من يتصوّر أن الدولة السعودية تجني أرباحا من وراء الحج هو في حاجة إلى إعادة النظر والحسابات المالية أيضا، إن كان يريد الوصول إلى الحقيقة فعلا، وليس منخرطا في دعاوى أحد أطراف تسييس الحج. ما يدفعه الحاج في بلده أكثر بكثير مما قد ينفقه في مكة والمشاعر. الواقع هو أن السعودية تنفق أضعاف ما ينفقه الحجاج على أرضها، لإنجاح الموسم. فالخدمات الصحية وحدها تكلف الدولة مليارات، وفي كل سنة هناك استنفار كامل للأجهزة الأمنية التي تعمل ليل نهار للحفاظ على سلامة الحاج، وسلامة أهل مكة أيضا. خصوصا مع الشغب الذي تفتعله بعض الدول أحيانا. ولا يتوقف الأمر عند الأجهزة الرسمية، بل هناك العمل التطوعي الذي يقوم به سكان مكة وتشرف عليه الدولة.
منذ عقود طويلة والدولة تدعو إلى التزام عملية تنظيم الحج بحيث لا يزيد العدد كثيرا عما تقرر، ولا من مجيب. فمنطقة المشاعر المقدّسة، منى وعرفات والمزدلفة، صغيرة جدا في مقابل من يرغبون في تأدية الشعيرة. هذه المعلومة البسيطة نحن في حاجة إلى مزيد من الجهد لإقناع المسلمين بها لكي يقبلوا بفكرة التنظيم ويساهموا في إنجاحها. في بعض السنوات الماضية ناهز عدد الحجاج قرابة ثلاثة ملايين حاج. كيف يمكن اجتماع هذه الأعداد في هذا المكان الصغير مساحة، الكبير لما يعنيه للمسلمين. ناهيك عن سهولة انتقال الأمراض في هذا التجمع الكبير المزدحم، ولولا المراكز الصحية المنتشرة في كل مكان في المشاعر لزادت نسبة الوفيات أكثر مما هو واقع.
الحصول على التصريح النظامي بالحج يحل كثيرا من هذه المشكلات ويخلي مسؤولية الحجيج، لكن مع الأسف لا أحد يلتزم، وإذا خاطبت أحدا في هذا سرد عليك الأحاديث في فضل الحج، ضاربا بعرض الحائط كل التوصيات والتوجيهات التي لم تُكتب إلا لمصلحة العموم.
خدمة الحجيج شرف اختصّ به أهل هذا الوطن ولن يتنازلوا عنه أبدا
هذه السنة فوجئ الجميع بالكم الكبير من الحجاج الذين لم يستخرجوا تصريحا بالحج، سواء من السعوديين أو من الجنسيات الأخرى ممن قدموا بتأشيرة عمل أو زيارة من المقيمين في السعودية. السعودي المخالف أهون ضررا لأنه يحسن الحركة في المشاعر، كأن يستأجر شقة خارج المشاعر ويقضي بعض الوقت في منى ثم يعود لينام في المكان الذي استأجره. ومع هذا لا أبرؤه من الوقوع في خطأ المخالفة، لأن عدم التزامه بالنظام يجعله قدوة عند آخرين. أما بقية الحجاج الذين قدموا من دون تصريح وليسوا بطبيعة الحال مع حملة يقيمون في خيامها، فأين يقيمون في تلك الأيام؟ إنهم ينامون في الشوارع وعلى الأرصفة وتحت شمس تصل درجتها العليا إلى 45 وربما تزيد. بطبيعة الحال سيكون هناك وفيات، خصوصا بين المرضى وكبار السن.
هناك دعوى يرفعها البعض من حين لآخر، مفادها أن مكة والمدينة والمشاعر يجب أن تكون تحت إشراف دولي إسلامي، ومع الأسف يوجد من العرب من يتحمس لهذه الدعوى. وجوابنا الذي لن نحيد عنه أبدا هو أن مكة والمدينة وإن كانت لهما مكانة دينية لا خلاف عليها عند كل المسلمين، إلا أنهما مدينتان سعوديتان، هما جغرافيا وسياسيا من ضمن حدود هذا الكيان السياسي المجيد، المملكة العربية السعودية، وخدمة الحجيج شرف اختصّ به أهل هذا الوطن ولن يتنازلوا عنه أبدا. ولذلك حبذا لو خففت الأطراف المعنية من حماسها الذي لن يوصلها إلى شيء.