في جميع أنحاء العالم، من أن الميليشيات اليمينية في أميركا ستستخدم الانتخابات لتجنيد وتعبئة أعضاء جدد. ويرى التقرير أن الادعاءات بتزوير الانتخابات الجديدة عام 2024 يمكن أن تحشد المتطرفين اليمينيين وعلى الأخص في ولايات أريزونا وبنسلفانيا وويسكونسن التي يحتاج كلا المرشحين للفوز بها من أجل الاستيلاء على المكتب البيضاوي. كما أظهر استطلاع للرأي أجرته وكالة "بلومبرغ نيوز" في مايو/أيار أن نصف الناخبين في هذه الولايات الثلاث وأربع ولايات انتخابية حيوية أخرى يشعرون بالقلق من وقوع أعمال عنف بعد إعلان نتائج الانتخابات.

بيد أن استطلاعات الرأي هذه التي تشير إلى أن عددا كبيرا من الأميركيين قد يستخدمون العنف السياسي ليست بالأمر الجديد. فقد أظهرت استطلاعات أخرى في السنوات الأخيرة أن ما بين 10 إلى 30 في المئة من الأميركيين يقولون إنهم سيقبلون استخدام العنف لإصلاح أزمة سياسية داخلية في أميركا. والأمر المختلف الآن أن عدد الجماعات اليمينية المتشددة قد تزايد إلى حد كبير.

وفي وقت سابق من هذا الشهر أفاد مركز قانون الفقر الجنوبي، الذي يتتبع منذ عقود من الزمن جماعات الكراهية والتفوق الأبيض، أن عدد هذه الجماعات زاد بأكثر من الضعف منذ عام 2021 ليصل إلى 1400 مجموعة في جميع أنحاء البلاد. ويتسم انتشار الجماعات المتطرفة بأهمية خاصة، لأن هجمات الحزب الجمهوري على النظام القضائي ساعدت في تقويض شرعية المحاكم وشجعت المزيد من الأميركيين على محاولة حل النزاعات بالعنف.

وفي الوقت نفسه، تحذر الأوساط المحافظة في الولايات المتحدة من أن الجماعات اليسارية المتطرفة هي التي تشكل التهديد الرئيس في مسألة العنف السياسي. وكتبت بروك رولينز، رئيسة معهد "السياسة الأميركية أولا"، الذي يضم في عضويته الكثير من المسؤولين السابقين في إدارة ترمب، في مجلة "أميركان مايند" في مايو/أيار أن احتجاجات غزة في الجامعات الأميركية ليست إلا أحدث مثال على الترهيب اليساري. وقالت إن العنف اليساري يأتي دائما في عام الانتخابات ويسعى إلى خلق الفوضى وإلى التمرد في نهاية المطاف. ورفضت أن اليمينيين هم الخطر، قائلة إنه لم يضطر أي عمل تجاري إلى الإغلاق بسبب الخوف من سياسات الحزب الجمهوري. وتشبه اتهاماتها إلى حد كبير اتهامات الديمقراطيين الذين يحذرون من أن الحزب الجمهوري يشكل تهديدا للديمقراطية الأميركية.

 الاستقطاب أصبح أسوأ

أظهر مسح للرأي العام أجرته شركة "يوغوف" أواخر مارس وأوائل أبريل، أن العداء بين مؤيدي الحزبين الديمقراطي والجمهوري زاد في العام الماضي. وأظهر الاستطلاع الذي أجرته هذه المنظمة في ربيع 2023 أن 69 في المئة من أعضاء الحزب الديمقراطي كان رأيهم سلبيا في الحزب الجمهوري، لكنه بعد عام بلغ 85 في المئة. وبالمثل، أظهر الاستطلاع الذي أجرته عام 2023 أن 74 في المئة من الجمهوريين كان رأيهم سلبيا في الديمقراطيين، وبحلول عام 2024 ارتفعت هذه النسبة إلى 88 في المئة.

إن المنافسة الحادة أمر طبيعي في السياسة الأميركية، ولكن اللغة أصبحت الآن متطرفة على نحو خاص. وتستهدف الهجمات شخصية الخصم بقدر ما تستهدف الخلافات السياسية. فدونالد ترمب لم يستخدم أبدا لغة سياسية معتدلة، لكنه ادعى في مايو أن بايدن فاسد و"غبي مثل الصخرة". وانتقد ترمب بايدن بسبب عمره وتلعثمه في الكلام، وهو مرض يعاني منه بايدن منذ طفولته لكنه تغلب عليه إلى حد كبير.

