في بدايات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وحتى إلى وقت متأخر من اندلاعها، حاولت إيران أن تبقى في الظلّ فلا تندفع إلى الحرب ولا تُدفع إليها، وهي لذلك تبنت سياسة دبلوماسية وإعلامية مؤداها أن لا تظهر بمظهر المنكفئ تماما عن دعم "حماس"، و"جبهات الإسناد". وفي الوقت نفسه لا تبدو وكأنها تدير المعركة عن بُعد من خلال توجيه وكلائها من الخلف. وقد ترجم وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان هذه السياسة بدقة قبل أن يودي حادث المروحية الرئاسية بحياته.
لكن حتى قبل رحيله، فإن الأدبيات الإيرانية في التعامل مع الحرب كانت قد بدأت بالتبدل إذ تراجع التركيز على استقلالية وكلاء طهران في إدارة "جبهات المساندة"، ولاسيما بعد إلزام القيادة الإيرانية للفصائل العراقية الموالية لها بالتوقف عن مهاجمة "المصالح الأميركية" بعد الهجوم على قاعدة التنف يوم 4 يناير/كانون الثاني الماضي ورد الفعل الأميركي عليه، والذي كاد أن يتوسع لولا إبداء طهران استعدادها لضبط وكلائها العراقيين والالتزام بالخطوط الحمراء الأميركية.
لكن ما سرى على الفصائل العراقية لم يسر على "أنصار الله" في اليمن ولا على "حزب الله" في جنوب لبنان اللذين واصلا "إسنادهما" لغزة، مع العلم أن الوتيرة المتصاعدة للمواجهات بين "حزب الله" وإسرائيل عبر الحدود اللبنانية الإسرائيلية كادت أن تحوّل هذه الجبهة إلى الجبهة الرئيسة في المنطقة، فتنقلها من جبهة "إسناد" واستنزاف إلى حرب شاملة "بلا سقوف وضوابط" كما قال الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله في خطابه الأخير يوم الأربعاء الماضي. بيد أن المتغير الأهم في ما يتصل بـ"جبهات الإسناد" وبالأخص جبهة جنوب لبنان هو التحوّل في سياسة إيران، من إظهار التحفظ والحذر وعن قصد في تبني قرارات وكلائها في هذه الجبهات وبالأخص "حزب الله"، إلى الصمت حيال هذه الجبهات والتخلي عن التركيز على استقلالية ميليشياتها فيها.
في الواقع إن المنطقة إزاء تعامل إيراني مختلف مع الحرب في غزة والجبهات الموازية، وهو ما أمكن ملاحظته في خطاب "المرشد" الإيراني يوم 3 يونيو/حزيران الجاري، والذي "بارك" فيه عملية "طوفان الأقصى" كما دعا "حماس" إلى رفض مقترح الرئيس الأميركي جو بايدن، ولم يكن قليل الدلالة أن يربط "المرشد" توقيت هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بأهداف على مستوى المنطقة ككل وليس في نطاق الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وهو ما يؤشر إلى اندفاعة سياسية إيرانية في ما يخص التعاطي مع الحرب وتداعياتها الإقليمية، أي إنه دخول إيراني مباشر على خط الصراع ليس ذلك الدائر في غزة وحسب بل على مستوى الإقليم كله، وهو ما يشكل حيزا رئيسا من الربط المحكم بين مستقبل الحرب في غزة ومستقبل خريطة النفوذ الإقليمي والدولي في المنطقة.