من المعروف تقليديا في الحملات الأميركية أن الرئيس لا يهاجم شخصية خصمه ويركز بدلا من ذلك على نقد رؤيته لمستقبل أميركا، إلا أن بايدن كسر هذا التقليد هذا العام

كما أن حلفاء ترمب السياسيين متطرفون مثله في هجماتهم على الحزب الديمقراطي. فقد صرح رئيس مجلس النواب مايك جونسون من ولاية لويزيانا لجمعية المحامين الجمهوريين الوطنية في يونيو بأن الحزب الديمقراطي يزدري المبادئ الأساسية للحكومة والمجتمع الأميركيين، وأن جناحه اليساري والمتشددين فيه يريدون خلق "حكومة ماركسية على نمط الاشتراكية الأوروبية"، ستدمر الديمقراطية الأميركية. ولعل الرئيس الفرنسي ماكرون والمستشار الألماني شولتز يرفضان تأكيد أرفع زعيم للكونغرس على أن فرنسا وألمانيا دولتان ماركسيتان، لكن المحامين الخاصين بالحزب الجمهوري أشادوا بحماسة بخطاب جونسون.

 كما يهاجم الرئيس بايدن والديمقراطيون ترمب ويكيلون له الضربات بشدة. ومن الطبيعي أن ينتقد المرشح لمنصب نائب الرئيس الجانب المنافس في الانتخابات الرئاسية، لهذا وصفت كاميلا هاريس ترمب بالغشاش الذي لم يسعده أن يقبض عليه، وقالت ذلك في تجمع سياسي في ميتشيغان أوائل يونيو/حزيران. ومن المعروف تقليديا في الحملات الأميركية أن الرئيس لا يهاجم شخصية خصمه ويركز بدلا من ذلك على نقد رؤيته لمستقبل أميركا، إلا أن بايدن كسر هذا التقليد هذا العام. فشدد في حفل لجمع التبرعات في ولاية كونيتيكت أوائل يونيو، على أن ترمب هو أول مجرم مدان يترشح للرئاسة وأنه شخص "متهور" لمهاجمته النظام القضائي. كما زعم بايدن أن ترمب أصيب بانهيار نفسي بعد خسارته انتخابات 2020 وهو الآن رجل خطير.

العصبية السياسية تشكل خطرا

تتسبب هذه الهجمات المتبادلة المستمرة في إبعاد كثير من الأميركيين عن العملية الانتخابية وتعكس في الوقت عينه خلافات عميقة بين الشعب الأميركي حول مستقبل البلاد. فقد كشف استطلاع للرأي أجرته منظمة "Pew" في يونيو عن فجوات واسعة بين الديمقراطيين والجمهوريين، وبين الشباب وكبار السن، وبين الحاصلين على تعليم عالٍ وأولئك الأقل تعليما، وبين الأميركيين من مختلف الأعراق. وتتراوح هذه الاختلافات من العلاقة بين دور الدين والحكومة إلى الإجهاض القانوني، والسيطرة على الأسلحة، والعلاقات العرقية، والهجرة.

على سبيل المثال، أظهر الاستطلاع أن 63 في المئة من مؤيدي ترمب يفضلون سياسة وطنية لطرد المهاجرين الذين وصلوا إلى البلاد دون موافقة حكومية مناسبة قسرا. وفي المقابل، تهبط هذه النسبة بين مؤيدي بايدن إلى 15 في المئة فقط. بدلا من ذلك، يعتقد 85 في المئة من مؤيدي بايدن أنه يجب السماح للمهاجرين الذين لا يحملون وثائق مناسبة بالبقاء في الولايات المتحدة، بينما يدعم 56 في المئة مسار الحصول على الجنسية. ويتهم كل طرف الآخر باستغلال قضية الهجرة غير الشرعية لتحقيق مكاسب سياسية. وتظهر هذه الديناميكية أيضا في قضية الإجهاض، خاصة بين النساء الديمقراطيات. ففيما وجد الاستطلاع أن 88 في المئة من مؤيدي بايدن و62 في المئة من إجمالي الجمهور الأميركي يريدون السماح القانوني بالإجهاض. يؤيد 31 في المئة فقط من ناخبي ترمب السماح بالإجهاض القانوني المحدود.

الانقسامات الحزبية تمثل الآن انقسامات ثقافية أكثر منها اختلافات سياسية

وقد تحرك كلا الحزبين السياسيين لاستغلال هذه الانقسامات الاجتماعية. وبثت حملة الرئيس بايدن إعلانا تلفزيونيا يظهر أماً من الطبقة المتوسطة وابنتها تهربان من الشرطة في ولاية يسيطر عليها الجمهوريون للوصول إلى ولاية مجاورة يسيطر عليها الديمقراطيون لإجراء عملية إجهاض. ويهدف هذا الإعلان إلى إثارة الخوف وتعبئة النساء للتصويت للديمقراطيين. وفي الوقت نفسه، تسلط إعلانات الحزب الجمهوري الضوء على "غزو" المهاجرين غير الشرعيين.

ولعل الانقسامات الحزبية تمثل الآن الانقسامات الثقافية أكثر من الاختلافات السياسية. وقد قالت المؤرخة دوريس كيرنز غودوين، التي نشرت مؤخرا كتابا عن المشاكل السياسية الأميركية في الستينات والسبعينات، لشبكة "CNN" في أوائل يونيو/حزيران إن الأميركيين منقسمون الآن ليس بسبب القضايا، بل بسبب الهويات السياسية والثقافية.

وتذكرت أن جورج واشنطن نفسه حذر في عام 1796 من أن هذا النوع من القبلية السياسية بمكن أن يهدد الاستقرار الأميركي. وكثيرا ما تذكر المواقف السياسية الحالية، والانتهازية، والتصريحات الخطابية في أميركا المراقبين بالمنافسة بين الساسة الإسلاميين والعلمانيين في الجزائر في الفترة من عام 1989 إلى عام 1993.

لدرء حرب أهلية جديدة       

وأشار استطلاعان للرأي أجريا في أبريل/نيسان ومايو/أيار إلى أن أكثر من أربعين في المئة من الأميركيين يعتقدون أن حربا أهلية جديدة على وشك الوقوع.

وقالت المؤرخة آن كوكس ريتشاردسون لشبكة "PBS" في أكتوبر/تشرين الأول الماضي إن الولايات المتحدة تقف "على حد السكين". ولعل من المناسب على أي حال أن نذكر أن هذين الاستطلاعين أجريا مباشرة بعد صدور فيلم هولِيوودي جديد عن حرب أهلية متخيلة في أميركا. علاوة على ذلك، فإن نسبة أكبر من المشاركين في كلا الاستطلاعين استبعدت احتمال نشوب حرب أهلية.

رويترز
صورة المرشح الرئاسي عن "الحزب الجمهوري" دونالد ترامب (إلى اليسار) والمرشح الرئاسي عن "الحزب الديمقراطي" الرئيس الحالي جو بايدن، 27 يناير 2024

 

الجمهوريون الأصغر سنا أقرب من الجمهوريين الأكبر سنا إلى وجهات نظر الديمقراطيين بشأن القضايا الحساسة مثل الهجرة والإجهاض

ومع ذلك، فثمة من بين المحللين من يعتقد أن أميركا ليست قريبة من الحافة كما قد يبدو. وحتى ريتشاردسون نفسها ذكرت أن الحرب الأهلية الجديدة ليست حتمية. وتشير دراسات أجراها شون ويستوود، الأستاذ في جامعة دارتموث، إلى أن الكثير من الأميركيين الذين يمكن أن يعبروا عن دعمهم للعنف في استطلاعات الرأي من غير المرجح أن يقوموا هم أنفسهم بمثل هذه الأعمال. ولا بأس من التذكير مجددا بأن الأميركيين الأصغر سنا أقل استقطابا حول الحزبين السياسيين الرئيسين. وفي ذلك، يسلط عالما السياسة سالي فريدمان وديفيد شولتز الضوء على الأبحاث التي تظهر المزيد من الإجماع بين الأميركيين الذين ولدوا بعد عام 1982 بشأن القضايا الاجتماعية. ويدعم استطلاع الرأي الذي أجراه مركز "بيو" (Pew) للأبحاث في يونيو هذه النقطة، حيث كشف أن الجمهوريين الأصغر سنا أقرب من الجمهوريين الأكبر سنا إلى وجهات نظر الديمقراطيين بشأن القضايا الحساسة مثل الهجرة والإجهاض. ويتوقع فريدمان وشولتز أن الاستقطاب في الولايات المتحدة قد يتضاءل في العقود المقبلة مع اكتساب هذه الأجيال الجديدة المزيد من السلطة السياسية.

أما في المستقبل القريب، فسيكون السباق الانتخابي في نوفمبر/تشرين الثاني القادم بين بايدن وترمب متقاربا للغاية، والهجمات الحزبية السياسية شرسة، ومخاطر وقوع حوادث عنف سياسي محلية مرتفعة، خاصة مع احتمال الحكم على ترمب بالسجن في 11 يوليو/تموز.

font change

مقالات ذات صلة